مجلة الرسالة/العدد 850/الاتحاد الإسلامي
مجلة الرسالة/العدد 850/الاتحاد الإسلامي
للدكتور سيد محمد يوسف الهندي
قد كنت ولا أزال من أشد المتحمسين لفكرة إنشاء اتحاد إسلامي عالمي يضم الشعوب المتجانسة والدول المتجاورة الممتدة من الباكستان شرقا إلى تركيا ومصر غربا، وربما يتسع نطاقه فيما بعد في الناحيتين الشرقية والغربية إلى إندونيسيا والمغرب الأقصى. وازهي بالقول بأن المسلم الهندي أفعم قلبه إيمانا وإخلاصا لهذه الفكرة التي ازداد طموحه إليها بعد أن نجح في خلق أداة قوية فعالة، ألا وهي دولة الباكستان للمساهمة في إبرازها إلى حيز الوجود.
ولكن نظرة المسلم الهندي إلى العالم الإسلامي إنما كانت إلى وقت غير بعيد نظرة عاطفية خيالية هي أبعد شيء عن الحقيقة والواقع فإنه كلما حول وجهه إلى تلك الرقعة الشاسعة التي يقطنها المسلمون من العرب والعجم والترك رأى دولا قيل إنها مستقلة، وتيجانا ربما ادعى أنها ترمز إلى مجد الإسلام الغابر، وشعوبا مسلمة تؤلف الأغلبية الساحقة في حدود بلادها - الصفة التي كانت تنقص المئة مليون من المسلمين في الهند الموحدة والتي كان انعدامها مصدر جميع آلامهم وإخطارهم في المستقبل. فلم يكن المسلم الهندي ليتصور أن يكون هناك أي مانع عند تلك الشعوب المتماسكة والدول المستقلة من الاتجاه إلى التضامن والاتحاد على أساس الدين الذي كان ولا يزال يعتقد - حسب فهمه هو - إنه ملك وسياسة قبل أن يكون صلاة ودعاء. ومما ساعده على هذا الظن - الخاطئ مع الأسف - تلك الألقاب الفخمة المشعرة بحماية الدين ونصرة الإسلام والمسلمين التي يتحلى بها بعض الأمراء والأعيان في الأقطار المختلفة (كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد) ومظاهر أخرى مثل صدور الفتاوى من مشيخة الأزهر (إلى العالم الإسلامي كله) تلك الفتاوى التي عرفت الآن أنها لا تصدر عن شعور داخلي حر بخير (العالم الإسلامي كله) ولا عن دراسة وافية للأحوال والظروف الخاصة بالمسلمين في الأقطار المختلفة. بل إنها ربما تستصدر لمصلحة عاجلة. ويا حبذا لو أن كبار العلماء تنازلوا عن سلطتهم المنتحلة هذه كما فعلت تركيا حينما ألغت الخلافة بعدما رأت عجزها عن إسداء أي عون مادي أو أدبي إلى ما يسمى بالعالم الإسلامي.
كان من الطبيعي أن تتغير نظرة المسلم الهندي هذه الأيام الأخيرة على أثر التقارب عن طريق التمثيل الدبلوماسي وتبادل الزيارات. ولعله قد عرف أن المانع الحقيقي من التقدم نحو الاتحاد ليس عاملا خارجيا أجنبيا بل هو داخل نفوس إخوانه المسلمين الذين أصبحوا غير مستعدين لقبول هذه الفكرة. وقد اقتنعت أنا شخصيا بصدق ما صرح به البانديت جواهر لال نهرو، رئيس وزراء الهند، عقب زيارته الأخيرة للقاهرة من أن أي اتجاه إلى التكتل على أساس الدين في الشرق الأوسط أمر مستحيل، فاستعنت باليأس على التغلب على ما غمرني من القلق وبدأت أغتبط بواقعية رجال الحكومة الباكستانية حينما لاحظت فتورا في تصريحاتهم إزاء أي حلف رسمي، وظننت أن الفكرة قد وضعت على الرف أو كما يقولون في المثلجة إلى أن تنبعث من داخل قلوب المسلمين في جميع الأقطار الإسلامية على السواء حتى يجيء الاتحاد نتيجة لشعور عام صادق متدفق قوي.
ولكن ظهرت في الأسابيع الأخيرة بوادر تنذر بأن يتم على أيد أجنبية خفية ما لم يكن ليتحقق بالرغبة الذاتية فأثارت في نفسي خواطر رأيت أن أدمجها حتى يتبين كل منا حقيقة فكرة الاتحاد الإسلامي من أي صورة ممسوخة له ربما لتساور بعض الأذهان في الوقت الحاضر.
أن فكرة الاتحاد الإسلامي فكرة دينية بحت ترتكز من حيث المبدأ على الشعور بالأخوة وواجب المساهمة في الآلام نحو كل من يشارك الآمال وأهداف الحياة. ومن الواضح أن هذا الشعور داخلي شخصي اختياري محض ولا يحتاج وجوده إلى أية مبررات من المصالح السياسية أو الاقتصادية مع أن تلك الفوائد لابد وأن تنتج منه وترافقه إذا أحكم تدبير الوسائل الفنية الأزمة لها. فالاتحاد الإسلامي بطبيعته يأبى إلا أن يكون اتحادا بين الشعوب الإسلامية بعد أن تسترد هي الإيمان بالفكرة الدينية في تنظيم حياتها الداخلية وتدعيم علاقاتها الخارجية والدولية.
