مجلة الرسالة/العدد 850/صحائف مطوية في السياسة العربية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 850/صحائف مطوية في السياسة العربية

مجلة الرسالة - العدد 850
صحائف مطوية في السياسة العربية
ملاحظات: بتاريخ: 17 - 10 - 1949



هاشم الأتاسي

في سنة 1939 وفي عام 1943

للأستاذ أحمد رمزي بك

لقد رأيت في العدد الماضي وطنية هاشم الأتاسي تتجلى أمام الفرنسيين حينما أعتزل الحكم بإرادته، وقد أعجبت بهذا الموقف وقلت إنه يندر أن نجد الكثيرين من أمثاله في القرن العشرين وسط المشتغلين بالمسائل العامة في هذا الشرق، وسأقص عليك في هذه الكلمة شيئا من تردد السلطات الفرنسية، وماذا كان جزاء وطنيته وإخلاصه من بعض أولئك الذين فرض من المبدأ أن يكونوا من معاونيه وأنصاره، فإذا هم الذين عناهم أبو الطيب بقوله:

كدعواك كل يدعى صحة العقل ... ومن ذا الذي يدري بما فيه من جهل

ولقد أشرت في الكلمة السابقة إلى مذكرات رجال السياسة والحكم التي نشرت بمختلف اللغات، وكيف يحتاج إليها مثلي للوصول إلى ضبط الكثير من الحقائق، ومن قبيل هذه المذكرات أو أهمها مذكرات الجنرال كاترو، فقد أبلغني صديق كريم أن الجنرال بدأ ينشرها في جريدة الفيجارو الفرنسية، وكان بودي أن أطلع عليها قبل كتابة هذه الكلمة، فلم أستطع الحصول عليها كاملة بمصر، وعليه قدر على أن أنتظر حتى يتم طبعها كاملة كما قيل لي، فأبدي رأيي فيها كقارئ، أو كرجل لمس عن قرب شيئا من الحوادث التي تتناولها هذه المذكرات.

ولقد أشرت إلى تعدد مقابلاتي مع الجنرال طول شهر مارس 1943 وكان أغلبها في دمشق التي كان يفضل الإقامة فيها، بل وصرح مرارا أنه يعمل على نقل المفوضية العليا الفرنسية من بيروت إليها، واعتقد أنه لولا ما صادف كاترو من اعتراضات معينة من بعض الفرنسيين الذين يعملون معه، ولولا تأثير الوسط البيروتي لنجح في قصده هذا مدة وجوده بسوريا ولبنان على الأقل.

واذكر في إحدى هذه المرات التي قابلته فيها بمدينة دمشق وكان قد دعاني إلى قصر المفوضية بالمهاجرين، فتعمد أن يضع على المدخل مفرزة من حرس الفرقة الجرك لتحية ضيوفه، على مثل ما كان يعمل الجنرال فيجان، ولما قابلته أخذ يطوف بي في أنحاء الدار ويشرح لي محتوياتها ويشير بإعجاب إلى ما بذلته مدام كاترو في تهيئة حجراتها والحصول على الأثاث اللائق بها وكيف وفقت رغم ما يعترضها من صعاب في تنسيق الدار وجعلها صالحة لإقامة مندوب فرنسا الأعلى وقائد جيوشها.

والحقيقة أن الدار ظهر عليها في ردهاتها ومقاعدها وأركانها هذا الذوق الشامل الذي تفرغه يد السيدة إذا تولت بعنايتها تهيئة الدور الرسمية فتجعل منها بيوتا تصلح للاستقبال.

