مجلة الرسالة/العدد 843/من معجزات الإسلام في القرن الرابع عشر
مجلة الرسالة/العدد 843/من معجزات الإسلام في القرن الرابع عشر
الهجري:
بين مهاجري قفقاسيا الجنوبية
قالت السيدة: (هذه الأرض الطيبة فليباركها الله الرب لأهلها)
للأستاذ أحمد رمزي بك
إن القوة الإسلامية التي بعث بها الخليفة عثمان بن عفان وكانت من عرب الجزيرة وأهل الشام تحت قيادة حبيب بن مسلمة الفهري إلى أرض الشمال لازمها الحظ في الحروب حتى أخضعت ما وراء أرمينية ونفذت إلى بلاد القوقاز، ولما طلبت الإمداد جاء إليها جيش من عرب الكوفة عليهم سلمان بن ربيعه الباهلي وهو سلمان الخيل وكان ذلك المدد من المنمية عن طريق أذربيجان التي يتحدثون عنها اليوم.
وانضم الجيشان حتى أتوا إلى بلاد الكرج وجاء صاحب فتوح البلدان بكتاب الأمان الذي أهل تفليس وقال صاحب معجم البلدان إنها أي تفليس بقيت قروناً بيد المسلمين ثم خرجت من أيدهم ثم عادت فخضت لآل سلجوق ثم لأهل خوارزم وأخيراً لملك التتار ولا تزال بأيديهم.
فهذه البقعة من أراضي القوقاز بجبالها العالية ومروجها الخضراء وغاباتها وثلوجها ومياهها العذبة روتها دماء الفاتحين من المسلمين، وطالما سرحوا خيولهم فيها كما أنها استظلت بأعلام العروبة والإسلام في عهود الراشدين وبني أمية وبني العباس وفي يوم قريب من الأيام القادمة سنعثر حتما على بقايا الآثار الإسلامية وسنقرأ ويقرأ من يأتي بعدنا ما نقشه السلف على الأحجار تأكيداً لتلك الفتوح وإثباتاً بأن هذه الأرض لشعوب أسلمت ودخل أهلها في دين الله أفواجاً.
ومن حوادث القرن السابع الهجري أن الأمير بدر الدين الخازندار كان على ولاية يافا من قبل المصريين في عهد الملك الظاهر بيبرس وكان لا تشرد منه شاردة فأتاه الخبر بأن ملكاً من ملوك الكرج قد دخل عكا عن طريق البحر في زي الرهبان يقصد بيت المقدس للزيارة فبعث إليه وقبض عليه وسيره للسلطان بدمشق فأنزله ببرج من أبراج قلعتها حتى بعث بنفرين إلى بلاده ليعرفهم بأمره حتى إذا تأكد السلطان من حقيقته أعاده معززاً مكرماً.
وكانت الصلات قائمة على أهل تفليس وبقية سكان من جهة جورجيا وبلاد المسلمين ومن جهة أخرى وأطلعني صديق لي على صور لبعض المساجد هناك وعلى المنائر وقد ظهرت بغير أهلة وقال الصديق هذا أن الناس يؤكدون أن زعيم روسيا من جورجيا والحقيقة أن والدته كرجية أما والده فهو من الشمال من إقليم (استويا) وهو الذي يطلق عليه الجبليون (قوشحا) وهذا الصديق من أهل هذا الإقليم ويقول إن غالبية (الأساتين) مسلمون ويغلب عليهم التشيع وأن والد الزعيم البلشفي كان مسلماً شيعيا وأمه كرجية مسيحية ولما مات أبوه أرادت أن تجعل منه قسيساً فأدخلته مدرسة دينية: فخرج منها يدعو إلى الثورة.
كنت في أواخر عام 1928 بمدينة استنبول بين القارتين أوربا وآسيا على ضفاف البوسفور ومرمرة حيث يلتقي البحران وكان قد مضى تسعة أعوام أو عشرة على إمضاء هدنة الحرب الأولى، ومر أكثر من ذلك على قيام الثورة الروسية الكبرى التي حررت الملايين من البشر في زعمها وسببت تشتيت الآلاف من الناس ففر المرء من مواطنه ومن أمه وأبيه والتمس الخلاص من الموت، فكانت استنبول أول مرحلة من مراحل الهجرة الطويلة التي بدأت عام 1918 ولم تنته بعد.
