مجلة الرسالة/العدد 814/طرائف عباسية
مجلة الرسالة/العدد 814/طرائف عباسية
نخلتا حلوان. . .
للشيخ محمد رجب البيومي
للشعراء إلهام خفي يعرج بهم إلى ملكوت رفيع، فهم يرون الكائنات الماثلة في صور غريبة متخيلة، وقد يقف الشاعر أمام رسم ماحل فيحاوره ويجادله ويجعل منه إنساناً يفصح عن شكاته، ويبين عن طواياه. وإذا كنا نحمد الكاتب الذي يصور مشاعره تصويراً صادقاً فيعرض لقارئه ما يختلج في صدره من إحساس في أسلوب مرسل طليق، فنحن بلا شك نعجب بالشاعر الذي يتصور عواطف غيره فيفصح عنها إفصاحاً مشرقاً، وقد يدق تصوره فيتغلغل فيما حوله تغلغلاً عميقاً، فإذا مر بقصر سامق، أو شاهد دوحة باسقة، منحهما جانباً من الإحساس البشري الدافق، ثم يعبر عما يتخيله من شعورهما المزعوم فيجمع إلى خفة الشعر غرابة المنحي وطرافة التفكير.
والحقيقة أن الشاعر يخلع إحساسه - في أكثر مواقفه - على ما حوله، فإذا كان مبتهج النفس، منبسط الأسارير، تصور ما أمامه من نبات أو حيوان كذلك، فرسمه في صورة مرحة سارة، أما إذا كان ملتاع الفؤاد منقبض الصدر، فإنه يتحدث عن شعور غيره في تبرم وأنفعال، وقد تهتف حمامة على فتن ناضر فيسمعها شاعر حزين فجعه البين في أحبائه، فيتصور هتافها نواحاً مريراً، وقد يسمعها شاعر مرح ممتع بأصفيائه، فيتصور هتافها غناء ساحراً ينعش الأفئدة ويسري عن النفوس.
وسنتحدث عن نخلتين عجيبتين بسقتا في ناحية متواضعة بحلوان (في آخر سواد العراق) وقد، لبثتا حيناً من الدهر يمر بهما الناس في الغدو والرواح، فلا يسترعيان انتباه إنسان، حتى نزل بهما مطيع بن إياس الليثي، وكان شاعراً متمكناً يسلك بقريضه فجاجاً متشعبة، فتحدث عنهما حديثاً جازت به الركاب، وتناقله الرواة فتسامع به الوزراء والخلفاء، وقد ضرب الدهر ضرباته بالنخلتين فطواهما في عنف عن الوجود منذ ألف عام ومائتي عام، ويبقى حديثهما في شعر معطراً بعبير الخلود!
لم يكن مطيع هداراً لجباً يجذب بروعته الأبصار كالإقيانوس الصاخب، بل كان شعره ينحدر رقيقاً عذباً كالغدير المترقرق، وذلك شأن من يقصر فنه الشعري على الغزل الرقيق، والمجون الطريف، فلا يحيد عنهما إلى المدح إلا في ظروف خاصة تفرضها المحاباة، وتقتضيها الطاعة في عصر تطلع فيه الأمراء إلى المدح والإطراء. وكانت حياة اللهو والمرح قد غمرت مطيعاً بمباهجها الفاتنة، فاصطحب الخلعاء، ونادم الظرفاء، وتحفز إلى أسراب الكعاب يسارقهن البسمات، ويخالسهن الصبوات، غير أن الدهر لم يفلته من كيده، فقد أوقعه في غرام جارية فاتنة تحت يده، فملكت عليه فؤاده، وتخطفت أزمة رشاده، ثم حزبه الحطب الملم، فاضطر إلى بيعها اضطراراً، وهام في الآفاق على وجهه فقذفت به النوى إلى حلوان، ثم برح به الشوق إلى حسنائه، واشتعل الحنين في أحشائه فنظر فيما حوله ذات اليمين وذات الشمال فرأى عن كثب نخلتين متجاورتين ترتفعان في الأفق إلى مدى شاهق، وقد هبت بهما رياح منعشة، فرنحت عطفيهما، وحاولت أن تضمها ضماً يبرد الغلة وينقع الشوق، فاشتبكت فروعهما السامقة في أجواز الفضاء وقتاً غير قصير!
