مجلة الرسالة/العدد 855/أهل العلم والحكم في ريف فلسطين
مجلة الرسالة/العدد 855/أهل العلم والحكم في ريف فلسطين
للأستاذ أحمد سامح الخالدي
يرى المتتبع لتاريخ فلسطين، أن الريف كان شاهداً لكثير من المعارك والحوادث الجسام. وقد ضمنت تربيته المقدسة رفات الكثيرين من الصحابة والتابعين الأكرمين.
وفد رأينا أن نسجل على صفحات مجلة الرسالة الغراء ما عثرنا عليه في المصادر العربية، مما يجهله الكثيرون.
ونرجو أن يتسع المجال لنشر ما توصلنا إليه فيرى القراء الكرام، ما أخرجه هذا الريف من رجال العلم والحكم في مختلف العصور، وما تغنى به فحول الشعراء منذ القرن الهجري الأول حتى زوال الدولة العثمانية.
وقد شهد هذا الريف (أجنادين) و (طاعون عمواس) و (ومقتلة الايوبيين) عند نهرأبيفطرس (العوجا) و (حطين) التي هزم فيها الإفرنج، (وعين جالوت) التي قضى فيها على التتار، إلى غير ذلك من الحوادث والمعارك الفاصلة في التاريخ العربي
على أن الريف قد حرك خيال الشعراء، فكان لشعر جرير والمتنبي، وليلى الأخيلية، وجميل، منه نصيب أي نصيب.
ونحن نعلم ونحن نكتب هذه السطور أن بعض الجهلة والمغرضين من الكتاب، والخصوم، قد شوهوا جمال هذا الريف، وقللوا من شأنه كما نعلم أن أهله قد نسوه ونبذوه وأهملوه فأصبحت. كلمة (فلاح) أو (قروي) مرادفة لكلمة جاهل أو محتقر، حتى صار أبناء الريف أنفسهم يشعرون أنهم من طينة غير طينة أبناء المدن المترفين. ومشى مع هذا شعور بالضعة والمذلة تملك النشء القروي وطغى عليه، فصار إذا ما رأى طالباً نال شهادة الاجتياز إلى التعليم العالي رأى في ذلك أمراً عجباً؛ وإذا ما سمع باسم عالم ريفي يشغل مركزاً في القضاء أو الحكم أستغرب وتعجب، كأنما العلم وقف على المدن والحواضر دون الريف، فكان من جرّاء هذا لشعور المغلوط أن تشّبع أبناء المدن بشعور مبالغ فيه في تقدير قيمة المدن إذا قيست بالقرى فكأنما العلم منشؤه المدن، وكأن الفلاح إنما هو أداة حراثة وحصاد يجد ويشقى لينعم بآثار جهده أبناء المدن وهم قابعون.
على أن الذي ينعم النظر يرى أنه كان لأبناء الريف في فلسطين القدح المعلى في شتى ميادين العلم والإدارة والقضاء في مختلف العصور. إذ كانوا منذ القرون الأولى ما يزالون حملة العلم لا في فلسطين فحسب بل نقلوا مشعلهم معهم إلى ديار الشام ومصر وسائر البلدان العربية.
ونكتفيالآنأن نسجل بعض أسماء من أبناء الريف الفلسطيني فنذكر الحسن اليازوري رئيس وزراء الدولة الفاطمية (القرن الخامس) وقاضي قضاتها وداعي دعاتها وهو من أبناء يازور، قرية على طريق يافا.
