مجلة الرسالة/العدد 851/صور من الحياة:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 851/صور من الحياة:

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 10 - 1949



زوجة تنهار!

للأستاذ كامل محمود حبيب

هب الفتى من فراشه - لدى مطلع الفجر - يستقبل هبّات النسيم اللينة الرقيقة ويستمتع بأنفاس الصبح الندية وهي تعابث فلول جيش الليل المتدافعة نحو الغرب في رهبة وفزع. ووقف يتأمل ماء النيل وهو ينسرب متدفقاً إلى غير غاية، ويرنو إلى الأشجار الباسقة على الضفة الأخرى، وإن أغصانها المتعانقة لتترنح في فتور وتراخ كأنما تجاهد لتلقي عن نفسها لباس النوم الكثيف. وأحس الفتى - وهو مكانه - بالقوة تتدفق في أعصابه وبالنشاط يمرح في إهابه وبالنشوة تسري في دمه، ونسى يوم أن كان طفلاً رطيب العود لين العظم مسلوب القوة واهي الإرادة وقد أصابه اليتم والفقر في وقت معاً، ففقد أباه صغيراً ليعيش إلى جانب أمه وحيدين في ركن من دار، ونسى يوم أن كان صبياً تضنيه المسكنة وتفريه الذلة، يحس وطأة الشظف ولأواء الضيق، يتوارى - أبداً - عن أترابه خشية أن تقتحمه عين وهو في أسمال بالية وضيعة، وخيفة أن يناله لسان سليط وهو يقضم كسرة خشنة تافهة. ونسى يوم أن صار شاباً ينطوي على نفسه في تخاذل وهوان لأنه لا يستطيع أن يتطاول إلى مكانة رفاقه وهو خاوي الوفاض صفر اليدين. لقد كانت أمه تستفرغ وسع الطاقة لتدفع ثمن مكانه في المدرسة ثم يصيبها البهر والإعياء فلا تستطيع أن تحبوه بالجديد من اللباس ولا اللين من العيش. . . فعاشت إلى جانبه تدفعه إلى الغاية التي تصبو إليها نفسها وتصبر هي على الجوع والعري في رضى وإيمان.

أما الآن فقد تخرج في مدرسة المعلمين العليا وعين مدرساً في مدرسة (كذا) الابتدائية، فهو يستطيع أن يحبو نفسه بالكريم من الطعام والشريف من اللباس في غير عنت ولا إرهاق، والدنيا رخاء. فراح يتأنق في مأكله وملبسه ومسكنه ويغدق على نفسه من أفانين المتعة ما أعجزه أن يناله في عمر الفاقة والمتربة. وأحس اللذة والسعادة في حياته الجديدة لا يشوبهما إلا أنه فقد أمه. . . القلب الوحيد الذي يتوثب حناناً وعطفاً ويفيض شفقة ورحمة. فعاش من بعدها وحيداً، لا يصحبه في موكب الحياة إلا خادمه وهو فتى ريفي هرب من جفوة الحقل ليسكن إلى رخاوة المدينة، وإلا بعض زملائه في المدرسة.

واستشعر الفتى الوحدة توشك أن تقض مضجعه وتعكر صفو أحلامه وتقذف به في بيداء الخواطر المضطربة، فهو لا يحس عطف الأب وقد ضمه القبر منذ عمر طويل، ولا حنان الأم وقد ودعته الوداع الأخير منذ سنوات خمس، ولا رقة الأخ وهو وحيد أبويه. أما أهله فقد تنكروا له يوم أن كان في شظف العيش ورقة الحال، فإلى على نفسه ألا يزور ديارهم أبداً وألا يعطف على فقير فيهم وألا يستعين بذي جاه منهم أو يلجأ إلى ذي مال. ومضت الأيام على نسق واحد وقد أقفرت من قلب ينبض بحبه أو نفس تضطرب بالعطف عليه فذاق لذع الوحدة ومرارة العزلة.

