مجلة الرسالة/العدد 818/نصير الدين الطوسي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 818/نصير الدين الطوسي

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 03 - 1949



حامي الثقافة الإسلامية وتراث العرب الفكري إبان الغزو

المغولي

للأستاذ ضياء الدخيلي

مدرسته ومكتبته في مراغة، جهوده الخصبة في حقول علم الفلك في مرصده العظيم، شهادات كبار المستشرقين سيديو الفرنسي، نلينو الإيطالي وفليب وسارتون واسمث الأمريكيون.

ما يقوله فيه ابن العبري وأبن شاكر وابن كثير ودائرة المعارف الإسلامية وابن الوردي وابن قيم الجوزية.

قال داود اسمث الأمريكي في كتابه تاريخ الرياضيات ج1 ص 287. (وفي عصر انحطاط المعرفة في بلا الإسلام لا تجد في القرن الثالث عشر من يستحق أن نخصه بالذكر سوى المؤلف من إيران أنفق سنوات حياته الأخيرة في بغداد. ذلك هو النصير الدين محمد ابن محمد بن الحسن أبو جعفر وكان من سكان طوس في خراسان وعاش من 1201 حتى سنة 1274 وقد نبغ في علوم مختلفة وألف في علم المثلثات والفلك والحساب والهندسة وفي تركيب الإسطرلاب وكيفية استعماله).

فها أنت تجد اسمث يسجل إعجابه بالطوس وبالظاهرة التي لفتت إليه الأنظار وهي تبريره في علوم مختلفة وتأليفه فيها الكتب الخالدة. وقد فات اسمث علوم جليلة أخرى تفوق فيها الطوسي ومنها الفلسفة. فإن كتابه في شرح إشارات ابن سينا من أنفس الكتب كما شهد له بذلك ذوو الفضل، وأن دائرة المعارف الإسلامية قد اعترف له أيضاً بأنه كان علامة في مواضيع شتى وعلوم متباعدة الأغراض وأنه ألف فيها الروائع النفسية وقالت أنه ومعنى هذه الكلمة صاحب التآليف والتصانيف في مواد شتى، وقالت أنه يرجع الفضل في شهرته وذيوع صيته وراء الدوائر الشيعية لكتيبة وتتبعاته في العلوم الصحيحة من الطب والطبيعيات (الفيزياء) والرياضيات وعلى الأخص في علم الفلك والهيئة حيث نال الطوسي أكبر شهرة بأعماله العظيمة في حقل علم الفلك. وقد كان مدينا في حصوله على وسائ تتبعاته الفلكية لشغف خانات المغول بفن التنجيم وعلى الأخص صاحبه هولاكو الذي رغبه في بناء مرصد كبير في مراغة جهزه جهز بأحسن الأدوات وبعضها أستبط وصنع لأول مرة وزوده بجماعة كبرى من الراصدين والمراقبين. وكان عمر الطوسي عندما ابتدأ ببناء الرصد 60 عاماً وقد بقى 12 سنة أخرى حتى أنجز وأتم عمله في حسا ب جداول جديدة للكوكب السيارة قامت على الأرصاد والمشاهدات الشاملة. وقد دون استنتاجاته في كتابه (الزيج الايلخاني) وتتناول المقالة الأولى بحث التواريخ، والثانية حركات السيارات، وخصصت المقالتان الثالثة والرابعة للأرصاد التنجيمية. ومن مؤلفاته الأخرى نذكر كتاب (التذكرة الناصرية) وفيها تخطيط وعرض لجميع ما في حقل علم الفلك وقد علق عليها العلماء المتأخر ون وشرحوها عدة شروح الخ (راجع في دائرة المعارف الإسلامية الجزء الرابع ص 890 من النسخة الإنجليزية).

