مجلة الرسالة/العدد 835/المثل الأعلى

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 835/المثل الأعلى

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 07 - 1949



للأستاذ أحمد أحمد بدوي

من أهم وسائل النجاح في الحياة أن يحدد المرء له هدفاً يجعله غاية يسعى إليها؛ لأن تحديد الغرض يمكّن صاحبه أن يتخذ له من الوسائل ما يضمن تحقيقه والوصول إليه، أما هؤلاء الذين يسيرون في حياتهم بلا هدف معين، فهم كالذين يخبطون في الصحراء على غير هدى، قد تقودهم أقدامهم إلى بلد أمين، وقد يرديهم الجهل والتخبط فيهلكون.

والمثل الأعلى نوع سامٍ من أنواع تحديد الهدف، لأنه الغاية القصوى التي يراها الإنسان منتهى آماله، ويعد نفسه سعيداً ناجحاً إذا انتهى به المطاف في الحياة إليها؛ فهو للإنسان كالمنار الهادي، يجذبه بنوره ولألائه، ويضيء له مسالك طريقه ويرشده إن انحرف أو ضل، ويغريه إن يئس أو مل.

وهو يختلف باختلاف الناس، فما يصلح أن يكون مثلا أعلى للتاجر، لا يصلح أن يتخيره الصانع، والزارع والمصلح والكاتب والسياسي؛ لاختلاف كل فرد منهم في غاياته ومراميه، كما تختلف المثل العليا باختلاف عزمات الناس؛ فما يتخيله صغير الهمة مثلا أعلى لا يرضى به الطموح، ولا يقنع بالوقوف عنده:

على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... وتأتي على قدر الكرام المكارم

وتعظم في عين الصغير صغارها ... وتصغر في عين العظيم العظائم

والغاية التي يسعى إليها المرء لا تسمى مثلا أعلى إلا إذا تحقق فيها شرطان أساسيان: أولهما أن تكون بعيدة المثال، تحتاج إلى أمد طويل في تحقيقها، بل قد تحتاج إلى الحياة كلها. فالآمال التي يمكن أن تنال في بضعة أعوام لا تدعى مثلا عليا، فأن تكون مهندساً أو طبيباً أو قاضياً ليس من المثل الأعلى في شيء؛ ولكن أن تكون كبير المهندسين أو شيخ الأطباء أو قاضي القضاة هو المثل الأعلى الذي تكرس على نيله الحياة. وثانيهما أن تتطلب في الوصول إليها جهداً غير عادي؛ فما يمكن أن تناله من الرقي بمرور الزمن وحده لا يعد مثلا أعلى، أما ما يحتاج منك إلى المشقة، ويكلفك الجهد، ويدفعك إلى العناء، وكثيراً ما يحملك على أن تنهج نهجاً غير مألوف، وأن تخترق الطريق من غير مواضع بدئه ونهايته فذلك هو المثل الأعلى.

يتخذ المرء مثله الأعلى شخصاً حيا يرقبه من قريب أو من بعيد، أو شخصاً تاريخياً تبهره عظمته، أو فكرة نبيلة تملكه، ويهب حياته لتحقيقها، فالتاجر مثلا قد يتخذ تاجراً آخر ناجحاً موفقاً مثلا أعلى له في الحياة، والحاكم قد يتخذ عمر بن الخطاب أسوة له حسنة، والمصلح يتخذ فكرة صالحة مثلا أعلى يسعى لتحقيقه.

وإذا اختار الإنسان مثله الأعلى شخصاً حيا أو تاريخياً استطاع أن يدرس سيرته، فيلمس فيها نواحي القوة والعظمة، ويدرس المناهج التي اتخذت لتذليل الصعاب وتحطيم العقبات، والوسائل التي اتبعت لنيل الظفر والفوز بالنجاح، فتشحذ هذه الدراسة من عزيمة المقتدي، ويرى فيها الدروس الصادقة الواقعية. غير أن الواجب في الاقتفاء ألا يلغي المرء شخصيته فيكون ذيلا لسواه، لأن إضعاف الشخصية، ينافي طلاب الكمال والتسامي إلى المجد. والتقليد إنما يحصل في نوع الفضائل التي تبهر كعدل عمر وصلابته، ووطنية مصطفى كامل ومثابرته، وقوة المتنبي وفحولته؛ أما إذا اتخذ الشاعر شاعراً آخر مثلا له، وظن أن معنى المثل الأعلى تقليده في أفكاره، والسرقة منه في معانيه، فإنه يعيش عيلا عليه، لا يرتفع إلى مستواه، ولا يمنحه الناس من الإجلال ما يمنحونه لمن يقلده، فاحتفاظ المرء بشخصيته، وطبع أعماله بطابع هذه الشخصية شرط أساسي للنجاح ونيل المجد.