لقد كان الجنرال مرحا في كلامه مع المدعوين، ولما آن موعد انصرافهم أراد أن يتحدث حديثا خاصا معي فاستبقاني لديه على انفراد، والجنرال محدث لبق بدأ حديثه عن القاهرة وعن منزل في لبنان لشخص معين يسكن بيروت ويريد أن يؤجره للجنرال ومع ذلك يزج بأسماء معينة في مصر وضحك كثيرا من أساليب بعض الناس في حياتهم الخاصة والعامة، والحقيقة أن ابتداء الحديث السياسي عن صفقة فيها منزل للإيجار تحمل في ثناياها نكتة من إبداع النكت، وفي كلامه عن خلق هذا الوجيه الثري ما يجعل السامع يتجه اتجاها معينا نحو حكمه على كثير من الأمور، ولولا أن منافسة الجنرال من كبار القوم في بلادنا لما بدا أن لهذا الحديث موضعا، ولكن الجمع بين هذا ووضعه في الإطار الذي فتح الجنرال حديثه به يجعلني في حل أن أقول: أن الجنرال أعطى صورة واقعية لما كان يدور في تلك الأيام وأراد بظرف ولباقة أن يعرفني بالإشارة كما يقولون ما لم يرد أن يصرح به. ولكنه حينما تحدث عن هاشم بك الأتاسي: أشاد بوطنيته وإخلاصه لبلاده وقال: (أنه على رأيه دائما في أن قيام الدولة السورية وعلى رأسها هاشم بك أمر يرحب به ويكون من فخره إذا تم).

إننا معاشر الشرقيين تبدو لنا بعض الأمور وكأنها لا تستحق عنايتنا واهتمامنا: كما تبدو لنا أمور أخرى ذات أهمية خاصة مع أنها قد لا تترك أثرا لدى الغير، من قبيل هذا اعتزال هاشم بك للحكم فالأثر الذي يتركه في نفس الأوروبيين لا ينسى، وقد حدثني الجنرال فقال إنه دعي هاشم بك للغداء لديه وعلم إنه نزل في فندق أوريانت بالاس ولما انتشر خبر زيارته لدمشق تهافت الناس وذهبوا لرؤيته بالفندق وتحادثوا معه وأعربوا عن آمالهم في عودته. . . فهو رجل يتمتع بمنزلة خاصة لدى الشعب.

ذكر لي هذا عند كلامه عما يدور بخلده من ضرورة إبدال الوضع الذي قام مؤقتا في سوريا عقب وفاة المغفور له الشيخ تاج الدين الحسني. ولكني لمست هذا الإنصاف لهاشم بك في صفوف الفرنسيين من أعداء الكتلة الوطنية نفسها. . .

وفي هذا الاجتماع الأخير لخص الجنرال ما قام به من جهود في الفترة الأولى لشهر مارس 1943 فقال إن دائرة أحاديثه اتسعت رويدا رويدا فشملت عددا من السياسيين الممثلين لمختلف الأحزاب والدوائر في سوريا وأبدى رأيه في كل شخص وفي اتجاهات الأحزاب وتعاونها وتنافسها، وقد أطلعت بعد أيام على ما نشرته المفوضية على الصحف وقد أشارت إلى أن الجنرال يوالي استشاراته ويستمع إلى رؤساء الوزارات ورؤساء المجالس النيابية في الأحداث والأوضاع والحلول المقبلة - وزادت على ما سمعنا رؤساء الهيئات الاقتصادية والمالية وهذا ما لم يرد له ذكر في أحاديثه.

ولم يقتصر اتصاله على دمشق بل سافر إلى حلب وحمص ودعا إليه رؤساء العشائر والمناطق البعيدة وكان طول مدة شهر مارس في عمل مستمر واتصال دائم وكلما تعجلت السياسة البريطانية أو الأمريكية الأمور كان الفرنسيين أننا ندرس ونبحث ونستشير ونحقق حتى يأتي عملنا مطابقا للمصلحة العامة ولكسب الحرب. كتبت في كتاب الاستعمار الفرنسي في شمال أفريقيا ص 17 (أن الجنرل كاترو يجمع في شخصه بين القائد والسياسي معا وقد برهن على أنه صاحب عزيمة ودهاء، وفكرة ومقدرة) ص77 وأزيد على هذا أنه محدث من الدرجة الأولى لا تغادر الابتسامة وجهه، وهو يشعرك من أول مقابلة أنك موضع ثقته وأنه يحدثك بصراحة تامة وهو لن يخفي عنك شيئا مما يجول بنفسه ولكنه في الحقيقة إذا تكلم لا يعطيك إلا ما يريد هو إعطاءه.