بل لنعد قليلاً إلى القرنين الأول والثاني الهجريين، فنذكر موسى بن نصير فاتح قبرص وقائد معاوية، وفاتح الأندلس فقد سبى والده من جبل الخليل وهو اللخمي الفلسطيني الريفي، ثم الربيع بن يونس أبو فروة حاجب المنصور العباسي باني بغداد ووزيره فهو من جبل الخليل أيضاً. وتعال إلى عالم الأدب فلا تنسى أن تذكر عبد الحميد الكاتب القيسراني، نسبة إلى قيسارية، وقد أعتبرها ياقوت قرية الوزير الأموي، الكاتب المنشئ، كما تذكر القاضي الفاضل البيساني نسبة إلى بيسان، المدينة الريفية الفلسطينية مستشار صلاح الدين، المؤرخ المنشئ البليغ والمصلح العمراني المجاهد الذي قال صلاح الدين عنه أنه لم يفتح البلاد إلا بقلمه.
بل لقد أخرج الريف الفلسطيني عدداً من الأسر العلمية التي ساهمت أكبر مساهمة في الحركة الفكرية في القرون الوسطى في فلسطين والشام ومصرن فمنهم بنو كنانة العسقلانيون، وقد تفرقوا بعد خراب عسقلان بعد القرن السادس فكان لهم فضل عظيم في نشر العلم والفقه واللغة. ومنهم بنو غانم المقدسيون (من يورين) في جبل نابلس الذين أسلمهم صلاح الدين خانقاً في القدس فظل نجمهم يسطع حتى القرن العاشر. ومنهم بنو قدامة الجمَّاعيليون، من جمَّاعيل جبل نابلس، الذين نزحوا إلى دمشق في القرن السادس فأسسوا فيها الصالحية ومدرسة أبي عمر. فكانت مركزاً هاماً لتدريس الفقه الحنبلي خاصة مما كان له أبلغ الأثر في دمشق والشام والعالم الإسلامي عامة.
بل ماذا نقول فيما أخرجته (رامين) في جبل نابلس مما سيطلع عليه القارئ فيما بعد، أو ما ساهمت به (مردا) من العلماء والعالمات حتى كادوا يحتكرون العلم في تلك العصور الغابرة ويحملون مشعلة دون سواهم.
هذا وقد أخرج الريف الفلسطيني عشرات بل مئات من المؤلفين والأدباء، فهذا الجمال البشيتي (نسبة إلى بشيت من أعمال الرملة) يكتب في الألفاظ المعربة، وهذا المحبي صاحب سلك لدرر يقتبس من الحسن البوريني (نسبة إلى يورين جبل نابلس، ويعتبره مرجعه، ويعترف له بذلك في مقدمة كتابه النفيس وهو أعظم مراجعنا عن الحركة الفكرية في القرن الحادي عشر في هذه الديار.
ففي علوم القرآن، والفقه، ورواية الحديث، وفي التصوف والأصول والفرائض، وعلم الكتاب والمذاهب الأرنعة، وفي علوم اللغة، من قواعد ونثر ونظم، وفي إنشاء الرسائل، وفي التاريخ والطبقات والرحلات بل وفي علوم النجوم والرمل والزايرجا، في جميع هذه العلوم التي تؤلف مادة العلوم الإسلامية منذ القرون الأولى ساهم أهل الريف في فلسطين مساهمة تضعهم في الصف الأول من خدمة الثقافة والعلوم في هذه الديار.
وقد استثنينا من بحثنا المدن الفلسطينية الكبرى كالقدس، والرملة، وغزة والخليل، ونابلس ويافا وعكا وصفد، واعتبرنا أرسوف وقيسارية وعسقلان من بلدان الريف لا المدن.
ولم ستئن الناصرة على اعتبار أنها كانت قرية من أعمال صفد، وحيفا لأنها كانت بليدة، وبيبسان هي أقرب إلى المدن الريفية منها إلى المدن والقصبات.
وقد رتبنا قرى الريف، على الحروف الأبجدية ليسهل الرجوع إليها، واعتمدنا معجم ياقوت كأساس للقرى العربية، كما أثبتنا غير ذلك من القرى مما ورد ذكره في المصادر العربية الأخرى.