كيف نختار لأنفسنا مثلا عليا؟ ومن أين نأخذها؟ وكيف ننجح في الوصول إليها؟ مسائل ثلاث مهمة؛ فإن نجاح المرء في الوصول إلى المثل الأعلى يتوقف إلى حد كبير على اختيار هذا المثل؛ ولا يكون الاختيار حسناً إلا إذا عرف المرء نفسه، ودرس اتجاهاته وميوله، وعرف مقدار ما لديه من قوة الإرادة وصلابة العزم، ثم بنى اختياره على أساس من هذه الدراسة الدقيقة. والإخفاق إنما يأتي من غرور المرء بقوته، وظنه أن له من المزايا والصفات ما ليس له، أو من خطئه في تعرف ميوله واستعداده، فيضل الطريق ويتيه، فإذا كانت استعدادات الإنسان وميوله تتجه مثلا إلى التجارة، والتصرف في شئونها، فليختر مثله الأعلى المجد التجاري، وليثق بأن النجاح سيكون حليفه. أما إذا اختار أن يكون مثله الأعلى كاتباً يشار إليه بالبنان فهنا يكون الإخفاق ولا يتم الظفر بإحدى الغايتين.

والمثل العليا لها مصادر شتى، منها كتب التاريخ، فهي حافلة بالنماذج السامية للإنسانية، يستطيع القارئ أن يتخذ منها ما يتفق مع ميوله وما يراه جديراً بالتأسي والقدوة. في تلك الكتب يجد الحكام والزعماء والعلماء والمخترعون مثلا تهديهم وتنير لهم السبيل.

ومن تلك المصادر أيضاً كتب السير التي تتخذ موضوعها شخصية ناجحة تدرس حياتها ووسائل نبوغها، والأسباب التي مهدت لها سبل الفوز والنجاح. وبهذه المناسبة أرى أن التأليف العربي، يجب أن يعنى بتاريخ العصاميين الذين نجحوا في حياتهم من التجار والصناع والزراع حتى نضع بين أيدي النشء نماذج لأنواع المثل العليا.

ومن مصادرها المسرحيات التي يكون من أغراضها تصوير السمو الإنساني لبطل حقيقيّ أو متخيل، وكذلك الروايات والقصص التي تعالج هذه الناحية السامية.

ومن تلك المصادر الشعر أيضاً؛ فقد حفظ لنا صورا لنماذج ممتازة من الناس، ومثلا راقية من الأخلاق. ومنذ القديم يضع القادة الشعر في قائمة تربية الناشئين، وغرس المثل العليا في نفوسهم. وللشعر أثر كبير في توجيه النفس نحو الكمال، والبعد عن الصغار، وها هو ذا معاوية بن أبي سفيان يتخذ مثله الأعلى بطلا يأبى الفرار من ميدان القتال مهما كان الثمن:

حدث معاوية قال: (اجعلوا الشعر أكبر همكم، وأكثر أدبكم، فقد رأيتني بصفين، وقد أتيت بفرس أغر محجل بعيد البطن من الأرض، وأنا أريد الهرب لشدة البلوى، فما حملني على الإقامة إلا أبيات عمرو بن الإطنابة:

أبت لي همتي وأبى بلائي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح

وإقحامي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح

وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي

لأدفع عن مآثر صالحات ... وأحمى بعد عن عرض صريح

وقد صدق أبو تمام حين قال:

ولولا خلال سنها الشعر ما درى ... بغاة الندى من أين تؤتي المكارم

هذا وفي الحياة أمامنا نماذج صالحة لأن تكون مثلا عليا؛ فلدينا عصاميون جعلوا وسيلتهم إلى المجد همة ماضية وعزيمة قوية، وهم شواهد حية على أن المرء يستطيع أن يحقق مطامعه إذا أراد وعمل.

