مجلة الرسالة/العدد 843/جيوفاني بوكاشيو

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 843/جيوفاني بوكاشيو

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 08 - 1949



للسيدة الفاضلة ماهرة النقشبندي

1313 - 1375

ولد جيوفاني بوكاشيو في باريس عام1313، كان والده في زيارة لتلك المدينة في مهمة تجارية. فقد أحب الوالد فتاة فرنسية تدعى (جان) وكان جيوفاني ثمرة هذا الحب الجامح، ولم يعرف من حنان هذه الأم أو ذكرياتها سوى بعض الحروف المتشابهة التي يحملها اسمه من اسمها، إذ عاد والده إلى فلورنسا بعد سنة من ولادته، وتزوج مباشرة بفتاة اسمها (مرغريتا) ولدت له ولداً شرعياً سماه (فرنسسكو). لقد كانت طفولة خالية من الحنان والرحمة والرعاية، فماتت في نفسه الغضة المعاني الإنسانية في الحياة لأنه لم يشعر بها، وهذا يفسر من ناحية نفسية قسوته الشديدة وتهكمه المرير وعبثه بالفضائل المعنوية التي يعلم أن البشر لا يعرفونها أبداً، في قصصه، وفي الأشخاص الذين تتصل بهم تلك القصص من قريب أو بعيد.

وقد قضى وقتاً غير يسير من طفولته في تسكانيا، ووقتاً في مسقط رأس والده، وحينماً في ضواحي فلورنسا، وخاصة في التلال حول فيزول، حيث كتب كتابه العظيم (دى كامرون) وأعماله الأدبية الأخرى. وأرسله أبوه إلى (نابولي) وهو لا يزال شاباً في الحادية والعشرين من عمره ليتعلم مهنة تكون عوناً له على حياته المقبلة. وهناك في تلك المدينة الساحرة، لقي صبيحة يوم السبت - المقدس في كنيسة القديس لورنزو - فياميتا الابنة غير الشرعية للملك روبرت ملك نابولي الملقب (بالعاقل)، فأحبها من النظرة الأولى حباً ملك عليه قلبه وحياته وجعله مسلوب اللب لا يعيش إلا لأجلها مدة اثنتي عشرة سنة، حتى ماتت عام 1348 في الوباء المعروف في التاريخ الأوربي بالموت الأسود.

كان حبه يشابه في شدته حب بتراك للورا، وقد أوحى إليه هذا الوله العنيف جميع أعماله الأدبية الأولى، ومن بينها أول قصة سيكولوجية في التاريخ سماها (فياميتا المحبوبة).

وظهر ميله الأدبي المبكر وهو في نابولي، فرأى والده أن يوافق على رغبته في تعلم القانون، وأن يترك ما كان فيه، ولكن إفلاس والده المالي، وعودته مضطراً إلى فلورنسا عام 1341، أعاده إلى الأدب وحال بينه وبين المضي في دراسة القانون.

وبدأ في نابولي آثار أدبية أتمها في فلورنسا منها (فيلوكولو) و (فيلوستراتو) و (تسيد)؛ وزاد تلك الآثار (اميتو) و (فياميتا) و (نتفال فينسالانو). وعاد بعد ذلك إلى نابولي. أما فياميتا، فقد كان قلبها يخفق بحب غيره حتى قبل مغادرته نابولي. والمعتقد أنها توفيت سنة 1348 في وباء الموت الأسود المروع الذي يعتبر نهاية العصور الوسيطة في التاريخ، فقد أهلك ثلاثة من كلُّ خمسة أشخاص في فلورنسا ونابولي ومختلف بقاع أوربا وإنجلترا، فكان موتها ضربة أليمة لقلبه المعذب. وقد خلدها في الفصل الأول الذي يفتتح به كتابه العظيم (دي كامرون) إذ يعترف أن هذا الحب هو الذي دفعه إلى كتابة هذا الأثر الخالد، وفي القصص التي كتبها سابقاً يعود إليها فصلا فصلا، فيشيع في جوها حب فياميتا واللوعة على فراقها والحنين إليها.

