انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 855/صور من الحياة:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 855/صور من الحياة:

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 11 - 1949



ركن يتداعى

للأستاذ كامل محمود حبيب

لست أنسى - يا صاحبي - أنك كنت لي في ميعه الصبا رفيق الروح في وحدة الحياة، وأنيس القلب في وحشة العمر، ونور النفس في ظلام العيش!

لقد كنت آن ذاك فتى مدنيّ النشأة والمزني، تختال في الصحة وترفل في العافية، وتتألق على وجهك سمات النعمة وتبدو على جبينك علامات السعة؛ لا تعوزك المتعة الرخيصة ولا تفتقر إلى اللذة التافهة. وأبوك صائغ ماهر يصوغ من الذهب الدور والأطيان. والصائغ ساحر ينفث في العقد ليخلق لنفسه الثراء والغنى؛ غير أنه مبتلى بالشح، مرزأ بالكزازة، يعروه الجزع من الإنفاق، ويدهمه الخوف من البذل: طبيعة ركبت فيه لأنه يرى الكنز بين يديه وهو يتلألأ بريقاً بخطف البصر والقلب، فيشفق أن تبدده لوثة الكرم أو أن يبتلعه داء السخاء. وهكذا كان أبوك - يا صاحبي - صائغاً يصوغ الثروة ويضن بها على نفسه وعلى أولاده، فما تبض يده بالقرش ولا ينبض قلبه بالشفقة. فأصابك بعض قسوته وبخله. وأحسست أنت بغلظة أبيك دون شحه، لأن أمك كانت إلى جانبكن فاعتراك تكسر وفتور من طول ما دعّك عن نفسه وعن مجلسه فنفرت من دارك وأهلك.

أما أنا فكنت فتى ريفي الطبع قروي المزاج، أسترسل في سذاجة وآخذ في قوة وأدفع في عنف، وأنا إذ ذاك قريب عهد بالمدينة، لم تمسني رخاوة المدينة ولا شملتني طراوة الحضارة. أعيش وحيداً في حجرة وضيعة، أحس الشظف والضياع، لا أجد الرفيق ولا المس الراحة، أتقلَّب بين عناء الدرس وعنت الحياة فلا أتململ ولا أضيق، وأتنسم ريح القرية - بين الحين والحين - على أجد فيها بلاغاً، وانتظر هبّات عطف أبي - بين الفينة والفينة - عسى أن أنشق فيها عطر الشفقة. فتعلمت في وحدتي أول مبادئ الصبر والأنفة، فلقنت من فاقتي أول تعاليم الترفع والكبرياء.

واطمأن قلب إلى قلب، وسكنت نفس إلى نفس، فانطلقنا معا ً - جنباً إلى جنب - نجتاز مراحل الدراسة في غير وناء ولا بطئ، صديقين عاشا في صفاء لم يعكره خصا ولا شابه تدابر، وأنطوت الأيام.

وتخرجت - يا صاحبي - في مدرستك لتصير موظفاً في وزارة الأشغال، وانفلت من شبح أبيك وقسوته لتنشق - لأول مرة - عبير الحرية والخلاص، ثم اخترت لحياتك فأصبحت - بعد سنوات - زوجاً وأباً ورب أسرة. أما أنا فقد طوحت بي الحياة في مطارحها، لا أستقر في مكان إلا لأفزع عنه، ولا أهدأ في بلد إلا لأطير عنه. فصرفتني شواغل العيش عن أن أراك وأنا لا أنسى أنك كنت لي في ميعه الصبا رفيق الروح في وحدة الحياة، وأنيس القلب في وحشة العمر، ونور النفس في ظلام العيش.

ثم هفت نفس إليك - بعد عمر من عمري - فانطلقت، فرأيتك رجلاً تتوثب قوة فقوة، وتفيض بشراً وسرورا، يلمع الأمل في ناظروك ويبسم الرضا من نضارتك، وبين يديك صغار يرفون حواليك كالأقمار رونقاً وبهاء، يملأن الدار جمالا وسعادة، ويفعمون قلبك بالغبطة والبهجة. أما زوجك فكانت روح الدار وريحانها.

وحين دخلت دارك، أحسست أنك تسعد هناك بروح الجنة على ثرى الأرض، وأنك تنعم بلذة الخلد في فناء الحياة، وشعرت أنا بأن لأعزب رجل تافه خسر بهاء الدنيا ورونق الأسرة.

ثم ضربت الأيام بيني وبينك - مرة ثانية - فوجدت فقدك في قرارة نفسي ولكن قلبي كان ينبض بالرضا والطمأنينة لأنه رأى دارك تنهق بالسعادة والرفاهية.