وإذا عرض لشخصيات معينة أعطاك عن كل واحدة منها صورة حية لا تكرهك في الشخص المعين، بل يرسم لك مزاياه فتخرج وتكاد تشعر بأن جميع الناس من أصدقائه وأنه معجب بالنواحي الطيبة التي لمسها في كل واحد منهم.

ولا أخفي على القارئ أن الجنرال كاترو ترك أثر عميقا في نفوس من اتصلوا به، فقد جاءني رجال لم يكونوا في يوم من الأيام من أصدقاء فرنسا، وأبدوا لي دهشتهم لهذا التطور الذي بدا من غير تهيئة في جانب الفرنسيين حتى صرح أحدهم يقول: أنه يكاد يصدق أن هذا الجنرال راغب كل الرغبة في أن يرى البلاد السورية متمتعة باستقلالها.

وقد ظهر لي جليا أن الجنرال كاترو كان من بين الفرنسيين القلائل الذين أدركوا قبل الأوان صعوبة مركز فرنسا في سوريا ولبنان مع وجود الجيوش البريطانية فيها، وكان هناك فريق منهم يعيش سنوات 1943 - 44 - 1945 على غرار18 - 20 - 1921 حينما وجدوا البريطانيين قبلهم في البلاد: وجاء كاترو فكان بين أمرين.

1 - أما التظاهر بالتعاون مع الحليفة إلى نهاية الشوط.

2 - وأما التصادم من المبدأ معها

وقد فضل أن يجاريها في سياستها وأساليبها مع احتفاظه بحقوق بلاده، ولكنه لم يجد إخلاصا ولا تعاونا ولا فهما من معاونيه، ولذلك لم يلازمه النجاح الذي كان من المرجح أن يلاقيه

كنا ننتظر الوصول إلى نتائج حاسمة في النصف الأول من نهر ما حينما جاء المولد النبوي الكريم فأضطر الجنرال الفرنسي إلى قطع استشاراته لحضور الاحتفال به في بيروت، حيث أقيمت احتفالات رأى فيها المسلمون فرصة للأعراب عن وجودهم، ورأت فيه فرنسا فرصة لإعلان احترامها للنبي العربي.

ثم حدث تصادم لطائرة فرنسية مات فيها الكولونيل باريل وجرح فيها الجنرال ماسيت، وقد أقيمت جنازة عسكرية شائقة للفقيد الفرنسي وسارت فيها وحدات الجيوش الفرنسية المختلفة وقد تسلمت الكثير من عتاد الحلفاء وملابسهم وأحذيتهم وألقى الجنرال كاترو قطعة رائعة في رثاء الكولونيل القتيل كانت خير ما يمكن أن يعبر عن حداد فرنسا المقاتلة. . . وآمالها.

لا أدري إذا كانت بعض المصادفات تؤثر في اتجاهات معينة وعلى كل فإنه بقدر تحمس الفرنسيين للوصول إلى هاشم بك في تلك الفترة بقدر ما قامت الصعاب أمامه من ناحيتين: الطريقة التي سيعود بها إلى الرياسة هل تكون بناء على دعوة الجنرال وكيف تصاغ ثم الناحية الثانية: وهي ازدياد شقة الخلاف بينه وبين أنصاره.

ومرت الأيام وكان الجنرال قد ترك دمشق وعاد إلى بيروت تاركا أمر المشاورات في سوريا لمعاونيه: ثم عاد في الفترة الأخيرة من مارس إليها.

وفي يوم 24 مارس سنة 1943 تلقيت منه كتابا مطولا يعرب فيه عن أسفه لأنه لم يوفق إلى إقناع هاشم بك الأتاسي بالعودة إلى وزارة الجمهورية مرة أخرى ويبلغني فيه ما أستقر عليه الرأي في النظام الجديد الذي سيباشر التمهيد للانتخابات.

والحقيقة إننا جميعا دهشنا لهذا الموقف الأخير، وقد سافرت إلى دمشق أنصت إلى كل ما قيل في هذا الشأن وقيدت الكثير منه: ومع أن الكثيرين يلقون السبب على الفرنسيين فإن هؤلاء يشيرون إلى أعوان هاشم بك وأنصاره ورجال السياسة السوريين ويعدونهم المسئولين عن تردده أما أنا فاعتبرتها المفاجأة الثانية.

أحمد رمزي