لقد كان حبه لفياميتا الأساس لجميع أعماله الأدبية، حتى رأى بترارك فنشأت بينهما مودة متبادلة كانت عوناً على تناسى بعض آلامه وعلى شفاه بعض الجراح العميقة التي سببها موتها.

لقد مات الحس المرهف في خياله، وخبا النور الذي كان يشرق على بصيرته في شمس الحب، فتلبد حسه، وتحجرت عواطفه، وانتهت أجمل فترة من فترات الإلهام، فكتب بعد (دي كامرون) كتابه (كاربا كشيو) وهو مجموعة من الهجاء المقذع ما رأته لغة من اللغات، صب جام غضبه فيه على الدنيا التي حرمته الحب وعذبته بقسوتها. . .

ثم هدأت الثورة قليلا في عواطفه، ومال من تلقاء نفسه وبتشجيع من صديقه بترارك إلى نوع من الاستقرار وتناسي الماضي، فأخذ يدرس الآداب اللاتينية والإغريقية، وكتب كتابه (تاريخ حياة دانتي) وأهدى نسخة من (الكوميديا الإلهية) إلى صديقه بترارك، وأهدى إليه بترارك في مقابل ذلك مجموعة خطية من إلياذة هوميروس.

لقد رأى بترارك للمرة الأولى في ربيع عام1351 في مدينة بادوا، حيث ذهب إليه يرحب به بإسم مدينة فلورنسا ليعود من منفاه. فشاهد حماسه الشديد للآداب الكلاسيكية أو الدراسات المقدسة، وعدم رضاه عن الأدب الإيطالي، وقد كان لذلك، لسوء الحظ الأثر الفعال في نفس بوكاشيو، فترك العناية بالأدب المعاصر، وقصر مجهوده الأدبي على دراسة آداب اللغة اللاتينية وكل ما يتصل بها.

لقد كان بوكاشيو أديبا أصيلاً، وفناناً مبدعاً، وفلته نادرة من فلتات الذكاء التي تراها الإنسانية في سيرها الطويل في فترات متباعدة جداً وفي أشخاص تخلقهم القدرة المبدعة لعمل يحمله الزمن إلى ذروة الخلود. لقد خلق في كتابه (دي كامرون) عالماً جميلا يموج بالحركة والإحساس العميق. فهو يجلس في عالم الخلود الأدبي إلى جانب دانتى وتشوسر وشكسبير. وقلما عرف التاريخ الأدبي فناناً مرهف الحس يجمع إلى فنه علماً غزيراً وجلداً على دراسات مضنية تتطلب صبراً جميلاً. ليس في مقدورنا أن نزعم أن بوكاشيو كان من هذا الطراز النادر، كما أنه ليس من الإنصاف أن نبخس مؤلفاته في اللغة اللاتينية حقها من التقدير، فقد كانت دائرة معارف الأدباء ومعجمهم في أوائل عصر النهضة، وهو وإن لم يبذل في تأليفها أكثر من مجموع الجمع والترتيب، كان بجلده الرائع وصبره وأناته الوحيد الذي حفظ للعالم قصائد للعالم قصائد هوميروس.

إن إيطاليا وأوربا مدينتان لبوكاشيو بحفظ آثار أعظم شاعر تفخر به الأجيال. . . لقد بذل بترارك مجهوداً في جمع تلك القصائد التي لم يكن في مقدور أحد في أوربا قراءتها في اللغة اليونانية، ولكن بوكاشيو هو الذي أخذ تلك القصائد وراح يراجعها كلمة كلمة ويعيد كتابتها مستعيناً بليون بلاتوس الذي كان يلفظ له حروف الكلمات اليونانية، وبذلك تمكن بوكاشيو من ترجمتها بأسرها إلى اللسان اللاتيني.