وتناهى إلي - بعد سنة واحدة - أنك تطب لمرض ألمّ بك فتاقت روحي إليك، لعليأستطيع أن أرفه عنك بلاء الداء. أو أزيح صفعات الألم. وحين وجدت السبيل إليك، اندفعت أنت تحدثني حديثك، فقلت: (. . . وذهبت أفتش عن دواء لدواء عيني عند طبيب من ذوي الرأي والتجربة. ووجد الطبيب فيّ ضعفاً فاستغله فتهدّم عليّ يستنفد وفرى ويبتلع مالي. وطالت بي مدة العلاج، وللطبيب أسلوب فيه الخديعة والأمل، يستر من ورائه أفنان من الجهل والجشع، وأنا لا أجد معدي عن أن أستسلم في خضوع وأنا أستخذى في ضعف. ثم ارتفعت عن عيني يد الطبيب ففزعت إذ أحسست بأن نور عيني يوشك أن ينطفئ فتظلم الحياة في ناظري إلى الأبد؛ ولكن الأمل كان يعاودني آنا فإنا، لأنني كنت أرى بصيصاً من نور يكشف لي الطريق، فطرت - بعد لأي. إلى الطبيب أستجديه وأستعينه فوضع يده - مرة ثانية - ثم رفعها فإذا أنا أعمى قد كف بصري (آه، يا صاحبي! لقد أنهار كياني وأنهد عزمي وتداعى ركني وأصابتني البلوى في الصميم من قلبي، وفي العزيز من روحي، واعتراني اليأس والأسى، وآذاني ما انتهيت إليه. فكنت أنطلق إلى حجرتي وحيداً أنخرط في بكاء مر طويل، وأنا أشفق على أولادي أن تصفعهم النكبة فتخبوا فيهم جذوة الحياة، وتخمد روح السعادة في الدار، ويعصف بنا الذل ويقتلنا الضنى وتذهب بريحها الفاقة، فكتمت الأمر في قلبي وفي قلب زوجي.

(وثارت ثائرتي - ذات مرة - فانطلقت إلى الطبيب، برفقة زوجي، أريد أن أثأر لنفسي. وحين اندفعت إليه أحاول أن أنشب أظافري في عنقه أنفلت من بين يدي فارتطمت بالجدار فسقطت وأنا أصرخ في غيض وكمد لأنني لم أشف غلة نفسي.

وانطوت الأيام وأنا أعالج لوعة نفسي بالصبر، وآسو جراح قلبي بالتأسي، غير أنني كنت أفزع لكل نأمة وأجزع من كل صوت وأهرب من كل صديق. ورقت مشاعري فلازمني الصمت والبكاء. . . ثم عافت نفسي أن تنزل عن كبريائها، وأنا من بيت دين وورع، يرتفع عن الاستخذاء في البلوى ويسمو على الضعف في الرزء، فأمسكت على مضض وابتسمت على لوعة وأسلستُ على بثّ.

(ثم وقعت بين فكين من الحياة فيهما الغلظة والجفوة، فأنكرني رفاقي في غير رحمة، وفزع عني ذوو قرابتي في غير شفقة أما الحكومة فكانت الداء العياء والبلاء الأكبر، فلقد طردتني من عمل لا أمل فيه ودَّعتني عن مكان لا أصبو إليه، لم ترحم صبيتي ولا أشفقت على ضعفي، فسلبتني راتبي ومنعتني حقي ونبذتني إلى الشارع.

(وفي ذات مساء جاء ساعي المدبر يعتذر بلسان سيده البك عن ما سطرته يد السيد في خطاب الرفت. ورآني الساعي في محنتي فأنكب على يدي يقبلهما في عطف، ويبللهما بدموع المحبة والإخلاص. . . دموع الرقة والإنسانية، فانهمرت عبراتي، انهمرت لأنني ألفيت في الساعي كرماً وشهامة على حين انطوى قلب سيدة البك على ضعة وسفالة).

وثارت شجون صاحبي فماتت الكلمات على لسانه. . . سكت وجبينه يرفض عرقاً لأنه يحاول أن يكتم نوازع نفسه عني وهي تضطرم في عنف وشدة. . . على حين أني لم أنس أنه كان لي في ميعه الصبا رفيق الروح في وحدة الحياة، وأنيس القلب في وحشة العمر، ونور النفس في ظلام العيش.

وأنتفض قلبي في حرقة وأسى. . . أنتفض لأنني رأيت صغاراً يرفون حوالينا كالأقمار رونقاً وبهاء، فماذا. . . ماذا تخبئ لهم الأقدار، يا قلبي؟

كامل محمود حبيب