مجلة الرسالة/العدد 844/على هامش (دراسات عن المقدمة):
مجلة الرسالة/العدد 844/على هامش (دراسات عن المقدمة):
تحامل ابن خلدون على العرب
للأستاذ محمد سليم الرشدان
- 2 -
(في الفصل السابق من هذا البحث برهنت على أن دفاع الأستاذ الحصري بك عن ابن خلدون في تحامله على العرب (بكتابه دراسات عن المقدمة) لم تكن تؤيده أقوال ابن خلدون نفسه، واستشهدت بنصوص (المقدمة) التي اعتمد عليها، مثبتاً أن الاستمرار بتلاوة تلك النصوص ينطق بعكس ما يريده الحصري، ويقوم حجة على أن ابن خلدون تعمد ذلك التحامل، وأراد به العرب في أمصارهم وبواديهم. . . وها هنا أكمل التعليق على هامش تلك (الدراسات)، مبيناً وجوه الرأي في ذلك التحامل وأسبابه المحتملة. فأقول:)
لعل سائلاً يسأل، ما سبب تحامل ابن خلدون على العرب بهذه الصورة التي لفتت أنظار الباحثين، حتى من غير العرب؟! فجعلت البعض يظنون في حقيقة نسبة شتى الظنون، وجعلت البعض الآخر يتهمونه في قوميته. كما جعلت هذين الكاتبين، وأعنى بهما (بارون دوسلان الفرنسي) و (جودت باشا التركي) يتلمسان له وجه العذر بهذا التأويل الذي أولا به كلمة (العرب) عنده كما مر آنفاً.
فهل كان حقيقة دعياً في (نسبه)، فهو يحمل في نفسه موجدة على العرب الذين هدموا مجد أسلافه - فيما إذا كانوا من غير العرب! - وسلبوا حريتهم. فهو من أجل ذلك موتور، وصاحب الترة كثيراً ما يجنج به الخطل، ويميل مع الهوى كل الميل دون روية أو تبصر.
أم كان حقيقة متهماً في (قوميته)، فهو من أجل هذا الالتواء والشذوذ، يتحامل على العرب شر تحامل، ويرميهم بهذه العيوب التي أحاطهم بها، وينسب إليهم أسوأ الصفات، وأية صفات أسوأ من هذا الذي وصف به العرب وبالغ في وصفه؟!
هذا ما نقف للإجابة عليه، وأنه لموقف عسر شائك، لا يخلو صاحبه من أن يتحكم به هواه، أو يضل طريق الصواب في اجتهاده. على أنني سأحاول - جهد الطاقة - أن أتقي ذلك (بالشمال وباليمين) وأن أقف عند حد الاعتدال فيما أعرض له. فأقو إن اتهام ابن خلدون في وجه من الوجوه التي ذكرت، والتي يمكن أن تفترض كذلك، ليس بالأمر البسيط الهين. وإن ابن خلدون لو لم يكن له من الفضل إلا أنه المبتكر الفذ الذي سبق الأولين والآخرين من سلفه، في استنباط فلسفة علم التاريخ وفلسفة علم الاجتماع لكفاه ذلك فخراً. وحسب هذا الذي تراوده نفسه أن يتهم ابن خلدون في أية ناحية (فكرية أو نفسية)، أن يضع بين يديه شيئاً من أقوال عظماء الأجيال فيه، في شتى العصور ومختلف الأمم. وحينذاك - بعد أن يعرف ابن خلدون حق المعرفة - يستطيع أن يتحدث عنه بالكيفية التي يطمئن إليها. وأن تلك الأقوال التي أثرت عن كبار الباحثين في (ابن خلدون) لوافرة جمة يضيق عنها الحصر. على أنني برغم ذلك استشهد منها تأييداً لما ذكرته عن ذلك المؤرخ العلم الفيلسوف.
يقول (البارون فون كرايمر) العرباني النمسوى، في رسالته (ابن خلدون وتاريخه لحضارة الدول الإسلامية) أن ابن خلدون يؤرخ الحضارة الإسلامية وهو: (من بين المؤرخين المسلمين أول من خصص فصولاً ضافية للتحدث عن النظم السياسية وأنواع الحكم. . .).
ويقول الأستاذ (ثميث) الإنجليزي، وهو أحدث من درس ابن خلدون ونقده ما يأتي: (إذا وجب - مع بعض التحفظ - أن نعتبر ابن خلدون مؤرخاً للحضارة الإسلامية، فيحسن أن نتدبر ما إذا لم يكن قصد ابن خلدون الحقيقي، هو أن يقدم لنا أمثلة إيضاحية، ومجموعة تبين لنا ما يعبره موضوع التاريخ وجوهره. . . ولقد كانت هذه الفكرة العظيمة المستنيرة في فهم التاريخ بأنه سجل لتطور الإنسان الاجتماعي مترتباً على العوامل الطبيعية، وناشئاً عن تأثير الوسط وتفاعل الفرد والجماعة، خليفة بأن تجعل كتابة مفتتج عهد جديد. . .)
