مجلة الرسالة/العدد 83/من الأدب الفرنسي المعاصر
مجلة الرسالة/العدد 83/من الأدب الفرنسي المعاصر
أندريه
بقلم علي كامل
تتمه
يرى أندريه جيد - ويتفق معه في ذلك مارسل بروست والكاتب الايطالي بيراندللو - أن الشخصية ما هي إلا وهم زائف، وان الانسان صنيعة الظروف والاحتمالات
ومهما كن مقدار ما في هذه الآراء من الحق أو الباطل فقد كان لها الفضل الأول في تجديد القصة الأوربية لما تضمنته من تحطيم فكرة (الأخلاق الثابتة) و (النماذج الانسانية) التي كانت أساس القصة التحليلية في الأدب الغرب لتقيم على انقاضها أسس فكرة (اللاشعور) قبل العالم (فرويد) نفسه. كما أن هذه الآراء قد أبانت الأثر العظيم للغرائز الجنسية وعدم توازن العواطف في حياة الاشخاص متأثرة في ذلك بقصص الكاتب الروسي دستويفسكي
على ان ما يمتاز به اندريه جيد من كل من مارسل بروست وبيراندللو انه لا يكتفي بالنظر الى الامور نظرة العالم النفسي، بل إنه يخرج من دراسته (بقاعدة) يرى من الواجب السير عليها في الحياة: تلك القاعدة هي وجوب ان يسعى الانسان الى فهم طبيعته وإدراك حقيقة نفسه بنفسه، وما ذلك إلا بالخضوع لكل الدوافع المتنوعة مهما كانت، والتذرع بالشجاعة لتحقيق كل ما يجيش فيه من الرغبات دون اختيار، اي دون ان يقول الانسان لنفسه: هذا متفق ومع الآداب العامة، وهذا مغاير لها؛ هذا يمس الدين وهذا لا يمسه. . . الخ يجب ان يكون كل منا (كطفل ضال، وُجد دون أن تُعرف حالته المدنية، دون اوراق. . . قذفه المجهول، لا يَعرِف له ماضياً ولا قاعدة يسير عليها ولا سند يعينه، ولا ون له ولا أجداد)
أن هذه هي الوسيلة الوحيدة عند جيد لانكشاف حقيقة نفوسنا أمام أعيينا، وعندئذ نسير على هدى طبيعتنا
وفي قصته مزيفو النقود - (1925) نرى الفتى (برنار) يخاطب القصصي (ادوار) ويسأله النصح كيف يضع قاعدة لحياته، فيجيبه ادوار قائلاً: (إن هذه القاعدة تجدها في نفسك على أن يكون قصدك السير الى التقدم. ليس عندي ما اقوله لك. إنك لا تستط تستمد هذه النصيحة إلا من نفسك. فلا تحاول أن تتعلم كيف تعيش إلا بأن تعيش)
ولكي نعيش (في نظر جيد - عيشة لا يقيدها قيد يجب ألت نتردد عند الحاجة في الثورة على نظام الاسرة والجري وراء إحساساتنا تقودنا الى حيث الحقيقة العظمى. فالاستقرار هو ألد أعداء جيد، لأن رائده هو أن نكون متأهبين دائماً لتغيير جديد في حالتنا
وفي كتابه الأغذية الأرضية نسمع جيد يخاطب (ناتانابيل: إياك أن تستقر في مكان، فبمجرد أن تغيرت ظروف هذا المكان واصبحت موافقة لطبيعتك، او جعلت انت نفسك موافقاً لظروف المكان، عندئذ لا تبقى لك فائدة تُرجى من وجودك، فيجب ان تهجره، ليس هناك أخطر عليك من أسرتك، من غرفتك، من ماضيك)
وفي قصة ' نسمع (مينالك) يقول: (إنني لا اريد ان اتذكر. فاعتقادي ان هذا منع لوصول المستقبل. واعتداء على الماضي الذي لم يعد لي فيه حق، إنني بنسياني الكامل للأمس أجدد كل ساعة من حياتي. إن كوني كنت سعيدا لا يكفيني، لأنني لا أومن بالأشياء الميتة. وما كنت عليه وزال عني الآن هو عندي كأنه لم يكن)
على أن فكرة جيد عن التحرر المطلق كما رأينا لم تقض على عاطفته الدينية. بل لقد أحدث عنده هذا الايمان القوى بالتحرر وبالاستسلام لكل إحساس يغمرنا، نتيجة عكسية، إذ جعل جيد يترك العنان لإحساسه الديني يطغي عليه بين وقت وآخر دون أن يحاول كتبه، فنراه يتكلم عن الله والحياة الخالدة بأسلوب متصوفٍ زاهد، ففي كتابه الاغذية الارضية وهو كتاب الذي ينفجر فيه بالدعوة إلى التمتع بالحياة الحسية يقولك (إنك حيثما تذهب لا تستطيع أن تقابل إلا الله) وأيضاً (ناتانابيل: لا تأمل أن تجد الله إلا في كل مكان) وفي كتابه الأغذية الأرضية الجديدة يقول: (يجب أن نفكر في الله بأقصى ما يمكن من الانتباه واليقظة. . . إنني عندما أهجر التفكير في الخالق إلى التفكير في المخلوق تنقطع صلة نفسي بالحياة الخالدة وتفقد حيازتها لمملكة الله)
والآن، أليس من التناقض مع فكرة (التحرر الأخلاقي) والدعوة إلى التمتع بالحياة أن يغمر جيد إحساس أشد المتدينين إيماناً فيفكر في اله كل يوم - كما يقول - ولا يستطيع له فراقاً؟
إن جيد يبرر موقفه بفلسفة هي أهم نواحي التجديد في تفكيره. إنه يفصل بين اللذة والحب أو بعبارة أخرى بين الجسد والنفس لذا نراه يبيح من جهة تحقيق كل مقتضيات الجسد، ومن جهة أخرى تحقيق كل مقتضيات النفس في الالتجاء إلى قوة عُليا.