مشاهد فلسطين، وبقاعها، وأنهارها، وجبالها في المصادر
العربية:
أجناد الشام: لما فتح العرب الشام قسّموها إلى خمسة أجناد وهي جمع جُند ومنها جند فلسطين وجند الأردن وجند دمشق وجند حمص وجند قنسرّين. قال أبن جار اختلفوا في الأخبار فقيل سمّي المسلمون فلسطين جنداً لأنه جمع كوراً، والتحند والتجمّع، وجندت جنداً أي جمعة جمعاً، وكذلك بقية الأجناد. وقيل سمية كل ناحية بجند لأنهم كانوا يقبضون أعطياتهم فيه.
قال الفرزدق:
فقلت ما هو إلا الشام تركبُهُ ... كأنما الموت في أجناده البغرُ
وجاء في معجم ياقوت ح6 - 397 عن فلسطين ما يأتي:
(العرب في إعرابها على مذهبين: منهم من يقول فلسطين ويجعلها بمنزلة مالاً ينصرف ويلزمها الياء في كل حال فيقول هذه فلسطينُ ورأيت فلسطين ومررت بفلسطين. ومنهم من يجعلها بمنزلة الجمع ويجعل إعرابها بالحرف الذي قبل النون فيقول هذه فَلسطين ورأيت فلسطين ومررت بفلسطينَ. كذا ضبطه الأزهري والنسبة إليه فلسطى. قال الأعشى:
ومثلك خَوْدٌ بادن قد طبتها ... وساعيت معصياً لدنيا وُشاتها
متى تُسق من أنيابها بعد هجعة ... من الليل شرباً حين مالت طلاتها
تعله فلسطياً إذا ذقت طعمه ... على ربذات التي حمسٌ لثاُتها
وهي آخر كور الشام من ناحية مصر قصبتها بيت المقدس. ومن مشهور مدنها عسقلان والرملة وغزة وأرسوف وقيسارية ونابلس وأريحا وعمان ويافة وبيت جبرين أولها رفح من ناحية مصر وآخرها اللجون (مجرو - أو تل المتسلم) من ناحية الغور عرضها من يافا إلى أريحا نحو ثلاثة أيام، وزغر (بحيرة لوط أو البحر الميت) ديار لوط وجبال الشراة إلى آيلة (العقبة) كله مضموم إلى جند فلسطين، وغير ذلك وأكثرها جبال والسهل فيها قليل.
ولو أن طيراً كلفت مثل سيره ... إلى واسط من إيلياء لكلت
سما بالمهارى من فلسطين بعد ما ... دنا الشمس من فئ إليها فولت
قال ألبستي، وكان ورد بغداد رسولاً من غزنة يذكر فلسطين والتزم ما لا يلزمه من الطاء والياء والنون يمدح عميد الرؤساء أبا طاهر محمد بن أيوب وزير القادر بالله ثم القائم:
العبد خادم مولانا وكاتبه ... ملك الملوك وسلطان السلاطين
قد قال فيك وزير الملك قافيةً ... تطوى البلاد إلى أقصى فلسطين
كالسحر يخلب من يرعيه مسمعه ... لكنه ليس من سحر الشياطين
فأرعه سمعك الميمون طائره ... لا زال حليك حلى الكتب والطين
وعشت أطول ما تختار من أمد ... في ظل عر وتوطيد وتوطين
وقال أبن عرمة: كأن فاها لمن تؤنسه ... بعد عبوب الرقاد والعَلل
كأس فلسطية معتقة ... شيبت بماء من مزنة النسل
قال أبن الكلبي في قوله تعالى (يا قوم أدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم) هي أرض فلسطين. وفي قوله تعالى (الأرض التي باركنا فيها للعالمين) قال هي فلسطين.
قال عدي بن الرقاع:
فكأني من ذكركم خالطتني ... من فلسطين جلس خمر عقار
عتقت في الدنان من بيت رأس ... سنوات وما سبقها التجار
فهي صهباء تترك المرء أغشى ... في بياض العينين منها احمرار
أحمد سلم الخالدي