مجلة الرسالة/العدد 799/مسألة تاريخية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 799/مسألة تاريخية

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 10 - 1948



للدكتور جواد علي

بهذا العنوان حرر الأستاذ ساطع بك الحصري مقالة نشرها في مجلة الثقافة كانت بمثابة رد على ما كتبه (شمس الدين كون التاي) أحد الأتراك في مجلة (مجمع التاريخ التركي) التركية بمناسبة الاحتفال التذكاري الذي أقيم في سنة 1937 في كابل وطهران واستانبول لمناسبة مرور تسعمائة عام على وفاة الفيلسوف الحكيم (ابن سينا) وقد تنازع على أصله الإيرانيون والأتراك والأفغان وكتبوا في ذلك الكتب والمقالات. كل يدعي أنه منهم. ولم يتنازع النا عليه يوم كان حياً؛ ولكنها الدنيا لا تعرف قيم الأشخاص إلا بعد الوفاة

وقد تعرض الأستاذ (أبو خلدون) في جملة ما تعرض له من نقاط إلى موضوع (الأتراك) وأثرهم الثقافي في البصرة و (معبد الجهني) وأثره في (الجبر والاختيار) وعلم الكلام. فقد زعم (شمس الدين كون التاي) في جملة ما زعمه أن (عبيد الله بن زياد الذي كان قد ولى على خراسان مأموراً للاستيلاء على ما وراء النهر في عهد الخليفة معاوية كان قد أعجب إعجابا شديدا بالثقافة العالية والمهارة العسكرية التي يتحلى بها أهل بخارى فانتخب من بينهم ألفي شاب من المهذبين المثقفين، وأرسلهم إلى العراق بغية جعلهم معلمين للعرب وأسكنهم البصرة. وإن هذه المعلومات التي ينقلها لنا أقدم مؤرخي الإسلام البلاذري تحل اللغز الذي كان يكتنف مسألة منشأ الحركة الفكرية الأولى في الإسلام).

وقد تساءل الكاتب التركي: لماذا نشأت هذه الحركة في مدينة البصرة أولا؟ فأجاب (لأن الذين أثاروا هذه الحركة الفرية الأولى كانوا هؤلاء الشباب المنقولين من بخارى هم وأولادهم، وإن الشخصين اللذين كانا وضعا الحجر الأساسي في بناء المذهبين المتعارضين في اللاهوت كان كلاهما من أهل ذلك القطر. إن معبد الجهني الذي أسس المذهب القائل بحرية الإرادة البشرية كان قد ولد في بلدة جهينة الكائنة في نواحي جرجان وطبرستان، كما أن جهم بن صفوان الذي أسس المذهب المعارض لذلك هو أيضا كان تركيا من أهل بلخ وكان قد تقدم بآرائه هذه لأول مرة في مدينة (ترمذ) من ديار الأتراك).

ولقد لفتت هذه الدعاوى نظر الأستاذ (ساطع الحصري) - وهو من المحامين عن الثقافة العربية الذابين عنها - فراجع المصادر التي استند عليها (شمس الدين) فلم يجد فيه يشير إلى ما ذهب إليه هذا الكاتب من نقل المثقفين والعلماء الأتراك من طبرستان إلى البصرة لا تصريحا ولا تلميحا وإنما تحدث عن سبى من السبايا الذين نقلوا كالعادة من طبرستان إلى جنوب العراق. وبهذا دل المؤرخ التركي على أنه لم يكن يستند في قوله هذا على أي سند أو دليل.

ثم عرج (ساطع الحصري) على قضية (معبد الجهني) ونسبته إلى الأتراك فاستعرض الآراء في (جهينة) وفي نسبة (معبد) فيها ثم خرج من كل ذلك إلى أن (الجهني) من (جهينة) القبيلة العربية المعروفة؛ وقد استند في نهاية حديثه إلى ما رواه السمعاني في كتابه (الأنساب) حيث قال: الجهني - هذه النسبة إلى جهينة وهي من قضاعة: نزلت الكوة ومنها محلة ينسب إليها جماعة. . . منهممعبد بن خالد الجهني كان يجالس الحسن البصري، وهو أول من تكلم بالبصرة في القدر. فسلك أهل البصرة بعده مسلكه فيها).

وما كان الأستاذ - في نظري - بحاجة إلى إثبات أو نفي نسب (معبد) وتعيين منزلته في العرب أو الأتراك. وفي القرآن الكريم والحديث النبوي، وفي خطب الصحابة مثل خطب الإمام علي المدونة في نهج البلاغة، وفي أسئلة الصحابة للرسول، وفي الأسئلة الكثيرة التي كان يوجهها العراقيون إلى زعيمهم الإمام عن الحرب والفتنة، أكان ذلك بعلم الله وقضائه وفي بحث التابعين في هذه المواضيع قبل نشوء (معبد) وقبل تفوه (جهنم ابن صفوان) زعيم (الجهمية). نعم في كل ذلك ما يغنى عن الرد على صاحب هذه المقالة. اللهم إذا زعم (شمس الدين) أن القرآن تركي وأن الرسول تركي وأن (الحديث النبوي) تركي بلغة التاي).