وكان المهاجرون يفضلون العاصمة التركية القديمة لا لأنها بقعة من أجمل بقاع الأرض فحسب بل لأن من بينهم من هم من أصحاب العقول أي الفكر ومن هم من أصحاب القلوب أي العاطفة، فالأوائل يفضلون مركزاً قريباً يرابضون فيه للمراقبة وتلمس الأخبار في بلادهم أما أصحاب العاطفة فهم الذين لا يصدقون بوقوع ما قد حدث ولا يسلمون بما قد رأته أعينهم ولمسته أيديهم، إذ ليست الثورة عندهم إلا كحلم من الأحلام، فمثلهم ممن طالت به الغربة كمثل أهل الكهف (إذ يتساءلون بينهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم) كذلك هم تمرَّ بهم الأيام والشهور والسنوات وهم في حلم دائم ينتظرون اليقظة لتأتي إليهم بالحقيقة أو هم يسرح بهم فيقولون: (سنفتح أعيننا يوماً لنعود إلى بلادنا وأعز شيء لدينا ولن نترك استنبول أبداً لأننا الطليعة الأولى التي ستترك أرض المهجر وتستأنف حياتها الأولى بأرض الوطن يوم يزول حكم البلاشفة وليأت من بعدنا من يشاء).
تلك كانت أمانيهم وهذه كانت آمالهم تقرأها مرسومة واضحة في عيون الفريق الأكبر من مهاجري روسيا سواء من موسكو أو شبه جزيرة القريم أو بلاد القوقاز. رأيتهم وعاشرتهم وصادقتهم وأنست بهم في العاصمة القديمة للدولة العثمانية، كانوا من أجناس وأعمار مختلفة ولم يكونوا من طبقة أو فئة واحدة فنقول النبلاء مثلاً أو الرأسماليين أو التجار أو الصناع أي الذين أضرت بهم الثورة بل كان بينهم العمال والمزارعون والخدام، لم يكونوا من جنس واحد أو وطن واحد أو دين واحد بل كانوا يهوداً ونصارى ومسلمين كانوا شيعة وسنية: فهم مع اختلاف أديانهم وطبقاتهم وأجناسهم ومراتبهم يمثلون دنيا بأكملها لا وطناً واحداً بل يمثلون قارة من القارات.
وكانوا مع اختلافهم هذا وتباين مذاهبهم السياسية والفكرية تجمعهم عقيدة واحدة وأمل ثابت وفكرة راسخة: هي أنهم مهما طال بهم الزمن وأن تقطعت بهم الأسباب سيعودون يوماً ما إلى تلك الأرض الشرود التي ولدوا عليها ونشئوا بها، والتي ذهبت من بين أيديهم فصارت حلماً في أذهانهم يمثله الحنين الدائم والذكريات الخاثمة على صدورهم وخفقات القلوب لدى أي خبر يأتي من عزيز في بلاد لا طريق للوصول إليها.