منظر عاطفي أخاذ، عصف بالشاعر عصفاً عنيفاً، فتذكر ملاعب الصبوات، وعهود المسرات، وحسد النبات على التئام شمله، واكتمال صفائه، وكأنه تصور للنخلتين آذاناً تسمع، وعقولاً تفهم، فأخذ يحدثهما بضربات الدهر، وفتكات الأيام، ثم استشهد بنفسه على صحة ما ادعاه، فذكر جاريته الحسناء، وكيف كانت تذهب شجونه وتسري همه، غير أن الزمان لا يبقى على أنس، فاستل روحه من جسمه، ووقف له بالمرصاد أنى سار وهو لا بد سيقف للنخلتين موقفه منه، فتبدلان وحشة بعد أنس، وتناءيا غب لقاء. وهكذا يتشاءم الشاعر تشاؤماً يرفه عن خاطره، ويبرد من لوعته، وفي النفوس من يلحقها الألم الممض فتشعل من الغيظ اشتعالاً، حتى إذا لحق بغيرها من الأشياء سرى عنها بعض الشيء وأخذت تبصر وتتأسى بالمصاب الجديد. ولقد علل مطيع نفسه بما سيلحق النخلتين - قبل وقوعه - فبردت جوانحه وطفق يصف شجونه المتحاربة، إذ يقول:
أسعداني يا نخلتي حلوان ... وابكيا لي من ريب هذا الزمان
أسعداني وأيقنا أن نخساً ... سوف يأتيكما فتفترقان
ولعمري لو ذقتما ألم الفر ... قة أبكاكما الذي أبكاني
كم رمتني صروف هذي الليالي ... بفراق الأحباب والخلان
جارة لي بالري تذهب همي ... ويسري دنوها أحزاني وبرغمي أن أصبحت لا تراها العين مني وأصبحت لا تراني وإذن، فقد روح الشاعر عن نفسه، وأزل بوعيده المنكود، ونحسه الأشأم بعض ما يغاديه من الوساوس. وكأن النخلتين قوة أصاختا لشعره فأسعدتاه بما يريد، أو هكذا تخيل ذلك، فخف إلى بغداد بارد الصدر، وقابل صديقه حماداً فأسمعه ما قال في النخلتين من الشعر، وعبر عن سروره بما تخيله من الإسعاد والعون. وتمضي الأيام في سيرها الرتيب فتميل على قوم بالرفاهية والأمن، وتلهب آخرين بسياطها الملتهبة، فتصهر الأفئدة، وتحرق الجلود، ومنهم حماد صاحب مطيع، فقد ثارت به عاصفة هوجاء كادت تطيح بحياته، فتذكر شعر صاحبه، وخف إلى سدرتين مائلتين بقصر شيرين، وهو يظن كل الظن أنهما ستسعدانه، وستمثلانه دور النخلتين أصدق تمثيل. وينظر حماد إلى السدرتين الشاخصتين فلا يحس براحة، فينقلب إلى منزله ساخطاً ناقماً، ويجمجم بحروف حزينة تألف منها هذان البيتان:
جعل الله سدرتي قصر شير ... ين فداء لنخلتي حلوان
جئت مستسعداً فلم تسعداني ... ومطيع بكت له النخلتان!
والواقع أن مطيعاً رغم تحامله على القرينتين الآمنتين، قد أسدى إليهما يداً بيضاء، فقد نبه من خمولهما المستكين، وذاع شعره في الناس فأخلصهما من أزمتين حادثين، فقد مر الخليفة الباطش أبو جعفر المنصور بالعقبة ذات يوم فوجدهما تزحمان الطريق، وتعوقان القوافل المحتشدة عن المسير بضع ساعات، فأمر باستئصالهما في غير هوادة؛ ولكن أبيات مطيع ترن في أذنيه، ويتقدم إليه أحد أعوانه فيقول في تضرع ذيل: أعيذك بالله يا أمير المؤمنين أن تكون النحس الأشأم الذي عناه مطيع في قوله:
أسعداني وأيقنا أن نحساً ... سوف يأتيكما فتفترقان!
فيتراجع المنصور الجبار عن قصده، ويخشى أن يزيل النخلتين فيتناقل الناس أنه النحس الأشأم ثم يستعيد الأبيات فيثني عليها في لباقة ويهش لذكرى مطيع، فيخصه بجانب من الإطراء، وذلك ظفر عظيم للنخلتين، وكسب هائل لشاعر مستكين.
