مجلة الرسالة/العدد 8/التجديد في الأدب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 8/التجديد في الأدب

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 05 - 1933



حول مقال الأستاذ أحمد أمين

للدكتور عبد الوهاب عزام

قرأت في (الرسالة) مقالا للأستاذ الفاضل أحمد أمين عنوانه (التجديد في الأدب) فرأيت آراء بينة استحسنتها، وألفيت رأيا آخر لم أقبله، وقد هممت أن أكتب مجاملا الأستاذ ثم بدى لي أن أرجئ الكتابة إلى حتى يتم مقالاته، فلما قرأت المقال الثاني زاد الخلاف بيني وبينه. ثم عرفت أنه سيتلبث قليلا فلا يكتب عن هذا الموضوع في العدد الآتي فسارعت إلى الكتابة وأنا اشعر أن الذي يحبب إلى مجادلة الأستاذ حبي واعظامي وتلمسي محادثته كلما وجدت إليها سبيلا في المجالس أو في صفحات المجلات.

قابلت الأستاذ بعد أن قرأت المقال الأول فقلت: سأنتقد مقالك أو اشرحه. فقال مازحا: قبل أن تقرأه؟ فقلت نعم. ذلك أنني أنشأت أنا وصديقي الأستاذ العبادي في بعض الأسفار أبياتا وسميناها (القصيدة المكتمة) وكتمناها الأستاذفقال: لا أبالي هذا الكتمان، وسأشرحها دون أن أراها. وأذكر أني قابلته مرة فقلت: (سؤال) فقال قبل أن يستمع إلى سؤالي: (جواب) أتريد أن أجيب قبل السؤال أو بعده؟ ولكن ليطمئن أستاذنا وليعلم أني قرأت مقاله قبل أن أكتب عنه، وهو أمامي الآن أقرأه وأكتب ما يبدو لي فيه.

أعجبني قول الأستاذ عنالمجددين: (فإذا سألت المجددين ماذا يريدون بالتجديد، وما ضروبه وما مناحيه وماذا يقترحون أن يدخلوه على الأدب العربي؟ جمجموا في القول وأتوا بكلمات غير محدودة المعنى ولا واضحة الدلالة) وأنا أزيد علىهذا أن التغيير ليس فضيلة ينبغي الحرص عليها والتنافس فيها والتفاخر بها، وإنما يستحسن التغيير أو التجديد حين تدعو الحاجة إليه. والكاتب النابغ إذا أحس الحاجة إلى التجديد بدّل وغيّر وابتدع في غير صخب ولا سخرية ولا مباهات، ثم عرض على الناس نتاج رأيه، وثمرة ابتكاره فيرضونها، أو يجادلون في أمر وضحت معالمه واستبانت حدوده. الكاتب المجدد حقاً هو الذي يمضي في سبيله قدما، مبيناً عن آرائه ومشاعره على الأسلوب الذي يفي بهذا البيان. والخطة التي يؤثرها ويفصلها لا يتكلف الإغراب والشذوذ ليقال انه مجدد. والشاعر المطبوع هو الذي يسير على فطرته مخلصاً لنفسه مبيناً عنها لا يبالي أن يكون قد لزم الجادة المطروقة أو حاد عنها، ثم يعرض على الناس شعره فيما اختار من موضوع وأسلوب في الوزن والقافية. فإذا ثار الناس عليه جادل عن نفسه وأوضح حجته. والأدب فيما أحسب يؤثر فيه الاستطراف، فقد يغير الشاعر أسلوبا طال عليه العهد ومله الناس، وقد يرجع الناس إلى الأسلوب المهجور بعد حين فيستطرفونه. فالتغيير في الأدب واسع المجال ولكن ينبغي أن تحسن الحاجة إليه وتستبين سبله.

الأدب العربي تقلب في أطوار مختلفة. وابتدعت فيه بدع كثيرة ولكن لم نسمع إن المبتدعين مهدوا لابتداعهم بمعركة كلامية في القديم والجديد، نظم ابن المعتز موشحه، وافتن المغاربة في الموشحات افتنانا خرج بها عن الأوزان والقوافي المألوفة، ومضى الناس على هذا ولم يمهد لهذا الابتداع بثرثرة في التجديد، ولم يكن للمجددين من حجة إلا أن ألقوا إلى الناس موشحاتهم تحتج لنفسها. وكذلك نظمت قصص كليلة ودمنة وغيرها في القافية المزدوجة، ولم يكن هذا معروفا من قبل، وكتب بديع الزمان الهمذاني مقاماته وهي طريقة جديدة، وما عرفناه أن تقدم هذا وذاك جدال أجوف ذو دوي كالذي نسمعه في هذا العهد والمتنبي ذهب في الشعر المذهب الذي ارتضاه ثم قال:

أنام ملء جفوني عن شواردها ... ويسهر القوم جراها ويختصم

المعري ملأ شعره بالفلسفة وأمور لم يألفها الشعر من قبل وكتب رسالة الغفران على غير مثال فما دعا إلى طريقته ولا جادل فيها أحدا. وما أحسب لامرتين الشاعر الفرنسي حين نشر (التأملات) قد أجهد نفسه في الدفاع عن نفسه، والهجوم على مخالفيه. هذه هي الطريقة المثلى التي تجنبنا المعارك الضالة والكلام المتهاتر، والحجج المبهمة، حين يدور الجدل علىأمر مشهود بين يمد الكلام، ويقصر النزاع، ثم يكون المثال الجديد حجة لنفسه تسد السبل على المعاندين والمغالطين. هذه هي الطريقة المثلى. وأما الجعجعة بغير طحن، أو جعجعة في طحن الكلام، وإثارة الخصام جناية على القارئين، ومضلة للباحثين.