كانت حياته الخاصة سلسلة من الآلام والعذاب، ولم يكن يخفف من قسوتها عليه غير العطف الذي كان يغمره به بترارك وزيارته لأسرة هذا الصديق. كان معدماً ينغص عليه الحياة القاسية خوف وتشاؤم من الموت ومن المصير المجهول في العالم الأخر، ذلك الخوف الذي استطاع بترارك أن يخفف شيئاً من وقعة عليه ويهدي قليلا من سواد أفكاره. كان مهملا في زمانه لا يعرف أحداً. وأبتسم الحظ له في أخريات أيامه، فاختير لملء أول كرسي في جامعة فلورنسا أسس بإسم دانتي، وكأنما جاء تكريم دانتي في الوقت المناسب لتخفيف وطأة الفقر، وراح يحاضر عن (الكوميديا الإلهية) ويدافع عن شعر دانتي، ذلك الشعر الذي أحبه وتعصب له حتى مع صديقه بترارك. وألقي محاضرته الأولى في شهر تشرين الأول عام 1373، وكان في الستين من عمره، واستمر يحاضر حتى بلغ النشيد السابع عشر من الجحيم في الكوميديا الإلهية، فداهمه مرض شديد أقعده عن العمل، وبقي يعاني سكرات الموت حتى اليوم الحادي والعشرين من شهر كانون الأول 1376، فأراحه الموت من عذاب الحياة بعد أن ذاق حسرة موت صديقه بترارك في صيف 1374.

لقد ذكرنا فيما مضى أن جميع ما كتبه بوكاشيو في اللغة الإيطالية كان من وحي فياميتا التي أحبها، ففي الصفحات الأولى من كتابه (دي كامرون) نرى أنه لم ينس حب تلك الفتاة بعد أن كتب عنها - أو متأثراً - ستة مؤلفات نثرية، فافتتح ذلك الكتاب العظيم بالإشارة إليها أن يذكر اسمها، وختمه بنفس الطريقة والأسلوب. إن جميع الأسماء التي قص على لسانها في كتابه مائة قصة في عشرة أيام خيالية محضة ما عدا اسمها (فياميتا). أما بوكاشيو، فإنك لا تجد له ظلا في تلك القصص المائة. إن العجب ليأخذ الناقد الحصيف وهو يرسل رأيه ويتأمل كتابه الخالد (دي كامرون) الذي يمثل نبوغه ومجونه وتسامحه الكثير ومحبته العميقة للإنسانية، إذ يجد على النقيض في مؤلفاته الأخرى التي كتبها باللغة الإيطالية الدارجة، لا يعبر كما عبرت عن حوادث حياته الخاصة، وآرائه في الحياة وحبه وكرهه وسخطه.

إننا نتلاقى مع بوكاشيو في هذا الكتاب مرة أو مرتين، ولكن في غير القصص التي يبدو غامضاً جداً في حوادثها وأشخاصها ورسم أهدافها.

إن تصميمه الفني لهذه القصص يدل على فن أصيل وعبقرية فذة وذكاء مفرط، استطاع أن يشيع فيها عالماً تضطرم فيه الحياة بكل ما فيها من أحزان ومسرات، وظواهر وأسرار. لقد نفذ بعبقريته الفذة إلى ما وراء مظاهر الأشياء، نفذ إلى أسرار النفس الإنسانية فصور أفراحها وأحزانها، صفحها وانتقامها، رحمتها وحقدها، كرمها وبخلها، تصويراً عميقاً شاملا، لم تشذ عنه النفس، ولم يتوار عنه ضمير؛ فكان بذلك (شكسبير) عظيم الأثر في عصره، وفي العصور التي حملها فجر الزمن من بعده، يقرأها المرء فيجد فيها وصفاً لما يضطرع بين جنبيه من ألم وعذاب، ومرح وسرور، في أي عصر كان، وهذا عمل العباقرة الخالدين!

إن كتاب ألف ليلة وليلة يتوارى خجلا أمام دي كامرون إذ وضعا في ميزان التقدير وتحت ضوء النقد. إن كتاب ألف ليلة وليلة لا يقوم في مجموعه إلا على ملك مستبد يقتل زوجاته لألم في نفسه من النساء، وعلى شهرزاد الفتاة الأريبة التي تقص عليه تلك القصص، ولا تهدف إلى غاية غير استبعاد الكارثة وإطالة أمد المقاومة والتعلق بآمال الغيب، لعل المعجزة تتم فتنجو بحياتها، ولكن هذا القلق لا يلبث أن يتلاشى رويداً رويداً من نفسها بحكم ما تثيره قصصها من لذة في النفس الملك شهريار. أما دي كامرون، فتقوم حوادثه على ثلاثة من الفتيان وسبع من الفتيات ولواّ هاربين إلى سفوح تلال الفيزول من الموت الذي أباد مدناً بأسرها. . . يرون تلك القصص تناسياً للآلام وتوارياً خلقها من خيال الموت!