ويعتبر الأستاذ الهولندي (دي بوير) ابن خلدون فيلسوفاً (ويضعه في ثبت الفلاسفة المسلمين إلى جانب ابن سينا والغزالي وابن رشد وابن الطفيل، وينوه بقيمة المنطق في صوغ نظرياته. ويصفه بأنه مفكر متزن. . .)
ويعبره آخرون كثيرون في مكانة لا تقل عن هذه المكانة التي وضعه فيها هؤلاء الباحثون. ويصرحون بذلك على مرأى ومسمع من أساطين العلم والفكر، دون أن يجدوا من يعارض قولهم، أو ينتقص قيمته من حيث الحقيقة، أو يتهمهم بالمبالغة في سرد هذه الحقيقة.
ونحن حين نعرف ابن خلدون عن هذا الطريق، نقف حيال آثاره موقفاً لا يزايلنا معه أجلاله وأكباره، وتقدير اللائق بمكانته العلمية الرفيعة. . . على أنه من الجدير بنا في هذا المقام إلا نتمهن رأينا وتفكيرنا، فيصور لنا احترامنا لابن خلدون سقطاته التي وقع فيها حسنات كلها. وهيهات! فالحق أبلج والباطل لجج، وأن الحقيقة التي لا نرتاب في صحتها هي أن ابن خلدون قسا في حكمه على العرب قسوة بالغة، وحكم عليهم حكما كان من القمين به وبمكانته العلمية أن يتبصر كثيراً في إصداره والمجاهرة به.
وأما أنه أصدر هذا الحكم لأنه كان دعي النسب في العرب، فذلك أمر يحتاج البت فيه والجزم في صحته إلى كثير من التدقيق. ولا أدري هل كان ابن خلدون دعياً في نسبه حقاً؟! وأنى لنا معرفة ذلك لا تخالطها ريبة، ولا يمازجها شك!!
يقول الرجل (أعني ابن خلدون) عن نفسه أن يرجع في أصله إلى العرب اليمانية في حضر موت، (ونسبه إلى وائل بن حجر، ويعتمد في ذلك على رواية النسابة الأندلسي ابن حزم (توفي سنة 457هـ) غير أنه يشك في صحة هذه السلسلة، ويعتمد أن أسماء منها قد سقطت. لأنه إذا كان خلدون هو جده الداخل إلى الأندلس عند الفتح، فإن عشرة أجداد لا تكفي لقطع ستة قرون ونصف التي انقضت منذ الفتح حتى مولده. وفي رأيه أنه يجب لقطعها عشرون، باعتبار ثلاثة أجداد لكل قرن. وأما نسب جده خلدون الداخل إلى الأندلس، فهو كما روى ابن حزم أيضاً: خالد، المعروف بخلدون بن عثمان بن هانئ بن الخطاب بن كريب بن معد بن الحارث بن وائل بن حجر. فابن خلدون - طبقاً لهذه النسبة - سليل أصل من أعرق الأصول العربية اليمانية. . .).
هذا ما يقوله ابن خلدون من نفسه مستقى من تلخيص الأستاذ عبد الله عناني المحامي الذي يقول في تعليقه على هذا النسب ما يلي: (ولكن هنالك ما يجعل على الشك في صحة هذا النسب البعيد، الذي يدونه ابن حزم لأول مرة في القرن الخامس الهجري. ويقوي هذا الشك لدينا ما نعرفه من ظروف الخصومة والتنافس بين العرب والبربر في الأندلس. . . وكانت العروبة في الأندلس شرفاً يرغب في الانتساب إليه، لما كان لها من السيادة والنفوذ، ولكن الشك كان يحيق بأنساب كثيرة من أهل العصبية والرياسة. بل لقد تطرق هذا الشك إلى أنساب زعماء الفاتحين أنفسهم، فقيل عن طارق بن زياد أنه من البربر، وقيل أنه فارسي من موالي العرب. . .).
ويلتفت الأستاذ عنان بعد هذا التعليق إلى نسب ابن خلدون، التفاتة بارعة، مستقرئاً ذلك من الحقيقة الراهنة مع ابن خلدون. فيقول: (وهناك أيضاً ما يبعث على التأمل في تعلق ابن خلدون بهذه النسبة العربية، وهو أنه في مقدمته يضطرم نحو العرب بنزعة قوية من الخصومة والتحامل، بينما نواه في مكان آخر من تاريخه يمتدح البربر ويشيد بخلالهم وصفاتهم).
وهذا الذي يقوله الأستاذ عنان يكاد يقره الكثيرون، وذلك حين يؤكدون: أن مثل هذه الخصومة البادية في تحامل ابن خلدون على العرب، لا يمكن أن تصدر عن مؤرخ استهدف الحقيقة، وزاملته النزاهة، وصحبته الاستقامة. كما أنه من البعيد المستهجن أن لا تكون الأمة استطاعت أن تتغلب على دولتين من أقوى دول الأرض يومذاك، وأن تشيد على أعقاب ملكهما ملكاً تزدهر فيه الحضارة ويعم الرخاء، ويستبحر العمران، ويقوى على مقارعة الخطوب ومصاولة الأيام سنين طويلة وعصوراً مديدة.
