مجلة الرسالة/العدد 835/مستقبل الشعر

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 835/مستقبل الشعر

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 07 - 1949



للأستاذ يوسف البعيني

أجمع فريق من الحكماء والمصلحين وفي طليعتهم الموسيقي البولوني المشهور أنتون بادريسكي على أن الفنون الجميلة تسير بخطى واسعة نحو الفناء. ومما قاله ذلك العبقري الموهوب أن تلك الأنغام العميقة التي كانت ترفع الروح إلى الملأ الأعلى توارت أمام الموسيقى الأميركية الحديثة.

لقد صدق هذا الفنان في تعليله؛ فإن رجل الفن كان في الماضي البعيد يغذي عبقريته بجمال الطبيعة. أما الآن فهو لا يعنى بإغناء موهبته وتهذيبها، إذ طغت موجة المادة وتبدلت أغراض الحياة فاختلفت عما كانت عليه في سالف الأجيال.

ليس من ينكر أن عصرنا هو عصر الراديو والسيطرة على عناصر الوجود. فالذوق البشري يتجه اتجاهاً نحو المادة هازئاً بالروح. وقد نجم عن ذلك أن تدني مستوى الموسيقى والشعر وسائر الفنون. وكما أن الآلة لا تفهم الفن، فهل يفهمه الإنسان المستعبد للآلة؟

إن فن الرسم، وهو من أرقى الفنون، فقد كثيراً من روعته بسبب اختراع آلة التصوير. وقد لاحظ أحد الرسامين أن الفنان في الماضي كان يعنى عناية خاصة بإعطاء الصورة ملامح الوجه وتقاطيع الجسد - وهذا يظهر جليا في رسوم رفائيل وليونارد دى فينشي ولاكروا وسواهم - بينما نرى أكثر مصوري اليوم يهتمون بتصوير خطوط سطحية دون أن يعنوا بإيجاد الفكرة والمقاصد النفسية والخلقية في الإنسان.

وما يقال عن فن الرسم يقال كذلك عن الموسيقى، إذ أن الموسيقى الكلاسيكية لا تزال مرجعاً للناس في هذا العصر. ولم يظهر حتى اليوم من تفوق على بيتهوفن وباخ وموزار وشوبين وبيزيه وفردي - في زمن نرى فيه من يخترع القنبلة الذرية بدلا من أن يخفف مصائب المجتمع.

فإذا كان الرسم والموسيقى قد منيا بالرزيئة الفادحة فهل يتمتع الشعر، وهو أجلى مظهر من مظاهر الألوهة في الإنسان، بتلك المنزلة التي كان يشغلها قديماً؟

لقد كان للشعر دولة وأعلام في الغرب؛ أما اليوم فنرى نظماً لا شعراً، وقشوراً لا لباباً، وقتاماً لا نوراً. والسبب الوحيد هو أن الإنسانية أشاحت عن جوهر الجمال إلى مساخ مموهة بالطلاء والمساحيق. ومهد لهذه الحالة ما عصف بالمجتمع من زعازع، وما روعه من مصائب، فأفلتت أعنة الشعر من أيدي الشعراء وراح بعضهم يجشم الألفاظ والبحور ما لا طاقة لها به.

كان الشاعر يحمل على جبينه نجمة الإلهام فيتقوى على النوائب ويخوض الظلمات غائصاً إلى الأعماق، فصرف نفسه عن الهدف المقصود متلهياً بالأوضاع السخيفة تلهي الطفل بالأكر. . . وهكذا فقدت الحياة تلك الروعة التي كانت ترفل في أوشحتها الهفافة.

فإذا لم يتحرر الشاعر من مادية هذا العصر ويعمد إلى قيثارته القديمة فإن الشعر سائر إلى الموت.

هذا - وهل يستطيع أن يسمعنا أنغام الحياة بما فيها من خير وشر وقبح وجمال غير الشاعر؟ وهو لا يؤدي رسالته في الناس إلا حين يصور لهم أحزانهم وأفراحهم، ويهديهم إلى مواطن الحق حيث تسود الميول والعاطفة والإحساس.

وكيف ترتاح النفوس إلى الشاعر إن لم يحمل إليها الأمل والتعزية، ويوفر لها تلك الحياة الجميلة في شتى نواحيها؟

وهذه الحياة التي نريد أن يخلقها الشاعر لا نعثر عليها في منتجات شعراء العصر بسبب المادة التي استأثرت بشعرهم فأفقدته تلك الحرارة بفقد العوامل التي كانت تثيره وتطلقه شعلاً زافرة على آفاق المجتمع. وهكذا اختل نظام الشعر - وما كان الشعر إلا دموع الإنسانية تنحدر قطراتها بلسماً على جراحه.

وبعد. فيستطيع الإنسان أن يبني القصور، ويحشد الثروات، ويستعمر الأرض والفضاء. . . يستطيع أن يفعل كل شيء، لكنه إذا تغافل عن الشعر فإن حياته تمسي عارية جرداء. والغرب لو لم يخنق عاطفته وشعوره ما كان ليعاني اليوم أكبر أزمة فكرية في تاريخه.

إن مستقبل الشعر بين الموت والحياة. فعلى الملهمين من أبناء الحياة، وقد سطروا القيم الخالدة على مدار العصور، أن يحتضنوا الشعر ويغذوه بجمال الطبيعة ليقوى على مواكبة الأجيال.

يوسف البعيني

من العصبة الأندلسية