ولا شك أن رأي جيد هذا لا يتفق مع عقيدة دينية، ولكنه في صميمه وَحْي طابعه الديني الذي لم يستطع التخلص منه فأراد التوفيق بين إحساسه الديني ومذهبه الفكري في التحرر الأخلاقي
وفي العبارة الآتية يعترف لنا جيد ان هذه الناحية من تفيره كانت خلاصاً وتبريراً لما اوقعته فيه مشكلته النفسية. يقول: (أما فيما يتعلق بي فقد قلت مراراً كيف أن الظروف وما تتجه إليه طبيتي كانت تدعوني إلى التفرقة بين الحب واللذة لدرجة أنه كانت تؤلمني فكرة المزج بينهما) ثم يقول لقد فصلت أنا أيضاً بين اللذة والحب، بل إن هذا الفصل بين الأثنين قد ظهر لي أنه كان لازماً. فاللذة أكثر نقاء والحب أعظم كمالاً
يرى جيد أن انطلاقنا وخضوعنا لمطالب أجسادنا إنما هو نوع من السذاجة والبراءة وأن اجابة الانسان لنداء طبيعته وغرائزه التي ولدت معه إنما هو خضوع لارادة الله.
وما الفرق عنده بين من يجري ميوله وشهواته لها وبين من يكبح بعضها إلا كالفرق بين (من يأكل كل شيء ومن لا يأكل غير الخضراوات)
ويقول جيد أيضاً: (ليس الانسان شيء غير طاهر) ' لذا كان ما تفيض به بيعة الانسان من ميول وشهوات لا يجب في نظره أن يحمل غير معنى الطهر والنقاء والاخلاص لأنفسنا فيجب أن نطيعها دون اختيار (لأن كل اختيار إنما هو تحديد لحريتنا)
على أن جيد يشترط لكل عاطفة تحركنا أن تكون مخلة لكي نطيعها ونجيب نداءها. ففي نسمعه يقول: (إن لذاتي لا تحجب وراءها فكرة خفية. لذا لا ينبغي أن يتبع هذه اللذات أي شعور بالندم) فهو يقصد بل أن يقول إن فكرة الحرية والانطلاق إذا استترت وراءها نية او غرض معين خرجت عن دائرة البراءة والاخلاص
وفي ضوء ما ذكرنا نرى أن فكرة أندريه جيد فكرة مزدوجة مضمونها:
أولاً: الناحية الجسدية الحيوانية في الانسان وهي الناحية البريئة الساذجة
ثانياً - الناحية المعنوية، وهي إما الناحية الخاصة بالاحساس الديني، وإما الناحية الشيطانية في الانسان
ففكرة جيد هي الفصل بين هاتين الناحيتين اللتين هما في الواقع حقيقتان من حقائق الطبيعة الانسانية - الناحية الجسدية والناحية المعنوية - ثم السمو بهما الى أقصى ما يمكن من الطهر والنقاء. وما السبيل الى ذلك إلا بنبذ كل ما لا أساس له من الحق والصدق، وفي مقدمة ذل بالطبع كل ما يرغمنا عليه المجتمع.
ولقد استخدم جيد في البداية عبقريته كناقد فذ في تبرير حقه في الانطلق والتمتع بالحياة وفي (الحب الذي لا يجرؤ أن يقول اسمه) على أنه فيما بعد صرف همه الى العناية الشاملة بكل تقاليد المجتمع وحقائقه الفارغة وأوهامه لكي يعمد بعد ذلك الى تنقيحها في نظم التربية ويفصح مظاهر الرياء بين الطبقات والوسطى الى غير ذلك مما يراه من المفاسد الاجتماعية التي تقف حائلاً بين الانسان وبين حريته التامة.
ولقد كانت (فردية) اندريه جيد سبباً في ان يبقى حتى الثامنة والخمسين من عمره بعيداً كل البعد عن الاهتمام بالمصلحة العامة او الايمان بعقيدة سياسية او اجتماعية على اعتبار ان الاصغاء لافكار الغير يحد او يغير من افكار الانسان الخاصة التي يجب ان تكون بعيدة عن كل تأثير خارجي. واندريه جيد في عزلته السياسية والاجتماعية كان يخالف تماماً كثيراً من أعاظم الكتاب الفرنسيين المعاصرين مثل اناتول فرانس وشارل موراس وموريس باريس وشارل بيجوي ورومان رولان وغيرهم.