وسيعجب القارئ حين يعلم أن خليفة جباراً كالمنصور يرتاح إلى ما جن خليع كمطيع!! مع أنه فوق سيرته الداعرة قد صاحب الخلفاء الأمويين، وغرق في لحج متراكبة من نوالهم الجزيل، مما يهيج عليه أبا جعفر، بل يوجب أن يلتمس من جنونه العابث مقتلاً يرديه، فيمحق نديم أعدائه ونجي خصومه، ولكن القدر قد هيأ للشاعر فرصة مكنته من التزلف للمنصور، فاستل سخائم صدره، وبدد غياهب مقته؛ فقد اختفى الشاعر حقبة طويلة في مطلع العهد العباسي، حتى إذا علم بما اعتزم عليه المنصور من مبايعة ولده المهدي بالخلافة، كشف عن نفسه اللثام، ودلف إلى الحفل الحاشد في جرأة عجيبة، ثم صاح في الناس بأضخم صوت وأعلاه، فروي عن أناس من المحدثين أن رسول الله ﷺ: قد قال: (المهدي منا محمد بن عبد الله، وأمة ليست عربية) والجمهور في كل زمان ومكان كالأطفال يؤمن بالترهات ويدين بالأباطيل، فصفق للراوي والآفك، وصدق ما قال بدون تمحيص، ولم يخف على أبي جعفر افتراء مطيع، ولكنه وجد لكلامه ثمرة نافعة، فغمره بعطفه وأمنه على نفسه، فقر القلب الواجب، ونام الطرف الساهد، وأنس الهائم الشريد.
ولقد مات أبو جعفر، وقام بالأمر من بعده ولده المهدي، وكان ذا شغف بالرحلات المتنوعة، فوصفت له عقبة حلوان، فأصدر أمره بالمسير إليها، فأخذت زينتها ولبست من التنميق حلة زاهية، وبالغ العمال والصناع في زخرفة المكان زخرفة تليق بالزائر العظيم، ثم حانت ساعة القدوم، فحضر الخليفة في ملأ من سماره وندمائه، وامتد بساط الأنس فصدحت المزاهر وعزفت القيان، وكان في المغنيات جارية أديبة تدعى (حسنة) فجالت ببصرها في العقبة فرأت عن كثب نخلتي حلوان، وقد بقيتا على العهد متجاورتين متصافيتين فما جاء دورها في الغناء حتى انطلقت تصدح بقول ابن أبي ربيعة:
أيا نخلتي وادي بوابة حبذا ... إذا نام حراس النخيل جناكما
ودار الخليفة ببصره فرأى نخلتي حلوان، فعلم أن جاريته تعنيهما من طرف خفي، فأراد أن ينغص عليها صفاء الحفل فقال: لقد خطر لي أن أقطع النخلتين فهما تزحمان الطريق، فصاحت الجارية كالمشدوهة (أعيذك بالله يا أمير المؤمنين أن تكون النحس الأشأم الذي تنبأ به مطيع) فتبسم في عجب وقال لمغنيته الجميلة: أحسنت في رأيك، والله لا أقطعهما ما حييت، ولأوكلن بهما من يتعهدهما بالسقيا والإنعاش. ثم عين لهما ساقياً مخلصاً، فما زال موكلاً بهما حتى مات أمير المؤمنين!! وانتهت الأزمة بسلام. ولكن أي شيء يبقى على الأيام؟! لقد عصف الدهر بأطواد شامخة رسخت أصولها في باطن الأرض وناطحت قمتها الجوزاء، فهل يبقى على نخلتي حلوان؟ كلا! فقد فاجأهما النحس المشئوم على يد الرشيد؛ حيث هاج به الدم مرة في حلوان فأشار عليه طبيبه أن يأكل جمار نخلة فارعة، فبحث أعوانه لدى الدهاقين فما تيسر لهم الدواء، ففزعوا إلى إحدى النخلتين فقطعوها في عجلة وأتوا بالدواء للرشيد. ومر الخليفة بالنخلة الباقية في إحدى روحاته فتذكر بيت مطيع، ووقف في مكانه واجماً ساهماً، كمن ارتكب محظوراً خطيراً لا يمكن تلافيه، ثم قال في حسرة كظيمة: عزيز علي أن أكون النحس المفرق، ولوددت أني لم أذق الدواء ولو قتلني الدم بحلوان.
واهاً لمطيع!! لقد جعل الرشيد يتحسر على استئصال نخلة حقيرة، وكأنه قتل - بدون جرم - إنساناً ينبض بالحركة، ويجيش بالحياة، كما أتاح للنخلتين حديثاً يروي مدى الأحقاب، وجعل منهما مادة دسمة للشعراء، فنظم أحمد بن إبراهيم الكاتب في رثائهما أبياتاً دامعة، وارتفع بهما شاعر آخر إلى مرتبة عالية؛ فوازن بينهما وبين عاذلين من بني الإنسان، والتمس لهما العذر في رفق ملموس. فهل كان يدري مطيع حين نظم أبياته أي قصة عجيبة مثل فيها الفصل الأول وختم الرشيد فصلها الأخير؟ أجل لقد كتب الشاعر لنخلتيه تاريخاً يطالعه القراء كما يطالعون ترجمة عظيم مثل دوره السياسي ثم لقي حتفه فترحم عليه الجميع.
ارحم الغصن لا تنله بسوء ... قد يحس النبات كالإنسان
(جزيرة الروضة)
محمد رجب البيومي