مجلة الرسالة/العدد 852/المازني في عهدين
مجلة الرسالة/العدد 852/المازني في عهدين
بين إبراهيم الكاتب وإبراهيم الثاني
للأستاذ غائب طعمة فرمان
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
في نهاية رحلته. . . يدلف إبراهيم الكاتب إلى المقبرة. . . العالم المليء بالذكريات. . . لتذكره بالموت. . . ويملأ عينيه بالرفات الباقي من حيوات كثيرة. . . وما أشبه الرفات بالذكريات!. . أليست هي بمثابة رفات لحبه الماضي؟!.
وهناك في ذلك الجو الساكن الرهيب يفكر في أمر هذه الحياة الغامضة الغريبة التي يمتزج فيها الصراخ بالغناء، ويختلط بها الألم بالطرب. . . وهو يردد (لا شك في أن الحياة عمياء وصماء. . . فليتها توهب البصر هنيهة لترى هذا الخليط من الحسن والقبح، والخير والشر! ويا ليت! من يدري ماذا تصنع إذن؟. . أترى يثور الخجل بها، فتعصف بكل شيء وتمحوه، أم تأخذ في إصلاحه وعلاجه في صبر وأناة.). . . أما لو كنت أنا الحياة لتناولت ما أخرجت كفاي من طينة الأرض المحدودة، ودككته وحطمته، ثم ذررته لهذه الرياح.
وتلك فلسفة إبراهيم الكاتب التشاؤمية. . . تلك الفلسفة القاتمة التي تعتبر الحياة (قبضة ريح) و (حصاد الهشيم) و (باطل الأباطيل) وهي فلسفة الكتاب المقدس الذي أشربت نفسه حكمته - كما يقول الدكتور محمد مندور.
ويدركه الأعياء فيقول لنفسه:
(الموت على الأقل راحة. . . فليت الحادي يعجل بنا، فقد سئمت الحياة، ومللت النظر في وجهها الملطخ، وثوبها المرقع، واشتقت أن أرقد هنا إلى جانب. . .).
ولكن صوتاً قوياً يصرخ من جانب القبر. . . (لا. . .).
ويظل القول يعاتبه فيقتنع إبراهيم بذلك ويقول:
(حسن. . . سأحيا من أجلك، وألقى المهالك إكراماً لك، وظناً بك أن تلحقي بالأموات جداً.)
ولكن. . . من أجل مَنْ؟.
(من أجل التي لها يحيا، وفي سبيلها يسعى، وبها وحدها يعني طائعاً أو كارهاً. . . من أج نفسه!).
ويمر ذلك العهد. . . عن العاطفة الصارمة، والحب الجارف، والاندفاع وراء القلب المرهف. . . عهد كان أخوف ما يخافه ويضجر من شقائه هو العقل. . . العقل الذي لا يستسيغ تصرفات قلبه الجامح، ولا يطمئن إلى عاطفته الحارة. . . فكان إبراهيم الكاتب يقول:
(أوه. . . العقل! العقل!. ليت المقادير حرمتنا هذه النعمة التي لم نغن بها) ثم ينقضي عهد العواصف واليأس والقنوط.
وتنقلب صفحة مليئة بالأشجان. . . لتطلع علينا صفحة ثانية تقص علينا قصة حياة أكثر اطمئناناً، ورضى بنصيبها، وفهماً لدنياها. . . قصة تزول عنها حمى العاطفة ونزواتها وطيشها، وتنقلب إلى حكمة ودراية واتزان.
تلك هي حياة إبراهيم الثاني. . أو إذا أردنا الدقة. . . حياة إبراهيم الكاتب بعد أن تغير تغيراً كبيراً، أو كما عبر المازني نفسه (ولو أمكن أن يلتقي الإبراهيمان - إبراهيم الكاتب وإبراهيم الثاني - لاحتاجا إلى من يقوم بينهما بواجب التعريف)
فإبراهيم الثاني اليوم في العقد الخامس من عمره. . . أورثته حياته المرهقة، وإحساسه العميق، وذكرياته الطويلة، وسواساً قوياً يخيفه، ويأخذ بمجامع قلبه، وقلقاً صارماً يستحوذ على فكره. . . (فقد كان أخوف ما يخافه أن يكون قد شيخ، أو أشفى على الشيخوخة) فهذا الهاجس يعذبه دائماً، ويحيل حياته إلى عذاب نفسي أليم. . . وينغص عليه عيشه. . . وكأنه يلمح على عتبة الحياة شبحاً مدبراً هو شبح شبابه حاملاً معه كل حلم من أحلامه، وكل زهرة من زهرات ربيعه.