وجلس الفتى - ذات اليوم - إلى زميل له يحدثه حديثه وإن نبرات صوته لتكشف عن أسى دفين عاش في قلبه منذ أن كان طفلاً، ونما على السنين وربا واشتد غرسه، وإن عبراته المترقرقة لتنبئ عن شجو يقطع نياط القلب ويقد أوتار الفؤاد. ورقَّ صاحب لصاحبه فقال الزميل (أرأيت - يا صاحبي - مرض نفسك وعلة قلبك؟ إن لكل داء دواء يستطب به!) قال في لهفة، (وما دواء دائي، وقد استعصى عليَّ أن أطب له؟) قال (لا ضير عليك، إن الزوجة والولد هما دواء قلبك وشفاء نفسك، إنهما ولا ريب يمسحان على آثار الضيق، ويمحوان علامات الضنا، وينفثان في الدار البهجة والنور، ويبعثان في القلب السرور والنشوة) فقال الفتى (لا عجب، ولكن أنَّى لي أن أجد الزوجة وأنا أمقت أهلي وأبغض عشيرتي وأفزع عن ذوي قرابتي) قال (أفحتماً أن تتزوج من أهلك وفي الدنيا مراد وسعة) قال (أما أنا فلا أعرف داراً أجد فيها شفاء علتي) قال (ماذا ترى في ابنة الأستاذ فلان؟) قال (هي فتاة لا أستطيع أن أسكن إليها. فأنا أرى في أبيها الرجعية والتزمت وضيق العقل وسفاهة الحلم، والفتاة في كنف مثل هذا الأب تستشعر السجن والغل معاً، فإذا انفلتت من سجنها انفلتت من قيود الشرف والكرامة) قال (هذا وهم باطل، ولكن نفس العزب تصور له خواطر تافهة مضطربة لتقعد به أن يكبل نفسه بالزواج) قال الفتى (لطالما طافت الفكرة بذهني فما دفعني عنها إلا أنني لا أجد من يتحدث بلساني ويكشف عن ذات نفسي) فقال الزميل (لا عليك، فإنا - منذ الآن - رسولك!)

وانطلق الرجل يمهد السبيل لصديقه الفتى، فما لبث الأب أن اطمأن إلى الرأي وأسلس للخاطرة فسميت الفتاة على فتاها.

وذاق الفتى - لأول مرة في حياته - لذة الحياة وهدوء النفس وراحة الضمير وسعادة العيش، فزوجته فتاة في ربيع العمر ورونق الجمال، تتألق شباباً وبهاء، وتشع نوراً وضياءً، وهي زوجة من طراز ممتاز، ترعى شأن الزوج وتحفظ ودَّه وتقوم على حقه، فيها اليقظة والنشاط وفيها الرقة واللطف. فهي تبذل جهد الطاقة لتهيئ داراً أنيقة فيها النظافة والنظام وفيها الهدوء والراحة وفيها السعادة والطمأنينة. وعاش الفتى إلى جانب زوجته يسعد بها ويرتاح إلى لقياها. ثم أقبل الطفل الأول يملأ الدار بهجة ورواءً، ويشد قلباً إلى قلب ويضم فؤاداً إلى فؤاد، وانطوت الأيام

وجاءت الحرب تنذر بخطر عظيم، وجاء الغلاء يريد أن يحطم سعادة قلبين، فعلت وجه الفتى غيرة قاتمة حين رأى راتبه الضئيل يتداعى أمام صفعات الغلاء وهي قاسية عنيفة ويتهاوى أمام حاجات العيش وهي كثيرة ملحة. والحكومة تنظر ولا ترى، وتتحدث ولا تفعل.

وأفزع الفتى أن يرى سعادته توشك أن تنهار لضيق ذات يده فأنطلق إلى المدير يكشف له عن خلجات ضميره ويكشف أمامه عن حاجات نفسه ثم راح يستجدي عطفه ويسأله أن ينتدبه مدرساً في السودان ليجد الحياة الطيبة والنعمة الوارفة. ورق قلب المدير للفتى الصريح فأجاب طلبته.

