انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 795/دراسات تحليلية:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 795/دراسات تحليلية:

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 09 - 1948



جلال الدين الرومي

للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ

في بيت العلم والدين، وبين مظاهر الورع والتقوى، ولد أعظم الشعراء الصوفيين، جلال الدين الرومي بن بهاء الدين سنة 604 بعد الهجرة النبوية في بلخ من بلاد الفرس. وكان أبوه من أكابر علماء الدين في بلاط خوارزم شاه حاكم المدينة، ودرج الصبي في حجر والديه يشهد حلقات الدرس ويرى مظاهر الإجلال والإكبار تحف بوالده، فنشأ مشغوفاً بالعلوم وخاصة ما كان متصلا بذات الله تعالى.

ورأى الحاكم ما عليه من مظاهر الورع والتقي وانصياع الناس له وإطاعتهم لأمره، فداخله منه حسد وحقد وأضمر له السوء، وبلغ ذلك بهاء الدين، فعزم على الرحيل. وفي جوف الليل وقد آوى الناس إلى مضاجعهم يطلبون الراحة من عناء العمل، ويبتغون الهدوء من نصب النهار، خرج بهاء الدين بأسرته خائفاً يترقب. ورأى أن أول شيء يفعله، أن يحج بيت الله الحرام ويزور القبر الشريف يستمد العون من صاحب البيت وساكن القبر، وبينما الركب في الطريق التقى بالشاعر فريد الدين العطار، فلما رأى جلال الدين توسم فيه خيراً، ولمح في عينيه بريق الذكاء، فدعا له بالبركة وأهدى إليه نسخة من كتابه (أسرار نامه).

وفي البيت العتيق مكثت الأسرة ما شاء لها الله أن تمكث، ثم خرجت تطوف بأرض الله، حتى ألقت عصا التسيار في قونية ببلاد الأناضول وكانت تسمى إذ ذاك بلاد الروم، وهذا سبب تسميته الرومي. وفي المقر الجديد جلس والده يعلم الناس كما كان في بلخ.

وكان لمقام الصبي في مكة ولمن لقى هناك من رجال الدين وهيامهم بحب الله أثر كبير في نفسه، فظهرت عليه علامات الورع ولما يزل صبياً لم يبلغ مبلغ الفتيان.

وفي قونية سمع بالشيخ برهان الدين الترمزي، فذهب إليه وتلقى عليه مبادئ التصوف وبدأت نفسه تتفتح إلى الآفاق العليا، تفتح الزهرة تخللتها أشعة الشمس، فقد صادف علم التصوف وكلام المتصوفين هوى من نفسه فأنكب على دراسته. ولما قبض والده، رحل إلى حلب ودمشق وغيرها من بلدان الشرق، ليتزود من العلم ما تتوق إليه نفسه ويهواه قلبه، وطاف بهذه البلاد يزور علماءها ويسمع من نساكها، ثم عاد إلى قونية مرة أخرى، ليجلس مجلس والده في حلقات العلم.

وسمع شمس تبريز الصوفي المعروف، أن في قونية صوفياً مبتدئاً يتألق بالحب الإلهي، فوصل إليه ليدله على الطريق الصحيح ويمهد له سبيل الوصول. وأتصل بجلال الدين، فأتخذه جلال الدين مرشده الروحي، وما زال شمس تبريز ينفخ في هذه الجمرات المتقدة من الحب ويزكي ضرامها حتى جعلها شعلة نيرة، ولازم كل منهما الآخر وقتاً طويلاً، وشغل جلال الدين بمرشده، فنقم تلاميذه على شمس تبريز لأنه حرمهم أستاذهم فأجبروه على قونية ليخلو لهم جلال الدين، ولكن هيهات فقد أستأثر به شمس تبريز وقت وجوده وسحرته تعاليمه بعد فراقه، فزم داره وخلا إلى نفسه يبحث عن طريق الوصول إلى الذات العلية.

وشرح جلال الدين مذهبه الصوفي وأوضحه فيما ألف من شعر غنائي بالغ في الرقة والعذوبة. ويتميز شعره بسمو الفكرة وجمال الأسلوب وإشراق الديباجة ووضوح الخيال مما أكسبه روعة وجمالا.

وجمع ما نظمه في دواوين سمى أحدهما (ديوان شمس تبريز) لأن معظمه كان مما أوحى به إليه مرشده الروحي فسماه بأسمه؛ والآخر (المنثوى) وهو قصيدة واحدة كبيرة، قيل إن نظمها أستغرق أكثر من أربعين سنة، وأنها جمعت في ستة كتب، وفي هذه القصيدة صور مبتكرة متعددة تجمع بين رشاقة الأسلوب ودقة الصنعة.

وحب الروح، والعمل على الأتحاد بذات الله تعالى، والتخلص من شوائب النفس وأدراتها هو بيت القصيد في تعاليمه. فالحب يخلص أصحابه من الغرور والصلف، ويرى فيه الدواء الماجع والطبيب المداوي لأمراض النفس وعلاتها، والإيمان الخالص مصدره الحب، لأن المحب إذا أتحدث روحه بمحبوبة أغفل نفسه وأهمل شأنها وشغل بمن أحب، ولا يضيره أن يتحمل المكاره ويستعذب الآلام ويصبر الإجن لإرضاء محبوبه، ولا يزال هذا حاله من السعي والجهاد حتى تفنى نفسه في محبوبه ويصبح جزءا منه.

فإذا وصل إلى درجة الفناء فقد وصل إلى الكمال، وبذلك يبعث بعثاً روحياً جديداً فيحيا الحياة الخالدة، ويصبر جزءاً من المحبوب فيبقى إلى الأبد. وفي ذلك يقول (فأختر حب الذي يبقى أبداً والذي يسقيك من الخمر التي تنمي الحياة وتهب الخلود).

