مجلة الرسالة/العدد 852/تعقيبات

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 852/تعقيبات

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 10 - 1949



للأستاذ أنور المعداوي

خطبة الأستاذ الزيات في مجمع فؤاد الأول للغة العربية:

قال لي بعض الأصدقاء متسائلين: لماذا لم تعقب على خطبة الزيات في مجمع فؤاد الأول وقد كانت حديث الناس في المجمع وخارج المجمع؟ وقلت للأصدقاء رداً على التساؤل الذي يتطلب شيئاً من الإيضاح: أما التعقيب فقد أرجأته حتى يقرأ الخطبة هنا من لم يستمع لها هناك، وكذلك الخطبة التي سبقتها في الإلقاء وأعقبتها في النشر.

والآن، وبعد أن طالع الناس الخطبتين على صفحات الرسالة أود أن أقول كلمة عن الزيات الصديق، والزيات الأديب، والزيات الإنسان. . . كلمة تتناول هذه النواحي الثلاث جمعياً، ورائدها الضمير الذي يتفيأ ظلال الصدق ولا تلفحه حرارة الصداقة، ويستروح أنسام الحق ولا تعصف به رياح المجاملة!

أما الزيات الصديق، فقد قدمته إليك نفحات من الوفاء تجلت في عباراته، وما أكثر ما تطمس يد الزمن سطور الوفاء من صفحة القلب نحو من تطول غيبته، ثم لا ترجى بعد ذلك أوبته. . . ولكن الزيات في موطن الذكرى الباقية نحو أنطون الجميل، كان مثال الصديق الذي يعدد المآثر في حساب الشعور لا في حساب السنين والأيام، وتلك هي غاية الوفاء؛ فمآثر أنطون الجميل في حساب الزيات أو في حساب شعوره، تدفعه إلى القول بأن كرسي الرجل ينكره كما ينكر الفرس الجواد راكبه الغر، أما حساب السنين والأيام، فهو حساب تاريخ الأدب يوم أن يؤرخ الأدب، يوم يكون للزيات فيه صفحات تنكر قوله بأن كرسي الجميل ينكره!

ما أكثر ما يظلم هذا الرجل نفسه إذا ما تحدث عن نفسه!

ولكن الذين يعرفون الزيات كما أعرفه، يعرفون فيه صفتين قل أن تجتمعا لرجل في هذا العصر الذي نعيش فيه: الحياء، والوفاء. . . ومن هاتين الكلمتين يمكنك أن تخرج بأصدق عنوان لكتاب حياته! ولا تعجب إذا قلت لك إنني كثيراً ما ضقت بحيائه، وثرت على وفائه؛ ذلك لأن وفرة الحياء قد تحول بين صاحبها وبين كثير مما يتطلع إليه أصحاب الطموح، وقد تدفعه إلى الرضا عن الشيء وهو ضائق به، وإلى السكوت عن الأمر وهو قادر عليه، وفي ذلك يقول الزيات في كلمته: (ولقد حدثتني نفسي - شهد الله - حين تأدى إليَّ خبر انتخابي لعضوية المجمع أن أستعفيه من هذا التشريف، لا زهادة في الشرف، ولا رغبة عن العمل، ولا فراراً من الواجب، ولكن لعلة نفسية مزمنة كان من أخف أعراضها أني أحسن العمل منفرداً أكثر مما أحسنه مجتمعاً، وربما جعلتني - لعنها الله - أعلم الشيء ولا أقوله، وأسمع الخطأ ولا أصوبه، وأرى المنكر ولا أغيره!)

هذا عن الحياء وهو عجيب، وما أعجب الرجل بعد ذلك في مجال الوفاء. . . أعرف أناساً فتح لهم الزيات قلبه، وسقاهم من نبع حبه، ومنحهم من فيض ثقته، وأخلص لهم في السر والعلانية. ودار الزمن دورته فتنكر هؤلاء جميعاً لصداقته، وتجاهلوا ما كان من مودته، وقطعت أحقاد النفوس كل ما كان بينهم وبينه من صلات. ومع ذلك فقد نسى الرجل الإساءة وصفح عن حاضرهم وحاضره، وعاش بفكره وشعوره في ماضيهم وماضيه؛ ذلك لأنه لا يستطيب العيش إلا في ظلال الوفاء، ولو كان الوفاء وهماً يحلق على أجنحة الماضي البعيد فوق ركام الذكريات. . . وأجادله في موقفه من هؤلاء الناس فيبتسم، وأدفعه إلى لقائهم بمثل ما يلقونه به فيعتذر، وأثور على هذا كله فيلوذ بالصمت!