إنما يكثر تحدث الإنسان عن صحته حين يعتل، وأما الصحيح القوي فهو عامل جاهد، ماض في سبيله لا يقيس كل خطوة بنصح الأطباء، ولا يزن كل أكلة بما أعطي من الدواء. وكذلك أعجز الناس عن الابتكار والإتقان أكثرهم ضوضاء وسخرية وافتراء وادعاء. أعود إلى مقال الأستاذ احمد امين، بعد أن ند القلم في الكلام عن التجديد والمجددين، وأترك للأستاذ المقدمةالتي ذكر فيها (العناصر الثابتة) في الأدب و (العناصر المتغيرة) وأتصدى لكلامه في تجديد الألفاظ. هو يرى أن التجديد فيها على ضربين: الأول (اختيار الألفاظ التي تناسب العصر، ويرضاها ذوق الجيل الحاضر) وضرب الأستاذ مثلا كلمة هبيخ وبعاق وكنهور. وأنا لا أريد أن أناقش الأستاذ في الأمثلة فقد قرأنا في كتبنا القديمة أن (المناقشة في المثال ليست من دأب المحصلين) ولكني أخالفه فيما سماه ذوق العصر وأعرض نفسي لحكمه حين يقول: (وهذا بديهي لا يحتاج إلى إطالة. وكل من جهل هذه الحقيقة لا يفلح أن يكون أديبا) أخالفه في أن يجعل الذوق حكما ولا سيما ذوق الجيل الحاضر على قصوره في اللغة والأدب. وأخشى أن يقتصر هذا الذوق على ما ألف من الكلمات فيعد كل كلمة غير مألوفة نابية عن الذوق ثقيلة على السمع، فإذا أراد كاتب أن يدل على الهواء بين السماء والأرض فقال (السكاك) أو (السمهى) ضحك منه أهل الذوق. وإذا أراد أن يدل على الهواء بين جبلين فقال (النفنف) سخروا منه، وإذا قال صفقت الباب وأجفته بمعنى أتممت إغلاقه أو تركت فيه فرجة (رجلته) اشمأز الذين لم يسمعوا بهذه الكلمات، على إن البيان في حاجة إليها. إن الذوق يسقم ويصح. والأديب النابغة يستملي فطرته فيلائم الذوق العام أو يسيره حيث يشاء ولا يقف نفسه أسيرا تتصرف به الأذواق. إن أمر الألفاظ أجل وأخطر من أن يحكم فيه الذوق وحده. إن الحاجة خلاقة الألفاظ ومبقيتها، والحاجة لا تباليبالأذواق. فعلى كل أمة وكل جيل أن يأخذ من لغته الألفاظ التي يحتاج إليها ويخلق الألفاظ التي لا يجدها، غير مبال بالغرابة أو الثقل الذي يبدو أول الأمر، فان الاستعمال جدير باستئناس الكلمة الملاءمة بينها وبين أذواق الناس. وكم من كلمة أجنبية ثقيلة استعملها الناس فألفوها، ولميجادلوا فيها. فبعض كتابنا يقول البروباجندا والديموقراطية والأرستقراطية والميتافيزيقية على بعدها عن طبيعة لغتنا وأوزإنها، أنا أعرف أن القدماء من أدبائنا غلوا في الظرف وأخذوا على المتنبي وغيره كلمات سموها نابية أو حوشية. وقد تجلى هذا الظرف في كتاب المثل السائر وغيره ولكن هذه الرقةلا يقام لها وزن عند الحاجة الملحة. بعض ألفاظ اللغة محاكاة الأصوات، وبعضها فيما أظن، تخيل المعاني في الأصوات: حاكت اللغة صوت الريح والرعد والطير وأنواع الحيوان ونحوها ومثلت المعاني الأخرى في ألفاظ تلائمها، فليس لنا أن ننفر من الألفاظ الشديدة ونتجنبها إن أردنا أن ندل على المعاني الشديدة. فالعقنقل والحقف والكثيب والجلمودوأشباهها ملائمة لمعانيها. ولا بد من استعمالها لندل على هذه المعاني. ولكن الذوق الحاضر يؤثر الألفاظ اللينة الحفيفة الجرس المألوفة، ويترك مثل هذه الألفاظ على شدة الحاجة إليها.