فما حال الشعوب الإسلامية في الآونة الحاضرة؟ ليس الكلام عن تركيا يصعب؛ فإنها جريئة صريحة تحدث ما تحدث عن علم. أما الممالك العربية فتكاد تجد لها ممثلين ومراقبين في جميع المؤتمرات مهما اختلفت أنواعها وتضاربت أهدافها، وقلما تلاقي خطة واضحة مرسومة بعيدة المدى في تصريحاتها أو تصرفاتها. وقد خيل ألي فيما يتعلق بالموضوع الذي نحن فيه أنها حريصة على الاحتفاظ بالشرف الذي كان لها بحق من حمل لواء الإسلام في الماضي ولكنها في الوقت نفسه تتوق وتجتهد وتتكلف ما يسمونه (مسايرة الغرب) باحتضان كل ما جد من النظريات والاتجاهات السياسية كما أن النساء المتجملات يلهجن بكل ما تبتكره باريس من الأزياء - حتى الذيول الطويلة!! - كل صيف وشتاء؛ أو لا ترى أنها ثارت مطالبة بالاستقلال والوحدة فكان من حظها الاستعمار والفرقة. ولا ضير في ذلك فإن الأمم كالأفراد كثيرا ما تخطئ حسابها وتفشل في خطتها ولكنها سرعان ما رضيت بالفرقة وبدأت تعتز وتباهي بالفوارق الوطنية فيما بينها كالأصل الفينيقي والحضارة البابلية والمدنية الفرعونية وما إلى ذلك مما نبشه الباحثون المستشرقون لتلهيتها (عن كل مكرمة) واستمر الحال كذلك طيلة الفترة ما بين الحربين إلى أن تغيرت الأوضاع الدولية وتدهورت الأحوال رأسا على عقب، فهتف هاتف من الغرب بضرورة الاتحاد فارتجلوا اجتماعا بين الملوك وإجماعا بين الحكومات على ميثاق الجامعة العربية. ومنذ ذلك اليوم و (العروبة) يخفق لها قلب كل عربي. وكلمة العروبة أو القومية العربية لم تكن واضحة المعالم أبدا وهذه هي نقطة الضعف لا شك فيه، فإن زعماء الثورة الأولين لم يعنوا حينما نطقوا بها شيئا يعارض الوحدة الإسلامية. وليس أدل على ذلك من أن طوائف معينة معروفة باعتمادها الاستعمار الأجنبي اعترضت سبيلها ولم تزل تقاومها حتى أرغمت الأكثرية العظمى على تلطيف، بل تغيير مدلولها تغييرا جوهريا بحيث أصبحت تعبر عن أهواء الذين يعادون الفكرة الدينية الإسلامية لا لشيء إلا لولائهم لدينهم؛ كفى بذلك شاهدا ما جاء في كتاب نبيه أمين فارس المسمى ب (العرب الأحياء) والمنشورات الأخرى الحديثة عن مقومات العروبة التي لا بأس أن يدخل فيها كل شئ من عصور ما قبل التاريخ إلى العهد الحاضر ما عدا الدين الذي يراد إبعاده عن حياة الغالبية العظمى من العرب. وأخيرا تصادف أن فقدت هؤلاء الطوائف ربيبة الاستعمار عمادها أو القط الذي كانت هي بمثابة المخلب له وذلك في وقت نجحت فيه فكرة فصل الدين عن السياسة بين المسلمين نتيجة لضعفهم وخيبة آمالهم، فليس للحال الجديدة لباسها - لباس الوطنية الصادقة (ولكن مع ضمان وضع خاص فليتأمل!) - حتى جاء الاعتراف باستقلال لبنان الذي لم يرض به كثير من الوطنيين المخلصين إلى آخر لحظة، رمزا للتبرؤ من العون الأجنبي من جهة والفكرة الدينية من جهة أخرى. وبعد بضع سنوات أصبح هذا الوضع، بفضل الجامعة العربية، من المبادئ الأزلية الذي ربما ينطوي الإسهاب في الكلام عنها على مجازفة خطرة.
قامت الجامعة العربية فابتهج بها المسلم الهندي كما أنه ابتهج بميثاق سعد آباد أو أي مظهر آخر للتقارب بين المسلمين حتى زواج الأميرة فوزية من جلالة شاه إيران، وربما عبر عن ابتهاجه بما ينبئ عن اعتقاده بأن الكتلة العربية أشد ارتباطا بالمسلمين في الأقطار الأخرى من شقيقتها و (بترونها) الكتلة اللاتينية فتحفزت الجامعة مرات عديدة لإنقاذ سمعتها كهيئة إقليمية محضة ونفت اهتمامها بالدين وأهل الدين حتى لا تفسد عليه صفقة الأصوات. وهكذا مضت الجامعة في تنسيق السياسة الخارجية للدول العربية تتوخى كسب الأصوات وتبادل (المواقف) - الذي يستلزم في بعض الأحيان التهاون في الحق - تحاول تهدئة فرنسا في دورة للأمم المتحدة ومساومة أسبانيا في دورة أخرى حتى أثبتت حوادث فلسطين أنها لم تكن خلقت لغير هذا العمل؛ وعلى كل حال فإن الجامعة العربية، مع أنها لم تكن تصلح من حيث تراكيبها لمقاومة الاستعمار إلا إذا كان من نوع معين، أيقظت شعورا قويا بين الشعوب العربية نحو التآلف والتآزر حتى أن هذا الشعور المتدفق ربما سبب متاعب للحكومات المصطنعة الغير الممثلة المتلكئة في الأمور، ولكن يجب التصريح بأن هذا الشعور إنما كان مبنيا على أساس العروبة وتناسي الدين أعني الإسلام.
(البقية في العدد القادم)
السيد محمد يوسف