وعجل الفتى إلى زوجته يزف إليها البشرى. . بشرى راتبه الذي زاد ضعفين في لمحة عين. وعجبت الفتاة أن يضاعف راتب زوجها مرة واحدة فسألته في لهفة (وكيف؟) قال (لقد انتدبت مدرساً في السودان) وابتسمت الزوجة فقال لها (أو يزعجك أن أفعل؟) قالت (حسبي أن أجد لذة الحياة إلى جانبك وأن أسعد بخفض العيش في جوارك، ومالي هنا مأرب ولا حاجة) واطمأنت نفس الفتى حين وجد الخلاص، وحين فر - هو وزوجته وأولاده - من بين فكي الفاقة والغلاء والضيق قبل أن تعصره عصراً يهد من كيانه ويزعزع من سعادته.

يا لرجولتك أيها الفتى! لقد فزعت عن دارك ووطنك لتكون أباً وزوجاً تستعذب الغربة وتستمرئ الضنا وتصبر على رمضاء الحر ولفحه الهاجرة، لتهيئ لزوجك وبنيك حياة طيبة فيها الرفاهية والخفض.

وخَرَّ الفتى - بعد عامين - مريضاً تتناهبه الأسقام من وقدة القيظ وتتوزعه الأوجاع من لظى الحر، فارتد إلى القاهرة يتلمس الشفاء من علته ويطلب البرء من سقمه وإلى جانبه زوجته ترف حواليه رفيفاً حلواً يخفف من ضنى نفسه ويمسح على آلام جسمه.

وطال به المرض والفتاة إلى جانبه يتقاسمها الفتور والملل ويفزعها السجن والمرض، وإن فيها شباباً يصبو إلى الشارع ويهفو إلى السينما وينزع إلى المتعة فما تجد السبيل، غير أنها لم تعدم تعلة تتعلل بها لتفر من الدار ساعة أو بعض ساعة. وبدا عليها الضيق على حين تتصنع الوفاء، وأصابها الخور وهي تتخلق بالنشاط. وللمريض عين نفاذة وأذن واعية وإحساس مرهف، فأرخى الفتى لزوجته العنان علها تجد السلوى والمتاع.

واندفعت الفتاة إلى الشارع وإلى السينما، لا تعبأ بالمريض ولا تعنى بشأنه، وخلفته بين يدي الخادم تعبث به وتهمل أمره. وضاق الفتى بحماقة الزوجة الشابة حين رآها تسرف في الزينة وتغرق في التطرية وتفرِّط في أمر الدار والزوج والولد، فراح يحدثها حديث خواطره في لباقة ولين. ولكن الزوجة كانت قد علقت شاباً آخر ذاقت إلى جواره حلاوة الهوى ورشفت رضاب المتعة ونقعت غلة الحرمان.

وعند الصباح انطلقت الخادم لتوقظ الزوجة فألفت فراشها خالياً. . . لقد طارت الزوجة الخائنة مع شيطان من الناس. . . طارت لتذر زوجها وحيداً على فراش المرض يقاسي ألم المرض ويعاني هم الزوجة.

ونظر الزوج إلى بنيه وهم يتدافعون إلى حجرة أمهم وينادون (أمي. . . أمي!) فطفرت من عينه عبرة جرى لأنه أحس - في يوم ما - أن فقد الأم يخز القلب وخزات جاسية غليظة، ولأنه استشعر لذع الخيانة يسم حياته بسمات الخزي والمهانة، ويسربل أولاده بلباس السبة والعار.

آه، يا لقلبي! إن الزوجة حين ترتدغ في حمأة الخيانة تعلن عن أن دمها لم يشعر يوماً بالمعاني السامية والشرف والكرامة.

كامل محمود حبيب