وحين أخلو إلى نفسي وأذكر ما كان منه وما كان مني، لا أملك إلا أن أخفض قلمي تحية لحيائه، وأحد من ثورتي إجلالاً لوفائه؛ ذلك لأن الإفراط في الحياء ولو جنى على القيم، والإغراق في الوفاء ولو كان لغير أهله، صفتان أقل ما يقال فيهما إنهما ترفعان الغطاء عن حقيقة إنسان!

أما الزيات الأديب، فيحدثك عنه اسمه اللامع وماضيه الطويل، وإنما أريد أن أحدثك عنه اليوم على ضوء كلمته التي سمعها البعض في المجمع، وقرأها البعض في (الرسالة). . . أدب وتاريخ أدب ونقد: في الأول أسلوب وعرض، وفي الثاني إحاطة وصدق، وفي الثالث ذوق وميزان. وأبلغ الدلالة على هذا كله أن يقول الزيات في معرض الموازنة بين المدرستين المصرية واللبنانية: (وظلت المدرستان الشقيقتان تنتجان الأدب في ضروبه المختلفة بأسلوبين مستقلين، أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحاضر، على ما كان بينهما من تفاوت في الطاقة والمادَّة والصنعة والتقيُّد والتحرر، وبقيت المدرسة الأزهرية الأم عاكفة على النظر المجرد والجدل العقيم بين أروقة الأزهر والزيتونة والأموي والنجف، تنتج الخام ولا تصنع، وتشحذ السلاح ولا تقطع، فلم يكن لها في ذلك العهد الغابر أدب غير أدب الشواهد، ولا أسلوب غير أسلوب الحواشي. . . ولكن الحق أن المدرسة اللبنانية كانت عملية تقدمية حرة، واكبت الزمن في السير، وطلبت العلم للعمل، وسخرت الأدب للحياة، ونظرت إلى اللغة نظر الوارث إلى ما ورث، يملك عليه بمقتضى الشريعة والطبيعة حق الانتفاع به على الوضع الذي يريد، وحق التصرف فيه على الوجه الذي يحب. . . والمتتبع لتطور المدرستين يرى أن كلتيهما قد مرت في أطوار ثلاثة: طور التقيد والمحاكاة، وطور التحرُّر والاعتدال، ثم طور التمرُّد والانطلاق. ولكن الانتقال من طور إلى طور كان في مصر متثاقلاً متداخلاً، يرود قبل النجعة، ويحوم قبل الوقوع، على حين كان في لبنان متسرعاً لا يتأنى، مصمماً لا ينخزل. فبينما نجد مراشا الحلبي في (مشهد الأحوال) يقلد ابن حبيب الحلبي في (نسيم الصبا) وناصيفاً اليازجي في (مجمع البحرين) يُقلد الحريري في (المقامات)، وإبراهيم اليازجي في (لغة الجرائد) ينهج نهج الحريري في (درة الغواص) إذ نجد آل البستاني وآل الحداد وزيدان ومطران والخوري والجميل وملاط يتوخون السهولة والابتكار والطرافة، والجبرانيين والمهجريين يجنحون إلى الأصالة والإبداع والتطرف، والزمن بين هؤلاء وأولئك متقارب، والعوامل المؤثرة فيهم لا تكاد تختلف). . .