وكانت الحكومة التركية قد أمضت مع الحكومة السوفيتية الروسية اتفاقاً للجنسية جعلت فيه نصاً بخول كلُّ مسلم من مسلمي روسيا يلجأ إلى الأراضي التركية الحق في اختيار الجنسية التركية وحرمت على اللاجئين من غير المسلمين هذا الاختيار فكان من نتيجة ذلك أن حصل المسلمون من المهاجرين على تبعية البلاد التي استوطنوها وتمتعوا بحقوق المواطن التركي بينما بقي آلاف غيرهم يحملون جوازات السفر التي أطلقوا عليها أسم (نانسن) والتي تجعلهم عرضة للنفي والتشريد في أي وقت - وبمرور الزمن تبين لفريق كبير من المهاجرين هذا النص فقالوا لأنفسهم إن كلُّ مهاجر من أصل روسي أو من الأجناس التي خضعت لروسيا ينشرح صدره للإسلام ويشهر اعتناقه له، يكتسب تواً الجنسية التركية ويصبح عالقاً بتلك الأرض الطيبة التي تفيض عسلاً ولبناً حيث المناظر الخلابة والمياه العذبة والطيور المغردة وحيث الحياة اللينة السهلة التي تعطي ما تشتهي، وأهم من كلُّ ذلك العيش في عالم قريب من الأرض التي نحن إليها - فلم لا تقدم على ذلك؟
وكان أن دخل عدد من المهاجرين في دين الله أفواجاً منهم اليهودي والارثوذكسي والحر العقيدة، وفيهم التاجر والمالي والفنان، منهم من آمن بحق ومنهم آمن ظاهرياً وبقي على دينه الأصلي ولكنهم جميعاً تسموا بأسماء تركية وأخرى إسلامية وسجلوا ذلك على أنفسهم فأصبحت معاملاتهم وتصرفاتهم خاضعة لصفتهم الجديدة وشخصيتهم التي أخذوها وبهذا ضمنوا كإخوانهم المسلمين البقاء في تركيا والحصول على تبعية خاصة وتنازلوا عن أوراق (نانسن) وقواعدها ومضايقاتها وفي ذلك كله راحة كبرى واستقرار لهم.
ومن العائلات التي قذفت بها ثورة 1917 إلى الهجرة عائلة من أشراف مدينة تفليس تعرفت إليها بمدينة استنبول وارتبطت منها بروابط الصداقة والمودة الدائمة وكان تركها لموطنها الأصلي شاملاً أي كان بالخدم والاتباع صغاراً وكباراً وكانت إقامتها في مدينة استنبول ثم نقلت إلى ضاحية على الشاطئ الأسيوي. وكان منزل هذه الجماعة قطعة صغيرة من أراضي جورجيا الشهيدة يجمع كلُّ ما في الروح القوقازية من مرح وسرور وحيوية مع أدب جم وحساسية متناهية وعطف على الفقير وتواضع مع الناس بغير تبذل وكانت مظاهر الكرم والرغبة في إدخال السرور وإراحة على الضيوف من الأمور الثابتة الراسخة التي يقوم بها الصغير قبل الكبير أو الخادم عند غياب السيد، وتفليس ملتقى الشرق مع الغرب بل هي قطعة من هذا الشرق الأوسط ارتباطنا بها خلال القرون الماضية، لا يفصلنا عنا فاصل.
ومن منا لم يسمع بمدينة مراغه وعلمائها أو برذعة وما كان عليه في الماضي وهذه الأنهار المنحدرة من جبال قفقاسيا أو من جبال آسيا الصغرى يعرفها مؤرخو العرب ويتحدث عنها مؤلفوهم ويشاء القدر أن تلتقي الأنهر وتصب في بحر قزوين. فالصلات بيننا وبين تفليس كانت قائمة مستمرة ولم يقطعها إلا مجيء الروس في غفلة من الزمن وقطعهم لهذه البلاد وحرماننا منهم وحرمانهم منا. فالوصل حالة طبيعية والقطع الروسي حالة غير طبيعية: تتساءل إلى متى تدوم؟ ولذلك تشعر أنك لست غريباً عن هؤلاء القوم من أهل تفليس حيث تطل جبال قفقاسيا من الشمال وحيث تظهر في أحيائها المنابر وبقايا المساجد التي كانت يوماً ما عامرة.
لقد أنسنا بالأيام والليالي التي قضيناها مع القوم بل سعدنا بها وكان بالمنزل الذي يقع على شاطئ بحر مرمرة وكيل يدعى قاقتراتز نشأ أرثوذكسياً على مذهب كنيسة جورجيا وانتهى به المطاف أن دخل وتسمى باسم تركي، وكان يعامل كأحد أفراد العائلة، لا يرد له طلب ولا يجنح بطبعه إلى شدة أو إلحاح؛ فهو جزء من البيت الذي اعتاد عليه في تفليس واستمر على العيش فيه بتركيا لا فارق بين الحالين سوى السنوات تمضي سراعاً.