وقال المستشرق الفرنسي العلامة سيديو في كتابه (تاريخ العرب العام) وكان سيديو أستاذ التاريخ في كلية سان لويس عضوا في مجلس الجمعية الآسيوية وفي اللجنة المركزية للجمعية الجغرافية في فرنسا وسكرتير كوليج دو فرانس الخ. . قال في (ص 410) واختلط تاريخ سلاطين آل سلجوق بأخبار الحروب الصليبية منذ القرن الثاني عشر فظلت العلوم في المشرق مغطاة طيلة هذه الحروب بغطاء لم يرفعه عنه أحد بعد.

وهذا لا يعني أن الدراسات الجدية هجرت فقد أبصرنا خان المغول هولاكو بجمع في بلاطه (عام 1259 م) علماء اشتهروا بمعارفهم الرياضية والفلكية وأشهر هؤلاء العلماء هو واضع الزيج الأبلخاني نصير الدين الطوسي. وقد وجد هذا العالم في نعم مولاه الجديد ما يشجعه فأقام مرصد مراغة وجمع بعناية ما هو منثور في خراسان وسورية وبغداد والموصل ومن المخطوطات. ولم يأل جهدا في إكمال الآلات التي يستعملها في إرصاده.

ومما صنعه أحداث ثقب في قبة المرصد تنفذ منه أشعة الشمس على وجه تعرف به درجات حركاتها اليومية ودقائقها وارتفاعها في مختلف فصول السنة وتعاقب الساعات: وهذا يعني تطبيقا جديدا للميل ذي الثقب الذي استعان به العرب منذ القرن العاشر. ومن هذا الميل وذات الحلق الكبرى التي تشابه آلة (نيخو براهة) وأرباع الدائرة المتحركة والكرات السماوية والأرضية وأنواع الإسطرلاب تتألف مجموعة آلات مهمة استعان بها نصير الدين الطوسي.

قال (سيديو) وساعد نصير الدين في أعماله مؤيد الدين المرضي وفخر الدين الخلاطي التفليسي ونجم الدين بن دبيران القزويني وفخر الدين المراغي الموصلي ومحي الدين المغربي وغيرهم. فانجز في (12) سنة من الأعمال ما يتطلب (30) سنة على حسب الحسابات الأولى وعلمنا أنه اقتبس الزيج الحاكمي لابن يونس مع إدخال تعديلات مفيدة قليلة إليه ففتح دور إقبال كبير على المرصد ولخص على شاه البخاري والندام (كذا في أحياء الكتب العربية - ولعل الصواب هو النظام) ونجم الدين ابن اللبود ي - الزيج الأبلخاني، وصحح هذا الزيج غياث الدين جمشبد بن مسعود الكاشي؛ فكانه معول جميع المدارس الفلكية حتى ظهور ابن الشاطر الذي عد في سنة 1360 شيئا مما ارتضاه أسلافه في النتائج.

يقول (سيديو) آذن أعاد مغول بلاد فارس إلى المدارسة العربية بعض رونقها وترى من ناحية أخرى أن (كوبلاي خان) أخا (هولاكو خان) عندما أتم فتح الصين نقل إلى مملكة أبن السماء وسائل علماء بغداد والقاهرة.

ونلقى (كوشى كيننغ) في سنة 1280 م أزياج ابن يونس من جمال الدين الفارسي فدرسها دراسة دقيقة وإن عرض (غونيبل) لآثار (كوشي كينغ) لم يكن ليكتشف القناع عن أصلها. وعلى ذكر سيديو ابتكار الطوسي إحداث ثقب في قبة المرصد تنفذ منه أشعة الشمس على وجه تعرف به درجات حركاتها اليومية ودقائقها وارتفاعها في مختلف الفصول وتعاقب الساعات الخ - بهذه المناسبة نذكر للقارئ الكريم ما نقله ابن كثير الدمشقي المتوفى سنة 774هـ في الجزء 13 من كتابه (البداية والنهاية) عن عظم قبة المرصد.