هذه فقرات يضيق المقام عن أن أنقل إليك من نظائرها الكثير، ولكنها تغني عن هذا الكثير لأنها تقدم إليك مفتاح الشخصية الأدبية في كلمات، ورب لمحة تغني في مجال التقديم عن لمحات. . . أما فضل الرجل على اللغة والأدب وأثره في توجيه الجيل، فقد كشف عن هاتين الناحيتين الأستاذ فريد أبو حديد بك في كلمته القيمة الصادقة التي ألقاها في المجمع ونشرتها الرسالة! بقي أن أقول كلمة عن ناحية أخرى من نواحي الزيات الأدبية، وهي ناحية عرض لها الأستاذ فريد أبو حديد بك في خطبته حين تحدث عن قصتي جوته ولامرتين. . . كلمة عن قلم الزيات حين يترجم آثار الفن من لغة إلى لغة، ومن ذوق إلى ذوق، ومن أدب إلى أدب؛ هناك في (آلام فرتر) و (رفائيل) و (من الأدب الفرنسي) ثلاثة كتب لو قرأتها دون أن ترجع إلى أصولها الفرنسية لتبادر إلى ذهنك ووقع في ظنك أن الزيات يضحي بأمانة النقل في سبيل رشاقة اللفظ وموسيقى العبارة. أشهد لقد خطر لي هذا وأنا أقرأ ترجمته لقصة قصيرة من قصص موباسان هي (الحلية وأشهد لقد رجعت إلى النص الفرنسي لأراجع عليه الترجمة العربية فما رأيت عبارة قلقة في ثنايا التعبير، ولا شهدت لفظاً في غير موضعه من الأداء، وما لمست أثراً للتضحية بدقة المقابلة في سبيل المحافظة على جمال التعبير. . . ولقد ذكرت هذه الظاهرة الفريدة ذات يوم للدكتور طه حسين فكان جوابه أن ما خطر لي قد خطر يوماً له، وأن ما وقع في ظني قد وقع يوماً في ظنه، وكان ذلك حين قرأ (آلام فرتر) للزيات، ولكنه حين رجع إلى القصة في أصلها الفرنسي لم يملك أمام حرفية الترجمة وبلاغة الأداء، إلا أن يكتب مقدمتها الرائعة تحية إعجاب وتقدير!

قصة طريفة:

منذ عشرة أشهر على التحديد، وفي إحدى المناسبات وأنا أنقد كتاباً في مكان آخر غير الرسالة، قلت عن الدكتور الشاعر إبراهيم ناجي: (. . . هذا شاعر رفيق مجدد، ولكنه شاعر في حدود القصيدة التي لا تتعدى في طولها عشرة أبيات من الشعر، لأنه ضيق الأفق، محدود الطاقة، لا يعينه جناحاه على التحليق في الأجواء العالية؛ الأجواء التي تتطلب جناحي نسر لا جناحي فراشة)!

قلت هذا عن الدكتور ناجي ومضت بعد ذلك أيام، ثم حدث أن لقيت شاعراً من شعرائنا الشبان يربطه بالدكتور سبب من صلات الود والصداقة، وأبدى الشاعر الشاب رغبته في أن يجمع بيني وبين الدكتور ناجي، لأنني في رأيه قد ظلمت شاعريته حين وصفتها بهذه الكلمات التي انتهت بجناح الفراشة. . . وكان ردي على الشاعر الشاب أنني لم أر صديقه في يوم من الأيام، وليس بيني وبينه ما يدفع الناس إلى شيء من سوء الظن إذا ما أشدت بحسناته أو أشرت إلى سيئاته، ومهما يكن من شيء فليس هناك ما يحول بيني وبين لقائه!

وحدث مرة أخرى أن كنا في ندوة الرسالة فجاء ذكر الدكتور ناجي على لسان أديب شاب، ما لبث أن وجه إلي الحديث مذكراً بتلك الكلمات التي كتبتها عنه، خاتماً هذا الحديث بقوله: إن ناجي سيقدم في القريب دليلاً فنياً يرد به على نقدي. . .

أما هذا الدليل الفني فهو ملحمة تحت الطبع بلغت فيها الطاقة الشعرية ثلاثمائة بيت من الشعر. وكان ردي على الأديب الشاب أنني على استعداد لتقديم هذه الملحمة إلى القراء تقديماً يبرز ما فيها من قيم، على شرط أن يعينني الطبيب الشاعر على تحقيق هذه الأمنية!