أجل، إنه من المستهجن حقاً ألا يكون لهذه الأمة من المزايا ما يجعلها في نظر ابن خلدون في مصاف الفرس والرومان، أو في مصاف (البربر) على الأقل!! الذين امتدحهم كثيراً، وأطنب في مدحهم، وذكرهم في كثير من المواطن التي كان للعرب ما يفوقها، فضلاً عن أن يماثلها ويسير في تهجمها. وأن ذلك عجيب يستفز الريبة!!
إذن فلم يبق أمامنا إلا أحد وجهين: إما أن ابن خلدون كان اتهامه في نسبه حقيقة راهنة، حتى بدر على لسانه هذا الذي بدر الشك في ترتيب ذلك النسب، ثم هو يدعيه ويتظاهر به، حرصاً على مكانته لدى الملوك والأمراء، إذ كانت العروبة - كما يذكره الرواة - (شرفاً يرغب في الانتساب إليه). إلا أنه ينم عليه قلمه، ويكشفه تعصبه، فإذا هو عدو في ثياب صديق، وإذا هو يحمل ضغينيين:
أولاهما: هذا العداء الموروث الذي كانت تنطوي عليه تلك الأقوام المختلفة من دعاة الشعوبية في شتى الأقطار التي دخلها العرب غزاة فاتحين.
وأخرهما: هذا الحقد المرير الذي يضطرم في دخيلة نفسه، كلما الفاه محمولاً على أن يتظاهر بالانتساب إلى غير أهله، حرصاً على مكانه بين الناس!
ومن جراء هذه وتلك ينبري ملتمساً المثالب في كل باب، ومقتنصاً المعايب من كل سبيل، ومنقباً عن أسباب الخيبة والفشل وانتقاض العمران، ليلبس ذلك كله للعرب ويسنده إليهم، ويلحقه بهم غير مستنكف ولا متورع.
وإما أن يكون ابن خلدون على النقيض من ذلك، أي أنه عربي محض، وأن تحامله على العرب كان وليد تأثره بأوضاع شخصية، وظروف خاصة أحاطت به في شتى أطوار حياته وتشتت بها شمله، وتغرب عن بلده، وقاسى من العناء والمشقة الدسائس وحسد الحاسدين، ما يجعله يسئ الظن بأقرب المقربين إليه فيعيد هذا الفساد الخلقي إلى نقص موروث، تناقله الأبناء عن الآباء.
أضعف إلى ذلك أنه كان يعيش في زمان كثرت فيه الدويلات، وانتقصت فيه ممالك الإسلام من أطرفها. فهذا (تيمور لنك) يكتسح الممالك الإسلامية من الشرق فتخر بين يديه دولة أثر دولة. . . وهؤلاء الأسبان في الأندلس، يدحرون المسلمين أمامهم، وينتزعون منهم بلداً أثر بلد. وهنالك الثورات والقلاقل التي كانت لا تخبو نارها، ولا يخمد أوارها. ثم هو لا يزال يشاهد من أهوالها ما يجعله ذاهلاً حائراً، لا يدري إلى أية فئة ينحاز، ولا إلى أي قبيل يلتجئ!!
وأذا ما التزم العافية عاش عالة على سواه، وبقى هملا لا قيمة له ولا أثر، وهيهات أن يرتضي ذلك ابن خلدون، وهو سليل السادات، وحفيد الأمجاد. إذن فلا بد من أن يخوض هذه المعممة، ويصيبه من شرورها شتى الألوان.
ومن ظن ممن يلاقي الحروب ... بأن لا يصاب فقد ظن عجزا
فابن خلدون إذن حين يحمل على العرب هذه الحملات، إنما يتحدث عن عرب زمانه، ومن يدري، فلعلهم - شأن من يؤثرون الشقاق على الألفة، ويظهرون العدو للإيقاع بأخوانهم!! - جديرون بهذا الذي نعتهم به، بل خليقون بأكثر منه. . . وهو حين يتجاوزهم إلى من سبق من أسلافهم لم يزد على أن يأخذ البرئ بجريرة العاصي، وتلك سنة من جمع به هواه.
وعين الرضا عن كلُّ عيب كليلة ... كما أن عين السخط تبدي المساويا
هذا ما عن لي أن أقوله في تعليقي على رأي ابن خلدون في العرب، وذلك (على هامش دراسات الأستاذ الحصري). ولعلي أميل في تعليل تحامله إلى الرأي الثاني وهو في يقيني أقرب إلى الحقيقة والواقع.
وهنا أختم كلامي بتعبير كان يكرره ابن خلدون كثيراً - وذلك على سبيل التيمن والبركة - فأقول: والله تعالى أعلم!
(زحلة - نزل إلياس ثابت)
محمد سليم الرشدان
(ماجستير في الآداب واللغات السامية)