قال ص 267 (إن الخواجا نصير الدين هو الذي كان قد بنى المرصد بمراغة ورتب فيه الحكماء من الفلاسفة والمتكلمين والفقهاء والمحدثين والأطباء وغيرهم من أنواع الفضلاء وبنى فيه قبة عظيمة وجعل فيه كتابا كثيرة جدا).

وكان ابن العبري المتوفي سنة 1286م في مدينة مراغة من أعمال أذربيجان - قد انتقل اليها منذ برهة من الموصل، روى أخوه برصوما أنه لما فتشت التعديات في نواحي نينوى الح عليه في الانتقال إلى مراغة وكان هناكفي (مراغة) مكرماً من خاصة الناس وعامتهم (وإذا عرفنا أن وفاة الطوسي رحمة الله - كانت عام 1274م علمنا أن ابن العبري توفي بعد الطوسي ب (12) سنة فهو إذن قد شاهد الحركة العلمية في مراغة).

وقد قال ص500 من تاريخه (وفي 675هـ توفي في الخواجا نصير الدين الطوسي الفيلسوف صاحب الرصد بمدينة مراغه: وهو حكيم عظيم الشأن في جميع فنون الحكمة واجتمع إليه في المرصد جماعة من الفضلاء والمهندسين وكان تحت حكمه جميع الأوقاف في جميع البلاد التي تحت حكم المغول وله تصانيف كثيرة: منطقيات وإلاهيات وأوقليدس ومجطسي وله كتاب أخلاق فارسي في غاية ما يكون من الحسن جمعه فيه نصوص أر سطو وأفلاطون في الحكمة العملية، وكان يقوي آراء المتقدمين ويحل شكوك المتأخرين والمؤاخذات التي أوردوا في مصنفاتهم ثم يذكر أعوانه على الرصد. وقد ذكر عن محي الدين المغربي ما نقله له من كيفية خلاصه من ذبح التتار له فقال: كان محي الدين المغربي مع الملك الناصر فلما أراد المغول أن يقتلوه وجماعته قال محي الدين لهم: إنني رجل أعرف علم السماء والكواكب والتنجيم ولي كلام أقوله لملك الأرض (يعني هولاكو) يقول أبن العبري - قال محي الدين المذكور لما اجتمعنا به في مدينة مراغة - أنني لما قلت لهم هذا الكلام أخذوني وأحضروني بين يدي هولاكو فتقدم أن يسلموني إلى خواجا نصير الدين).

وإنك من كلام ابن كثير وابن العبري وهما قريبا عهد بالطوس إذ توفي ابن كثير بعد الطوسي ب (99) سنة - نجد أن الطوسي رحمة الله قد أحدث حركة علمية جبارة في مراغة عهد الغزو المغولي وقد حمى الثقافة الإسلامية من الدثور والاضمحلال في زمن تهدمت فيه اغلب الحواضر الإسلامية من سمرقند إلى بغداد وغيرهما، وكان مرصده عظيما ومكتبته أعظم.

لقد شيد نصير الدين صروح تلك المدرسة التي اسبغ عليها طابعة الخاص من اهتمامه بالفلك والرياضيات والفلسفة فلم تكن مدرسة لغوية كمدرستي الكوفة والبصرة حين انتظمت حلقات الكوفيون والبصريين من النحاة وعلماء اللغة كالأصمعي وأبي زيد والخليل بن أحمد وتلميذه سيبوية - كلا إنما كانت مدرسة الطوسي معهداً للعلوم العقلية؛ لذلك تركت صدها مدويا في أوربا وأمريكا وكانت يد الطوسي المباركة رحمة حمى الله بها تراث الإسلام ونتاج الأدمغة العربية وباقي الأمم الإسلامية فحفظ به كتب العلم وأنقذها كما أنقذ كثيرا من النفوس المحترمة من سيوف البرابرة المتوحشين (المغول). وما أدرى ما يريد بعض المتطاولين عليه رحمه الله أكانوا يريدون منه أن ينتحر بسيوف أولئك الطغاة وماذا يفعل أولئك الطغاة وماذا يفعل تجاه تيار همجيتهم وبربريتهم؟ بل أن روضات الجنان يحدثان أن هولاكو كاد يفتك به في بعض المواقف بتأثير دس المغرضين والكائدين والحاسدين.