وحدث مرة ثالثة - وكان ذلك منذ أيام - أن دق جرس التليفون في مكتبي بوزارة المعارف، وكان المتحدث ذلك الشاعر الشاب الذي طالما أبدى رغبته في أن يجمع بيني وبين صديقه، وبعد دقائق من بدء الحديث أفهمني أن الدكتور ناجي إلى جانبه وأنه يريد أن يتحدث إليّ. . . وتكلم الدكتور وتكلمت، وكانت كلمات فيها كثير من الترحيب بلقائه، انتهت بالتواعد على اللقاء في حفلة التأبين التي أقيمت لفقيد السينما أحمد سالم بدار نقابة الصحفيين، ولقد اختار ناجي هذا المكان بالذات لأستمع إلى قصيدته التي ألقاها في الحفلة، عسى أن أغير رأيي في جناح الفراشة.

إلى هنا وأشهد الله أنني توجهت إلى نقابة الصحفيين رغبة في الاستماع لقصيدة الطبيب الشاعر، وأملا في إنصافه، وتحقيقاً لتسجيل إلى الإنصاف على صفحات الرسالة. . . وجاء دور ناجي في الإلقاء فمددت عينيّ، وأرهفت أذنيّ، وحشدت الذوق كله والشعور كله لتلك الأبيات التي بدأها بمطلع لا يبشر بالخير! ومضى الطبيب الشاعر في إنشاده حتى فرغ من إلقاء قصيدته، وقلت لنفسي ترى هل من الذوق أن أصارحهأم حسبه أن أصافحه؟! وبعد حساب طويل بيني وبين نفسي صافحته وانصرفت.

ومع ذلك فأنا في انتظار الملحمة الكبرى، وأرجو الله أن يهب الطبيب الشاعر من التوفيق ما يعينني على إنصافه. . .

تقدير الأدب والأدباء عندنا وعندهم:

إياك أن تعجب إذا قلت لك إن الذين شيعوا الكاتبة الأمريكية مرجريت ميتشل إلى مقرها الأخير بلغوا مائة ألف. . . مائة ألف ذرفوا عليها من الدموع ما يرطب ثراها إلى الأبد! ولا تعجب إذا قلت لكأيضاً إن السائق الأرعن الذي دهمها بسيارته فقضى على الفن والنبوغ في لحظات، هذا السائق قد جن جنونه ولطم خديه حين علم أن تلك التي قضى عليها لم تكن سوى صاحبة الذهن المبدع الذي أخرج للملايين قصته الخالدة (ذهب مع الريح!) ولا تعجب مرة ثالثة إذا قلت لك إن الصحافة الأمريكية قد طالبت بإعدام المجرم لأنه لم يقتل عابرة طريق، وإنما قتل مرجريت ميتشل. . . ولا تعجب مرة رابعة إذا قلت لك إن سكان الولاية التي أنجبت الكاتبة الأمريكية قد عهدوا إلى أحد نوابغ المثالين أن يصنع تمثالا ضخما للفقيدة العظيمة، ليقام في القريب العاجل في أكبر ميدان من ميادين العاصمة!!

هذا في الولايات المتحدة التي يقال عنها إن دويّ الآلات فيها قد طغى على صوت الفن، وإن ضجيج المادة قد أخمد سبحات الروح. . . وليس هذا في الولايات المتحدة وحدها ولكنه في فرنسا وغيرها من البلاد الأوربية، أهل الأدب والفن لهم مكان الصدارة في مواطن التكريم والتعظيم، سواء أكانوا في عداد الموتى أم في عالم الحياة والأحياء، وحسبك أن تعلم أن جنازة الشاعر بول فاليري كانت أعظم وأروع من جنازة أي رئيس من رؤساء الجمهورية الفرنسية، وحسبك أن تعلم أيضاً أنه ما من أديب فرنسي كبير إلا وله تمثال يذكرك به في ميدان من الميادين، أو شارع قد أطلق عليه اسمه، أو دار قد حولت إلى متحف ينتسب إليه. هذا عدا وسائل التخليد الأخرى التي تقوم بها الهيئات والحكومات!

عندهم هذا كله. . وعندنا الأدباء والفنانون يتضورون من الجوع، ويضجون من الغبن، ويصرخون من الإهمال. وعندما يموت أحدهم تقام له حفلة تأبين في نقابة الصحفيين، لا يتهافت عليها كرام القوم بعض تهافتهم على تكريم مطربة من صواحب الصوت الجميل!!

أنور المعداوي