كان محدثاً لبقاً له مكانه على المائدة الرئيسية: يشرب الأنخاب ويحضر لكل ضيف كلمة طيبة يلقيها بأسلوبه الخطابي مرحباً بالضيف هاتفاً باسمه ولا تنسى أن الموائد تبدأ من الثامنة ولا تنتهي إلا عند انتصاف الليل، كانت تمد بالردهة الكبرى شتاء، وفي الحديقة تحت ظلال الأشجار المطلة على البحر صيفاً، حيث تكشف وأنت جالس مناظر جزر الأمراء (برينكبو)، ومرت الأيام واعتدنا اللغة الكرجية وألفاظ التحية بها، وأعقب الصيف شتاء وجاءت السنوات تترى. وفي يوم أيام الصيف 1934 توفي هذا الرجل الذي أمضى حياته مع أهل هذا البيت الكريم.
وكانت السيدة الفاضلة تعرف قدر إيمانه وتمسكه، فأمرت بأن يؤتى بقسيس أرثوذكسي وأن يقيم مراسم الصلاة ليلاً، وأوقدت الشموع وسهر أهل البيت يرتلون الصلاة وينشدون ترانيم بلاد الكرج بلسان أوطانهم، حتى انتهى الأمر عند مطلع الفجر، وانصرف رجال الدين وقد نفحتهم بمبلغ لا يستهان به. وكان خروجهم من المنزل تحت جنح الظلام في قارب أعد لهم لينقلهم إلى المرسى المجاور حتى لا ينتبه لمقدمهم ومسيرهم أهل القرية.
وفي الصباح المبكر جاء مختار القرية ومعه الهيئة الاختيارية من أهل بوستنجي ومعهم الخطيب والإمام، وتسلموا جثمان الوكيل وتولوا غسله وتكفينه على سنة النبي وتعاليم الإسلام، وساروا به في جنازة محمولاً في نعش على الاعتناق، حتى أتوا المسجد فصلوا عليه المسلمين، وقاموا بدفنه في قبور المسلمين وانصرفوا بعد أن قدموا تعازيهم لأهل الفقيد والسيدة الفاضلة
وكانت السيدة على شيء كبير من مكارم الأخلاق، يغلب عليها الحياء وتخشى أن تجرح الناس في عواطفهم وأفكارهم، فاستعملت الحيلة مع القرية وإمامها، ووسطت من حادثهم برفق وتؤدة، وطلبت إليهم أن يعملوها عن رسوم الحكومة وتكاليف الجنازة، وما يطلبه أهل المسجد الذي أقيمت الصلاة فيه، وما تكلفته البلدية من ثمن للكفن والغسل ومكان للدفن فدهشت السيدة حينما تقدم كبير القرية وقرر أمامها: أن القرية لا تطلب شيئاً وأن الجماعة من الرجال الذين حملوا النعش متطوعون وأن ما قام به إمام المسجد وخطيبه إنما هو واجب عليهم إزاء كلُّ مسلم، وأن هذا البلد ليرحب بأن يدفن في ثراه رجل نطق بالشهادتين وأتى إلى بلادهم لاجئاً فحباه الله بنور الإسلام والهداية.
ونظرت السيدة الفاضلة إلينا نحن معاشر المسلمين وقد أتمت حديثها، وقامت من مقعدها وأخذت حفنة من تراب الحديقة وقالت: هذه الأرض الطيبة فليباركها الله، لقد حمتنا بعد جور وأنقذتنا من ظلم، أما إن أر ما رأيت من أهل الإسلام وما بذلوه لغريب ليس منهم، فإني لولا قدم الأسم الذي أحمله لأعلنت اليوم إسلامي لأعلنت اليوم إسلامي ودخلت بينكم. إني أفهم لماذا لا تدخل الشيوعية بينكم. . . .
أحمد رمزي