ويزداد هذا الوسواس بعد موت أمه، وقام في خلده أنه شب عن الطوق جداً جداً! ودخل مداخل الرجال الذين لا يحتاجون إلى تعهد ورعاية. . . فهو يدلف إلى الشيخوخة بقوة لا يستطيع لها دفعاً، ويخلص من نعيم الشباب وهو معتلج القلب بالعواطف.
ولكن. . . مهلا ما الشباب. . . أليس هو إيحاء وشعور يستوليان على النفس. . . وهل خلى إبراهيم من إيحاء الشباب والشعورية؟!
ولكن اليأس المضني يدركه حين تصور له أوهامه، وتلف أعصابه أنه موشك على الموت، ذلك العالم المجهول لشد ما يخيفه، ويفزعه، وذكراه وحدها كفيلة بأن تقلقه. . . (يا ويحه إذا رأى جنازة أو فاجأه عويل نسوة على ميت. . .).
غير أن شيئاً من الاطمئنان يسري في نفسه حين يتزوج، ويرى من زوجته امرأة عظيمة الإخلاص، حنوناً تترفق به، وتحبه، وتسهر على مرضاته، وتقوم مقام الأم الرؤوم، والصديقة الوفية، والزوجة المخلصة.
ولكن الإحساس بالشيخوخة والمرض لا يلبث يطارده، فتنقلب عاطفة إبراهيم الكاتب إلى برود، وينسخ العقل والتفكير أحكام العاطفة، وتتحول النار المضطرمة إلى رماد!.
وتخلو حياته من العواصف. . . فالاتزان عماد حياته، فلا الحب يهزه - كما كان يهز خلفه - ولا الحزن يأخذ بأفكار نفسه. . . فإذا قام الحب بينه وبين امرأة على رغمه، وتصارحه امرأة بما في صدرها من كامن الحب يقف كالشيخ الجليل أمام النار المتوقدة التي تطلب الوقود. . . ويحاول أن يخمدها بحكمته.
دعني أنقل لك موقفاً من مواقف حكمته لترى مقدار التغير الذي أصاب إبراهيم الكاتب.
(عايدة) فتاة عزيزة تعاني الكبت الشديد، والحرمان من كل ما عسى أن يكون فيه إرضاء للأنوثة، وتلطيف من حدة ثورتها الطبيعية، وقلة الثقة بنفسها، كثيرة الوسواس، تنتابها الأزمات العصبية وتتركها مهدمة محطمة. . . وهي مع ذلك ذات جمال وفتنة وقوام رشيق. . . تتعرف إلى إبراهيم، فترى فيه رجلا يملأ عينيها، وترتاح إليه، وتهرب إلى كنفه من رمضاء الحياة. وتجد في صحبته ملاذاً من وساوسها وأوهامها، وكهفاً تستكن إليه حين تعصف العواصف في سماء نفسها القلقة الهشة - وعلى مر الأيام يتسلل عطر الحب إلى صدرها، حتى يضيق به، فتصارحه بذلك:
(أنت حبيبي. . . نعم. . . لا تفتح فمك هكذا كأني رميتك بحجر. . . ما حيلتي؟. كن منصفاً. . . ألقاك كل يوم وأسمع حديثك، وأشعر بقربك، ولا أرى أو أسمع سواك، وأحس عطفك. . . لقد علمتني أشياء. . . وإنك لمسئول عني. . . ولا أمل لي في الحياة. . . وليس لي غيرك. . . أنت عزائي فيها.)
نعم. . . تلقاه كل يوم. . . وتتحدث معه، وتشعر بقربه. ولكن قلبه لا يتحرك لها، ولا يستجيب لنداء فؤادها. . . ما خطبه؟. لقد خمدت في جوفه النيران!!. فيجيبها جواباً أشار به عقله، ولم يستشر هواه:
- (اسمعي يا عايدة. . . إنك عزيزة عليَّ، أثيرة عندي. . . ولكن الحب شيء آخر!. لا ينبغي أن يكون بيننا هذا. . . أنه يفسد كل شيء عليَّ وعليك!! أنت فتاة صغيرة عزيزة ومستقبلك كله أمامك. . . وأنا رجل كهل قد خلفت صباي ورائي. ثم إن لي زوجة تحبك وتأتمنك. اسمحي لي أن أقول إني لا أصدق أن فتاة مثلك يمكن أن تحب رجلا مثلي. . . كلا. . . ليس هذا حباً وإنما هو فورة إحساس. . . إنها حركة لنفس مكبوتة ليس إلا. . . نشوة عارضة تحسينها، وتغلطين وتتوهمينها حباً.)