على ان جيد بعد رحلته الى الكونغو واواسط افريقيا خرج مرة واحدة من دائرته الخاصة الى دائرة المجتمع الانساني بأجمعه. يفكر في ظروف الحياة فيه بعين نقيض بالرحمة الواسعة والحنان العظيم حتى ان المرء ليحس بأنه قد نسى نفسه ولم يعد يفكر الا في الآخرين!
وفي كتابيه ونرى جيد يدافع عن الأمم المستعمرة لا بمهاجمة فكة الاستعمار نفسها ولكن بالمطالبة بحق إيثار هذه الأمم في التقدم المطرد في جميع شؤون حياتهم وبتسفيه كل استعمار ينتهك حرمة هذه الحقوق المقدسة
ولكن هل بقي جيد عند هذا الحد من الاعتدال في تفكيره السياسي وهو الذي من دأبه السير إلى أقصى حدود التطرف؟ لا. إذ لم يكد ينقضي وقت يسير حتى رأينا جيد يرتمي في أحضان الشيوعية التي اعترف بأنه عند اعتناقها كان يجهل صميم نظرياتها، ولاش أن اعتناق جيد للشيوعية مخالفة تامة لأسس تفكيره السابق، لان جيد (الفردي) قد أصبح يؤمن بنظام يقيد مصلحة الفرد في سبيل مصلحة المجموع. وجيد الثائر على أي نظام من نظم التربية على اعتبار أن التربية تقييد وتحديد قد أصبح يؤمن بالمثل العليا الشيوعية. وجيد الذي كان ألد عدو للعقيدة الثابتة قد أصبح إيمانه بالشيوعية تسليم منه بالنظريات الماركسية كنظرية (التفسير الاقتصادي للتاريخ) مثلاً. . . . وغيرها. على أن في الشيوعية أيضاً تتحقق معظم أفكار جيد وىماله، ففيها شرود نهائي من ماضيه الديني الذي أثقله زماناً طويلاً، وفيها التخلص من عبودية نظام الأسرة الذي طالما حاربه وناضل في سبيل القضاء عليه، وفيها أمل جديد في الوصول الى ما يسميه جيد (مملكة الله) أي قتل الجوانب الخبيثة في الانسان بالتخلص من كل أنانية والتحرر من كل تفكير ذاتي، وهو يرى فيها أيضاً الشفقة الزائدة والتفكير الجدي في محو الشقاء الانساني
ولعل من العجيب أن أندريه جيد منذ أعلن إيمانه بالشيوعية لم يعمل أي عمل أدبي جديد، مقتصراً على نشر المقالات المختلفة التي تدور كلها تقريباً حول تبرير انقلابه الجديد، ولا نقول الاخير، فهل منا من يضمن أن جيد يستقر على حال؟!
لعل مظاهر التقلب والقلق الدائم وعدم الاستقرار الي صاحبت جيد عشرات السنين هي أعظم ما يرفعه (كانسان) لانها نتيجة تغلغل عاطفة الحرية في دمه الى حد قل أن يكون له نظير، فظل طول حياته (حديقة من التردد) - كما يسميه أكبر أتباعه الكاتب الفرنسي جاك ريفيير - لا يهدأ له بال. يدرس الحياة بنواحيها الفكرية والحسية، يسافر الى أقصى البلاد. كل ذلك لكي يصل الى الحقيقة المنشودة التي يسعى وراءها. وبرغم عبء ماضيه الديني الثقيل فقد استطاع ان يحطم أغلاله لينطلق باحثاً منقباً
إننا حين نحكم على اندريه جيد يجب أن ننظر الى مجموع شخصيته، متغاضين عن تلك السبل الشاردة التي اختطفها في حياته الخاصة ودعوته العامة، وتعتبر في نظر ناقديه - مبالغة قصوى في تفسير معنى الحرية - لقد علمنا جيد كيف ننتصر على الخجل المقيت والرهبة البغيضة التي لا معنى لها، علمنا كيف نكشف دخائل نفوسنا ولا تتركها في الظلام الدامس لا نعرف كنهها كأن ليس لنا بها صلة، علمنا كيف نسلط عليها ضوءاً وهاجا نستمده من صميم إرادتنا وشجاعتنا، علمنا يف نصرح بكل ما يجيش في خفايا قلوبنا من النزعات الصارخة - علمنا كيف ومتى تماماً حقيقة نفوسنا. . . ليس بالاستسلام لغرائزنا الحيوانية كما يتهمه اعداؤه ظلماً، بل بأن تساير طبيعتنا مهما كانت بسذاجة عظيمة، سواء ما كان منها خاصاً بالناحية الحيوية او بالناحية الروحية، وان نكون دائماً على أتم أهبة لمواجهة الحياة المتغير وجاراتها على الدوام في قالب جديد
علي كامل