تعتبر مقدمة اليوم الأول من قطع الوصف الخالدة في الآداب الإنسانية عامة صور فيها مدينة فلورنسا في قبضة الوباء المهلك عام 1348 وقد أقفرت شوارعها من الحركة وتكدست الجثث هنا وهناك وقد فاحت منها الروائح المنكرة، تصويراً لا يلحقه فيه لا حق. . . صور ذلك الصمت الشامل الذي يغشى المدينة فلا يسمع فيها غير قهقهات خافتة من بقايا أجساد حطمت الكارثة كلُّ ما فيها من حس إنساني وشعور نبيل، وغير مجموعات أخرى تتحرك وفد خولطت عقولها وعبث بها الرعب فغدت كأشباح الموتى.

وفي صبيحة يوم من أيام الثلاثاء تلاقت في الصلاة سبع فتيات في كنيسة القديسة ماريا فلورنسا، فاقترحت عليهن كبراهن بامبينا أن يرافقنها إلى الريف هرباً من الموت، حيث يعشن في أحضان الطبيعة، في قصر ريفي لإحداهن عيشة الفضيلة والانقطاع عن الناس فلا تصل إليهن يد الموت وتشاء المصادفات أن يدخل الكنيسة في تلك اللحظة ثلاثة شبان يتصل أكبرهم ببامبينا بصلة القرابة، فاقترحت عليهم الانضمام إليهن فوافقوا مغتبطين.

وفي فجر اليوم التالي كانوا في طريقهم إلى ذلك الريف، فاستقر بهم النوى في قصر جميل وارته الأشجار وقامت على جوانبه الحدائق الوارفة. واقترحت بامبينا أيضاً أن يختاروا في كلُّ يوم رئيساً عليهم يكلون إليه أمرهم بحيث يكون كلُّ منهم مسؤولا بدوره. وتم انتخاب بامبينا في اليوم الأول فوضعوا على رأسها إكليلا من أغصان شجر الغار. وبعد غروب الشمس أخذوا طريقهم إلى حقل غطى العشب الأخضر أرضه. . . وهنالك جلسوا في دائرة وطلبت بامبينا ملكة ذلك اليوم أن يقص كلُّ واحد قصة في كلُّ يوم، وقد رأوا في اقتراحها طرافة فوافقوا عليه. . . وتلفتت بامبينا إلى بامفيلو الذي كان يجلس على يمينها وأمرته أن يبتدئ بقصة، وهكذا تأخذ هذه القصص طريقها إلى الوجود.

من هذا النوع من التصميم تنبع قص بوكاشيو في دي كامرون، وهي تشابه قصص ألف ليلة وليلة في بقاء القاصين في مكان واحد في حقل العشب الأخضر في تلال الفيزول، وفي غرفة الملك شهريار في بغداد. وهو جمود يضفي على قصص الكاتبين لوناً من الكسل والخمول. أما قصص كانتباري تشوسر فتتسم بالحركة والنشاط والحياة، فالحجاج الذين يقصون القصص لهم سمات الأحياء تميزهم وتتعرف شخصياتهم في سهوله ويسر.

والضعف الذي نلمسه في قصص دي كامرون حين نقارنها بقصص كانتاباى لا يتصل بالخطوط الرئيسية في بنائها وإنما يتصل في الأشخاص. فأشخاص قصص كانتباري يتحركون فيمثلون الحياة الاجتماعية الإنجليزية في القرن الرابع عشر، لكل منهم شخصيته مستقلة واضحة المعالم. أما أشخاص بوكاشيو فليس في المقدور تمييز الواحد عن الآخر. وليس هنالك فارق بين لورنا وفيلومينا، وربما حسبناهما ديونيو أو فيلستراتو. أما فيتاميتا أقوى أشخاصه فإننا لا نراها وإنما نستمع إليه يصف جمالها وذكرياتها ويقحمها في مجال القصص من وقت إلى آخر.

(البقية في العدد القادم)

ماهرة النقشبندي