وقد أعادت هذه المقالة إلى ذهني ذكريات (المؤتمر اللغوي الثاني) الذي عقده الأتراك في الأستانة بين 18 - 23 آب والذي رأسه المرحوم (أتاتورك) وحضرة ما يزيد على (600) شخص من أرقى طبقات الأتراك كان منبينهم فخامة الرئيس الحالي (عصمت إينونو) وكاظم باشا رئيس المجلس الوطني الكبير ورجب بك السكرتير العام لحزب الشعب.

وقد افتتح المؤتمر معالي وزير المعارف في ذلك العهد فذكر أن الأمة التركية أقدم الأمم تمدناوحضارة، وأنها هي التي نقلت الحضارة من أواسط آسيا إلى أوربا الشرقية والشرق الأدنى، فأصبحت سببا في تحضر الأمم الأخرى وتمدنها. وادعى أحمد جواد بك أ؛ د أعضاء المؤتمر أن اللغات الهندية والجرمانية والسلافبة واليونانية واللاتينية والقفقاسية والفنية (لغة فنلندة) هي من أصل يرجع إلى اللغة التركية القديمة المسماة لغة (التاي) وهي لغة الأتراك القديمة.

وتكلم عضو آخر هو (نعيم حازم بك) عن (علاقة اللغة السامية) فزعم أن المدينة التركية كانت بمثابة خميرة للمدنيات العالمية، وأن اللغة التركية كانت الأصل لجميع اللغات، وأن الأقوام السامية إنما أصبحت ذوات لغات واسعة غنية باحتكاكها بالأتراك. وضرب مثلا على ذلك اللغة العربية فقال إن العرب كانوا قد استمدوا كثيرا من الكلمات من اللغة التركية تصرفوا بها وعربوها وصقلوها في جاهليتهم وفي أيام إسلامهم، وجاء بأحد عشر قاعدة في كيفية أخذ العرب قديما للكلمات التركية وتعريبها لها. وذكر أمثلة على هذه القواعد.

وأيد هذه النظرية لغوي آخر هو (يوسف ضياء بك) نائب اسكيشهر إذ بحث عن الكلمات التي انتقلت من لغة (التاي) أي اللغة التركية القديمة إلى اللغات السامية ولغة العرب على الأخص.

وساقت العاطفة بعضهم إلى الإدعاء بوجود علاقات قوية بين لهجة (مايا) في المكسيك ولغة الأتراك وطلبوا لذلك الاهتمام بدراسة هذه اللغة ودراسة لغة أخرى تشبهها هي لغة (تولنك) لمعرفة أنساب الأتراك والحصول على كلمات تركية منسية من جهة أخرى.

وبعد فإني أعتقد أنك بعد أن وقفت على هذه الآراء الرسمية المجملة التي أخذتها من المحضر الرسمي للمؤتمر سوف لا ترى في مزاعم (شمس الدين) شيئا كثيرا بالنسبة إلى تلك المزاعم.

ظن أولئك الذين أرادوا إحياء الأمة التركية أن الإحياء يكون عن طريق التبجح بالماضي والتباهي بالأجداد والترفع عن الشعوب الشرقية التي ساهمت في تكوين التاريخ التركي، وطرد الكلمات العربية والفارسية التي تمثل التفاعل العقلي بين الأتراك وبين العرب والفرس، والاستعاضة عن تلك الكلمات بكلمات فرنسية، فلم يزدهم ذلك في نظر الغربيين منزلة، ولم تخرجهم تلك المقالات الطويلة العريضة من عالم التفكير الشرقي، ولم يجعلهم التاريخ الذي ادعوه لهم أمة من الأمم المعظمة التي لها ي مجلس الأمن وفي المجالس الدولية كرسي ثابت وصوت مسموع. لا زالت تركية الحديثة التي ظن زعماؤها أنها ستأخذ مكانها تحت الشمس بابتعادها عن العرب والشرق الأدنى، لا زالت في نظر الغربيين تركية القديمة لا يحسب لها حساب إلا عند النظر في كفة الميزان وفي أهميتها من حيث أنها بقرة حلوب يستفاد منها؛ لأن المنزلة لا تأتي عن طريق التبجحبالأجداد وبأجداد الأجداد وبالابتعاد الناس والانضمام إلى السباع إذا لم تكن لديه قوة السباع. والذي يتكل على الماضي ويترك الحاضر ولا يعمل له، يهمله الزمان ويتركه يعيش في عالم الماضي. فلنعمل بعقلية الحاضر ولنجعل أنفسنا أقوياء حقا، أقوياؤ في تفكيرنا وفي صناعتنا وفي معاملنا ولنقدم على علوم الطبيعة التي استبدلت بالحديد الذرة، حينئذ يقول العالم انهم عقلاء وأنهم ناس وأن لهم شأنا بين الناس، وحينئذ يقول العالم إن تاريخهم كان خير تاريخ وأنهم كانوا خير أمة أخرجت للناس.

(دمشق)

جواد علي