والطريقة الفضلى لتحقيق المثل الأعلى أن نرسم الخطط والوسائل التي تصل بنا إليه؛ فإننا إذا حددنا المنهاج وضح أمامنا الطريق، ورسم الخطة يحتاج إلى تفكير عميق ووزن دقيق للأمور واستفادة من تجارب الآخرين. ومن الواجب أن تكون الخطط التي تصل إلى المثل الأعلى متنوعة متعددة؛ فإذا نال المرء الإخفاق في واحدة، لم يكن لليأس سبيل إلى نفسه؛ ولم يصدم بهذا الإخفاق، بل يكون قد أعد العدة من قبل لينهج نهجاً آخر يصل إلى الغاية عينها؛ أما إذا رسم لنفسه خطة واحدة، ولم يفكر فيما يصنعه إذا أصيب بالإخفاق فيها فإن الصدمة تكون قاسيةٍ إذا فشل قد تقضي عليه وتحطمه. والمرء حين يضع الخطط يقدر دائماً أن كل خطة منها عرضة للنجاح والفشل، لأن ظروف الحياة لا سلطان لأحد عليها حتى يكيفها كما يريد. فليقدر المرء إذاً حين يخطو كل خطوة أنه قد يفوز وقد يخفق، لأن هذا التقدير يحول بينه وبين الصدمة إذا لم تنجح خطوته، فيعود من جديد ليحاول محاولة جديدة. والذي يصمم على النجاح لا بد أن يظفر به ولو كانت الخطوات الأولى في سبيل أمله فاشلة غير ظافرة:

ومغالب العقبات حتما غالب=إلا إذا أطرح الجهاد وقصرا

فأول شرط النصر - كما يقولون - إرادة النصر. والتصميم على الظفر يسهل على المرء بدء المحاولة من جديد إذا أخفق، كما أنه يحول بينه وبين اليأس الذي هو أعدى أعداء المثل العليا؛ لأن اليأس رضا بالخيبة واعتراف بالضعف، ووقوف في منتصف الطريق ونكوص عن الجهاد. ومن أين لليائس أن يظفر بغايته وقد رضى أن يضع سلاحه ويستريح:

لا تيأسنَّ وإن طالت مطالبة ... إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا

أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ... ومدمن القرع للأبواب أن يلجا

ومن بواعث اليأس في النفس التفكير في ماض مخفق، والحزن على ما أفلت من فرص، فإن ذلك الحزن يضعف قوة المرء على الجهاد. وإنما يفكر المرء في الماضي لا ليحزن على ما فات، ولكن ليتخذ من أغلاطه عظة ودرساً في قابل الأيام!

إن من يهيئ نفسه لنيل مثل أعلى يجب أن يعلم أن الطريق إليه شاق طويل مليء بالصعاب والعقبات، وأن لا سبيل إلى قطعه إلا إذا كان لديه ذخيرة كبيرة من الجلد والمثابرة، فإن بلوغ الآمال لا يتطلب منا ذكاء نادراً، ولكنه يتطلب الصبر والمثابرة. سئل بعض المربين عن شروط النجاح فقال: ثلاثة: أولها المثابرة، وثانيها المثابرة، وثالثها المثابرة.

كما أن التفاؤل يجب أن يكون رفيق المرء في هذا الطريق، لأن التفاؤل يبعث في النفس سروراً، والسرور يضاعف قوة المرء على الاحتمال، وعلى تخطي الصعاب والعقبات؛ وليس معنى التفاؤل تقدير النجاح في كل خطوة، ولكن معناه تقدير النجاح النهائي، واعتقاد أن الفشل عارض من المستطاع التغلب عليه.

هذا، وعلى من يريد المثل العليا أن يحاسب نفسه في الحين بعد الحين، ليرى مقدار ما قطع من الطريق، ومدى نجاحه في خطته؛ ليعدل منهجه إذا احتاج إلى التعديل، ويستفيد من أخطائه إذا هفا وزل.

ومن ذلك يتبين أن المثل الأعلى ليس أمنية تتمنى، ولا أملا يرجى، ثم يقف المرء عند التمني والرجاء:

فما طلب المعيشة بالتمني ... ولكن ألق دلوك في الدلاء

فهو هدف يجاهد المرء في سبيله، ويكرس له حياته واضعاً نصب عينيه قول أبي تمام:

بصرت بالراحة الكبرى فلم أرها ... تنال إلا على جسر من التعب

أحمد أحمد بدوي

مدرس بكلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول