مجلة الرسالة/العدد 814/أساليب التفكير:
مجلة الرسالة/العدد 814/أساليب التفكير:
التفكير في الشرق القديم
للأستاذ عبد المنعم عبد العزيز المليجي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
وبعد فذاك لون خيالي من التفكير؛ بيد أنه يستر وراءه نزعة فلسفية ناشئة تغالب الخرافة؛ وتسعى إلى إيجاد حل معقول لمشكلة الخير والشر في العالم: هل هما من مصدر واحد؟ لا - فذلك ما لا يقبله عقل زرا دشت الحكيم؛ إذ كيف يتسنى أن يصدر النقيضان عن مبدأ واحد!؟ لا بد إذن أن مظاهر الشرور من أمراض وجرائم وموت وقبح وشقاء ترجع إلى علة غير العلة التي ترجع إليها مظاهر الخير من عافية وإحسان وفضيلة وحياة وجمال وسعادة. ولكن العقل قاصر كما قلنا، فهو يفرض وجود العلة ويعجز عن معرفة كنهها، حينئذ يلوذ بالخيال يلتمس عنده ما لم يجده في رحاب العقل، فيخرج بصورة رائعة ترضي نزوعه إلى معرفة إلى حين: تلك هي صورة الصراع المحتدم بين حزبين على رأس أحدهما (أورموزدا) وعلى رأس الآخر (أهر يمان).
ولكن هذه النتيجة لا تشبع العقل، ولا تشفى غليله أللخير أم للشر؟ وهل يعقد النصر لحزب الحق أم لحزب الباطل؟ لو أجاب زرا دشت على هذا السؤال مستنداً إلى الاستدلال البريء من الهوى والرغبة، ودعم إجابته بالدليل المنطقي والبرهان، لقلنا إنه أنتج فلسفة وفكر تفكيراً فلسفياً، ولكنه يحكم طوره المبكر في عالم التفكير، يستجيب لنزعة التفاؤل المتمكنة من نفسه، فيغلب الخير، لا لضرورة منطقية، ولا ليقين عقلي، ولكن لإيمان قلبي، ورغبة نفسية، يحتمان عليه أن ينتصر الخير ويعم الجمال وتسود السعادة في نهاية الأمر. وهكذا نلمس لدى الفرس ما لمسناه في تفكير المصريين. دوافع نفسية تحرك الخيال فيصوغ الآراء صياغة حسية، ويصور العالم صورة خيالية ذاتية لا صورة واقعية موضوعية.
وتقرب من هذه المحاولة الفارسية محاولة هندية يمثلها البراهمة وهم الكهنة الحفاظ على الديانة الفادية التي ترجع إلى القرن الثاني عشر قبل الميلاد، والتي توزع قوى الطبيعة على آلهة عدة لكل منها دوره في تدبيرها. كان البراهمة كهنة لهذه الديانة جمعوا بين العلم والدين، وليس هذا بعجيب إذا علمنا أن القادية مشتقة من قيداس أي العلم، وقد تطورت الديانة القادية بفضلهم تطوراً اقتضاه تبدل الأحوال، وارتقاء التفكير؛ فخرج المذهب البرهمي في القرن التاسع قبل الميلاد بفكرة فريدة في هذه العصور الخالية التي تسود فيها الوثنية أو تعدد الالهة، هي فكرة الإله الواحد رغم تعدد مظاهره. يراهما الذي أخرج العالم من ذاته، والذي يحفظه ويرعاه، والذي يهلكه ويفنيه. فهو ثلاثة في واحد، أو هو واحد ذو مظاهر ثلاثة، هو براهما من حيث هو مبدأ الوجود، وهو (فشنو) إذا نظرنا إليه من حيث عنايته بالكون والمحافظة عليه، وهو (سيفا) من حيث كونه المهلك. وما براهما وفشنو وسيفا غير أسماء ثلاثة لإرادة واحدة لا حد لها، وقدرة فريدة لا نهاية لها. أما الموجورات أو الجزيئات التي ندركها بحواسنا، فهي مجرد مظاهر حسية مفكرة لحقيقة كلية واحدة هي (براهما) المنبث في أرجاء الكون جميعاً. وهكذا يبلغ البراهمة نظرية فلسفية سوف تصادفنا كثيراً في سياق الحديث عند التاريخ الفلسفة؛ تلك هي نظرية الحلول؛ نصادفها عند متصوفة الإسلام في القرون الوسطى وسبينيوزا في العصور الحديثة. وقد ارتكزوا على هذه النظرية في تفسير الخير والشر والسعادة والشقاء؛ فأرجعوا الخير والسعادة واللذة إلى الوحدة، واعتبروا الكثرة والوهمية والرغبة في الانفصال عن الإرادة الكلية علة الألم والشر والشقاء في الحياة الدنيا؛ وعليه يصبح بلوغ السعادة عملاً يسيراً، فما عليك إلا أن تستجيب لنداء الوحدة والحقيقة، فتتجرد من لذات البدن، وتتجرد من أوهام الحواس التي تفصلك عن الكلي اللانهائي، وتقطعك عن الأصل الإلهي؛ ولا يتأتي ذلك إلا بمجاهدات نفسية، ورياضات جسدية عنيفة، تأخذ نفسك بها كما يفعل اليوم فقراء الهنود الذين يتصلون بسبب قريب بهذه الفلسفة القديمة البدائية وهنا نلمح كيف أدت النظرة الهندية للعالم إلى نظرية عملية، تستهدف تدبير حياة الفرد والجماعة بما يكفل لهم سعادة أبدية. وهذه لعمري ميزة تسم الفكر الشرقي القديم: أعني بها عدم الوقوف عند تفسير العالم الطبيعي وتجاوز ذلك إلى مباحث أخلاقية في الخير والشر، والسعادة والشقاء، واللذة والألم، مباحث أفضت إلى حكمة عملية، ونقصد بالحكمة العملية ذلك الجانب من الفلسفة الذي يتناول بالبحث مبادئ الأخلاق والسياسة.
وما دمنا قد ذكرنا الحكمة العملية فلا بد أن نشير إلى زاهد قبيلة سكيا المتوفى سنة477 قبل الميلاد (بوذا) الحكيم الذي جمع من الاتباع، وخلف من الأنصار، ما لم يتيسر لكثيرين من قادة الفكر ودعاة الدين في كثير من العصور. لا بد أن نشير إلى بوذا فهو خير ممثل للحكمة العملية في الشرق القديم، وأقدر مفكري عصره على التحرر من الخرافة، وأقربهم إلى النزعة الفلسفية التي لا تبالي بالموروث، ولا تني عن السعي إلى الحقيقة الخالصة، حتى لنجد لديه بذور مذهب فلسفي شاع في العصور الحديثة، مذهب ينكر وجود جوهر اسمه العقل أو الذات وإنما الموجود ظواهر نفسية، ووقائع شعورية، وأفكار تتابع وتتلاحق دون حاجة إلى جوهر يحمل هذه الأمور جميعاً، فنحن نفكر ونعقل ونتخيل وندرك ونشعر، وتتتابع الأفكار والمعاني والأخيلة والمدركات والمشاعر، فليس ما يدعونا إلى القول بنفس أو عقل أو ذات تحمل هذه الأمور.
ذلك مبحث في صميم الفلسفة يعد وثبة فكرية رائعة، ويضع لبنة من لبنات الميتافيزيقا. وقد أستنتج بوذا من هذه النظرية نظرية في الميتافيزيقا هي إنكار (براهما) أي أصل الوجود عند البراهمة، استنتجها استنتاجاً منطقياً من رأيه في الذات الفردية؛ ولكنه رغم ذلك لا يزال يتصل اتصالاً وثيقاً بالفكر الخرافي الذي يتأثر بالدوافع النفسية، ويستلهم الخيال في كثير من الأحيان، ناهيك بالجانب الأخلاقي في فلسفته الذي يجعل الزهد فضيلة الفضائل، وفناء الشخصية (النيرفانا) غاية الغايات. ولن أترك الحديث عن الملهم الحكيم، قبل أن أشير إلى آرائه في الفلسفة السياسية، من استنكار لنظام الطبقات، وإعلان للمساومة التامة، وإقرار بفكرة التعاطف بين البشر، ومبدأ السلام والمسالمة؛ وجميعها أراء تستهدف نفس الغاية التي أنتجت فلسفته: وإفناء الشخصية الفردية، وتغليب الطبيعة العقلية على الطبيعة الحسية، وإخضاع الإرادة الجزئية للإرادة الكلية.
وآخر مثال أزجيه من التفكير الصيني. ومن أحق بالذكر من بين قادة الفكر الصيني القديم من (كونفوشيوس)، الذي عاش في القرنين السادس والخامس قبل الميلاد. أفكاره عملية أي أخلاقية سياسية. ففي الأخلاق يؤكد فكرة الواجب وضرورة صدورها عن العقل، وضرورة تكميل النفس ويلح على أن الفضيلة اعتدال أي وسط بين الإفراط والتفريط، وينهي عن التطلع إلى المستقبل فهو هم وألم. وأما فلسفته السياسية، فترتكز على عداء للحرب وإيمان بالسلام والعالمية. ويعتبر مثلاً قديماً من أمثلة الدعوات إلى السلام والإيمان بضرورة جعل العالم أسرة واحدة متحابة متعاونة متكاملة، فليتأمل أقطاب هيئة الأمم المتحدة هل أتوا بجديد؟ ولينظر مفكرو الغرب كيف ساهم الشرق القديم في دعم السلام العالمي والأمن الجماعي بفكره ولما يزل في دور الطفولة.
بعد هذا العرض السريع لتراث فكري دفع العقل إلى الأمام بما قدم من غذاء لعصور زكية، نقف هنيهة نتساءل: أليس من الخطأ أن نقول إن الفكر الشرقي في القديم خرافي كله؟ ونجيب عن أنفسنا: إن الخرافة كانت تسود في هذه العصور، ولكن الفلسفة كانت تطل برأسها بين الفينة والفينة، وترسل بارقة مضيئة بين الحين والحين؛ حتى نرى الفكر الهندي والصيني يضرب بسهم في عالم الفلسفة، فقد حاول الهنود والصينيون تفسير بعض جوانب الكون تفسيرات عقلية، كان يمكن أن تصير فلسفة لولا تقيد ببعض أغلال التقاليد، وهروع أحياناً إلى الخيال، وتناثر في الآراء، وإعواز إلى مذهب يلم شتات هذه الأفكار المبعثرة والنظرات المتفرقة، واقتصار على الفلسفة العملية سياسية كانت أو أخلاقية. ولو قد تجرد هؤلاء القدماء من النزعة الدينية الساذجة وأخذوا أنفسهم ببعض التأليف بين النظرات المبعثرة لأمكن أن يخرج اتجاه ميتا فيزيقي عام كما حدث عند اليونان إبان عصر الفلسفة.
(حلوان)
عبد المنعم المليجي
مدرس الفلسفة بحلوان الثانوية