ينبغي أن تؤثر الألفاظ القوية الشديدة لمعانيها، والألفاظ الخفيفة لمعانيها، دون إنصات إلى حكم الأذواق، بل ينبغي أن يعمل الأديب لإحياء الألفاظ الطبيعية الشديدة كلما نزعت بالأمة رخاوة الحضارة إلى نسيإنها، وينبغي أن تعالج اللغات بالألفاظ القوية التي تبدو ثقيلة غير مألوفة، كما يعالج ترف الحضارة بضروب السياحات والرياضات الشاقة. والاستعمال جدير بتذليل كل صعب، وأستأنس كل وحشي. يجب أن يحكم موضوع الكلام لا ذوق المترفين. فالشاعر في القاهرة أو باريس إذا وصف الجبال أو الحروب، وهي بعيدة من إلفه، ساغ له أن يأتي بالألفاظ التي تثير الروعة والهيبة. إن اللغات العامية في البلاد العربية نتيجة الأذواق المختلفة، ولغة الأدب الموحدة في هذه البلاد نتيجة مقاومة هذه الأذواق بالتعليم، ورفعها إلى مستوى أرفع وأقوم.

أضرب للأستاذ الفاضل قول مسلم بن الوليد في وصف الصحراء

ومجهل كاطراد السيف محتجز ... عن الإدلاء مسجور الصياخيد

تمشي الرياح به حسرى مولهة ... حيرى تلوذ بأكناف الجلاميد

ما رأيه في (مسجور الصياخيد) و (أكناف الجلاميد)؟ أهي ملائمة لذوق الجيل الحاضر؟ وهل يرى غيرها أجدر بمكانها في هذا الشعر؟ إنها لا ريب حسنة في موقعها، بالغة ما أريد بها من وصف الصحراء حين تشتعل فيها الهواجر. فإن كان علم الجيل الحاضر باللغة ينفر به عن أمثال هذه الكلمة فليس على الكاتب أن يتحرز عنها، ولكن على الناس أن يألفوها. ثم ماذا يرى الأستاذ في قول ابن هانئ الأندلسي:

فحياضهم من كل مهجة خالع ... وخيامهم من كل لبدة قسور

من كل أهرت كالح ذي لبدة ... أو كل أبيض واضح ذي مغفر

طردوا الأوابد في الفدافد طردهم ... للأعوجية في مجال العثير

ماذا يرى إن كان جهل جيلنا الحاضر باللغة ينفر بذوقه من قسور وأهرت والأوابد والفدافد والأعوجية. وهل ينبغي أن يهجر قول الشريف الرضي:

من القوم حلوا بالربى وأمدهم ... قديم المساعي والعلاء القدامس

تحلهم دار العدو شفارهم ... وترعيهم الأرض القنى المداعس

بها ليل أزوال، بكل قبيلة ... ملاذع من نيرانهم ومقابس

أو ينبغي أن يهجر ذوقالجيل الحاضر ان نفر من مثل هذا الشعر؟

أرى أن حاجة الكتاب إلى الإبانةوالإعراب والإبداعتسوغ لهم أن يتخيروا من اللغة ما يشاءون، ويطبعوا ذوقالأمة كما يبتغون، وأرى أن الذوق ربما يكون وليد الجهل وفساد الطبع، والاستكانة إلى كل هين يسير، والركون إلى كل سفساس مبتذل.

للذوق الحكم حين يتسع العلم باللغة والأدب، وتعرض ألفاظ عدة لمعنى واحد فيختار الذوق واحداً منها. وللاختيار أسباب كثيرة، فقد يختار (هبيخ وبعاق وكنهور) وقد يختار غيرها. وإنما الفظاظة والثقل أن يعمد الكاتب إلى كلمات غير مألوفة فيؤثرها على المألوف إغرابا وتعمقا وشذوذاً ومخالفة للذوق دون جدوى.

ثم يقول الأستاذ: (لذلك أصبحت في معاجم لغتنا ألفاظ كثيرة ليس لها قيمة الا إنها أثرية تحفظ فيها كما تحفظ التحف في دار الآثار) وأنا أقول بعد الذي قدمت: ما أشد حاجتنا إلى كثير من هذه الألفاظ المهجورة، فإنها مجدية على من يعرفها ويستعملها. وعسى أن تصير ملائمة لذوق الجيل الحاضر حين يعرفها فيقضي بها حاجته من الإبانة عما يريد.

ربما يقول الأستاذ بعد قراءة هذه الكلمة. إن الذوق في رأيي هو الذوق الذي تخلقه الحاجة والمعرفة والتمكن من اللغة والأدب، وبلوغ الغاية مما نريد لا الذوق الذي يكون على العلات في كل حين. فان يكن هذا الذي أراده أستاذنا فقد شرحته وبينته وبررت بوعدي حين لقيته فقلت: (سأنقد مقالك أو أشرحه) وأما الأستاذ الثاني وهو أجدر بالمجادلة فموعدنا بنقده (الرسالة الآتية)