إنه صوت العقل. . . العقل الذي ركن إلى الاتزان، وابتعد عن صحراء الحب وعطشه. . . وقد فطنت الصغيرة عايدة لذلك فصرخت في وجهه قائلة: (إنك آلة مفكرة لا إنسان من لحم ودم!)
وقد صدقت عايدة. . . تلك التي ماتت وهي تعاني آلام الحب المجروح الذي وقف متضرعاً أمام هيكل العقل المكين. . . وإبراهيم الثاني يعرف مبلغ تحكم العقل فيه فقال يصف نفسه (ويعرف من يعرفونه أنه رجل عاطفة ووجدان، وإحساس مرهف وأعصاب كالأوتار المشدودة. . . ولكنهم كثيراً ما كان يخفى عليهم أن عقله مسيطر على عاطفته، وأن زمام نفسه لا يفلت من إرادته، وأن العواطف عنده تتحول إلى فكرة. . . فهي غذاء لعقله، كما يتحول الطعام قوة في بدنه. . .)
وأين هذه القمة الباردة من لهيب العاطفة، وحرارتها في إبراهيم الكاتب؟. إبراهيم المندفع وراء قلبه. . . إذا استقر الحب في سره مدة عذبه، وانقلب حسكا لا يجد الإرادة القوية التي تقف دون إفشائه.
ويلذ لإبراهيم الثاني أن يكون طبيباً نفسانياً يدرس مرضاه، ويسدي لهم النصح ويهديهم سواء السبيل، ويقف أمام (المشرحة) وأمامه نفس تتعذب وتتلوى من الألم. . . وفي صدره إرادة لا يقهرها أي قاهر.
وينفرط عقد القصة، وتبدو الحوادث مفككة الأجزاء حتى ليخيل إليك أنك أمام مذكرات لطبيب نفساني يسرد أعماله النفسية فحسب.
وتنطوي مع صفحة الشباب المندفع صفحة أخرى هي صفحة تشاؤمه وحزنه ويأسه وما يخيم في سماء حياته من غيوم.
واستسلم القلب المنكود إلى القناعة، والعقل المفكر إلى أحضان الواقع:
(إن الدنيا ليست بالجنة، ولم تخلق على هوانا، ولا كان لنا رأي في خلقنا نحن. . . وإنما جئنالأننواميس الحياة اقتضت أن نجيء، فغير عجيب أن يكون ثم ما يسخطنا ولا يرضينا، ولو ذهبنا نتسخط كل ما لا يرضينا لما عادت الحياة محتملة، فالصبر والحكم وتناول الأمور برفق وتسهل، أوجب ما يجب، وأدل شيء على حسن الفهم وصحة الإدراك، وليس هذا من قبيل قولهم ليس في الإمكان أبدع مما كان. . . فإن كل ما في الدنيا قابل لتحسين وإصلاح وتهذيب. . . وإن لم يكن في ذاته غاية في السوء والفساد. . .
. . . وأهرق كأس الحزن على أطلال الماضي، ولم تشغله أشباح الزوال، ولم تعمر فكره الرؤى القاتمة، وتساوى عنده قصر العمر وطوله في مقياس الفكر والإحساس، والشعور والإدراك:
(إننا أعطينا الحياة ولم نعطها بشرط، وقد أعطيناها لنحياها لا لنقطع نفوسنا حسرات على أنها لا محالة زائلة. . . ولا قيمة لطول العمر أو قصره فإن العمر لا يقاس بعد السنين بل بمبلغ ما يعمره من الإحساس والفكر).
وكفرحة الراهب برجوع الصابئ إلى ديره يفرح إبراهيم حين يرجع أحد مرضاه - أحد أشخاص روايته - إلى الطريق السوي. . . فاليوم يعيش في فكره. . . أما قلبه فقد دفنه في الماضي البعيد.
(بغداد)
غائب طعمة فرمان