إن الطوسي امتاز بعقلية جبارة. والغريب أنه مع كثرة تآليفه في أدق العلوم الفكرية - كان سياسيا محنكا، وزر لعدة ملوك واحتفظ بكرامته لولا وشايات الحساد الذين كادوا له حتى أعتقل في سجن الموت عند الإسماعيلية.

قال الإمام الحافظ المؤرخ بن كثير الدمشقي (أن الطوسي كان يقال له المولى نصير الدين ويقال له الخواجا نصير الدين. اشتغل في شبيبته وحصل علم الأوائل جيداً وصنف في علم الكلام وشرح الإشارات لأبن سينا، ووزر لأصحاب قلاع الألموت من الإسماعيلية؛ ثم وزر لهولاكو وكان معه في واقعة بغداد. ومن الناس من يرغم أنه أشار على هولاكو خان يقتل الخليفة فالله أعلم وعندي أن هذا لا يصدر من عاقل ولا فاضل، وقد ذكره بعض البغاددة فأثنى عليه وقال كان غافلا فاضلا كريما الأخلاق ودفن في مشهد موسى بن جعفر في سرداب كان قد أعد للخليفة الناصر لدين الله. وقد توفي وله خمسة وسبعون سنة وله شعر جدي قوي، واصل اشتغاله على المعين سالم بدار (كذا) بن علي المصري المعتزلي المتشيع فنزع فيه عروق كثيرة منه حتى أفسدت اعتقاده)

وقال الشيخ زين الدين عمر بن الوردي في تاريخه (ج2 ص223).

(وفي سنة 675هـ في ثامن من ذي الحجة توفي النصير الطوسي محمد بن محمد بن الحسن خدم صاحب الألموت (كذا) ثم خدم هولاكو وحظى عنده وعمل له رصدا بمراغة وزيجا، وله إقليدس يتضمن اختلاف الأوضاع ومجسطي وتذكرة في الهيئة، وشرح الإرشادات وأجاب عن غالب إيرادات فخر الدين الرازي عليها ومولده جمادي الأول سنة 597 ودفن في مشهد موسى الجواد) لقد شيد الطوسي قواعد مدرسته في مراغة ولم تكن هذه المدينة عاطلة من العلم قبله فإن ياقوتا المتوفى سنة 626 هـ وكان قبل الطوسي يحدثنا أنه ينسب إلى المراغة جماعة من المحدثين والفقهاء وأن بها أثار ومدارس وخانقاوات حسنة وأنه كان بها أدباء ومحدثون وفقهاء.

ويقول أبن العبري في تاريخه (وكان في هذا الزمان وفي سنة 575 هـ وما قبيلها من الحكماء المشهورين بالشرق السموأل ابن أيهوذا المغربي الأندلسي الحكيم اليهودي قد هو وأبوه إلى المشرق وكان أبوه يشدو شيئا من الحكمة، وكان والده السموأل قد قرأ فنون الحكمة، وقام بالعلوم الرياضية وأحكم أصولها وفوائدها ونوادرها وله في ذلك مصنفات. وصنف كتباً في الطب وارتحل إلى أذربيجان وخدم بيت بهلوان وأمراء دولتهم وأقام بمدينة مراغة وأولد أولاداً هناك سلكوا طريقته في الطب، ثم أسلم وصنف كتاباً في إظهار معايب اليهود ومواضع الدليل على تبديلهم التوراة ومات بالمراوغة قريبا في سنة 570 هـ).

وإذن فإن مراغة كانت تحتضن حياة علمية قبل الطوسي رحمه الله الذي ولد عام 597 هـ أي بعد وفاة هذا الحكيم اليهودي بسبعة وعشرين عاما.

(البقية في العدد القادم)

ضياء الدخيلي