بالحب تتبدل الأشياء، فيصير الظلام نوراً والألم لذة، ويتحول الحديد ذهباً، ويتغير طعم المر فيصبح حلواً. وبالحب يحيا الإنسان حياة سماوية وهو لا يزال فوق سطح الأرض فيقول: (العاشق) المخلص هو الذي يقول له الله: (أنا لك وأنت لي).

فالعشق الإلهي هو التسامي عن كل أعراض الحياة، والطيران إلى الآفاق العليا، وتمزيق الحجب التي تحول بين العاشق والمعشوق وتحطيم ما يقف سداً بين الإنسان ومن أحب. والعشاق المخلصون في حبهم كالظلال إذا أشرقت عليهم شمس المعرفة تلاشت ظلالهم وأختفت، لأنها لا تقوى على البقاء في النور القوي الذي هو النور الإلهي وفي ذلك يقول: (يا حياة العشاق في الموت، ولن تجد قلباً إلا بعد أن يحطم قلبك).

والغرض من الحب والتضحية بالحياة الفردية وإفناء النفس، هو نشدان حياة أسمى وأرفع، ومن أ {اد إدراك الحقيقة فعليه أن ينكر ذاته ويعتبر نفسه غير موجود. وهو يقول: (أولاً، تنزع النفس من النفس، ثم تفصل قدم عن قدم، وأن تعتبر هذه الدنيا غير مرئية، ولا ترى منظر نفسك).

أما الحياة الدنيا وزخرفها ومتاعها، والنفس ومشاغلها ولهوها، فهي حجب كثيفة تحجب المحب عن بلوغ مأموله؛ فعليه أن يجتاز هذه الموانع ليصل إلى النشوة الروحية حيث ينسى نفسه ويرتفع إلى جلال الحقيقة الخالدة في بهائها وروعتها. وإذا وصل المحب إلى هدفه المنشود وأتحد بالذات الإلهية فقد حصل على الخلود وأنفلق له صبح السعادة وشع نور رب الأرباب في روحه وملأ جوانب نفسه. وفي ذلك يقول (ذلك الذي حصل على مقام ومكان في ملكوت السموات ونورها، لا يزال يغرق في النور دائماً).

والمحب الذي يصل إلى هذا النوع من التوله بحب الله والهيام بجلاله يكون قد حصل على الحياة المتحدة، والإنسان إذا بلغ هذه المنزلة صار عارفاً بالله، ولم تعد به حاجة إلى الوساطات والشفاعات. لذلك يرى جلال الدين أن الأنبياء المرسلين لا يحتاج إليهم إلا الأشخاص العاديون، وأما من أتحد بالواحد وأصبح يسمع الصوت الباطني فقد استغنى عن الكلمات الخارجية لأنه صار من أولياء الله الذين أسكرهم حبه فثملوا بخمره وغرقوا في جلال عظمته، واتحدوا مع البحر اللانهائي للذات الربانية فيقول جلال الدين في ذلك (لقد طردت الاثنين من نفسي ورأيت العالمين عالماً واحداً، وبحثت عن الواحد وعرفت الواحد ورأيت الواحد ودعوت الواحد. هو الأول، وهو الآخر، هو الظاهر، هو الباطن. ولست أعرف آخر سوى (ياهو) أو (يا من هو).

ويتصور جلال الدين الذات الإلهية داخله في جوهر الكون وحالة في مخلوقاته، وأن المتأمل يرى ذات الله في كل الأشياء لأن الكون ما هو إلا مرآة تظهر فيها آثار صفاته وبديع حكمته تعالى فيقول (رأيت الأبد مرآة عامة لك، وفي عينيك رأيت صورة نفسي).

والله تعالى جلت قدرته محيط بالكون مطلع على أسرار خلقه يعلم السر والنجوى وإن كانت لا تدركه الأبصار، ففي نعمة الكثيرة وعطاياه المتعددة أكبر دليل على عظمته وسلطانه القاهر وحكمته السامية، فيقول جلال الدين في إحدى قصائده:

يا خفياً قد ملأت الخافقين، قد علوت فوق نور المشرقين،

أنت سر كاشف أسرارنا، أنت فجر مفجر أنهارنا،

يا خفي الذات محسوس العطا، أنت كالماء ونحن كالرحى،

أنت كالريح ونحن كالغبار ... تختفي الريح وغبراها جهار

ويعتقد أن الروح كانت في البدء إلهية متحدة مع الحقيقة العظمى، ولكن القدرة الربانية انفصلت عن الإنسان لتظهر، ويتجلى الموجود في المعدوم والباقي في الفاني، فبضدها تتميز الأشياء فالمداد لا يظهر إلا في الصحيفة البيضاء، والنور لا يتجلى ألا في الظلام، فيقول جلال الدين: (كنا جوهراً واحداً مثل الشمس، كنا بلا عيب وكنا في صفاء الماء).

والروح مرآة صافية تعكس نفس صاحبها، واحتكاكها بما هو مادي وانغماسها في حب الحياة ولهوها قد عكر صفاءها وشاب رونقها. والنفس أمارة بالسوء ميالة للهوى والمعاصي، فعلى من أراد أن يحظى بالمنزلة عند الله وينال رضاه، أن يتقرب إليه. ولن يبلغ هواه من التقرب إلا إذا كان نظيف الثوب طاهر الذيل خالياً من الأقذار، فليغسل ثوبه من المعاصي ويجل روحه من صدأ الهوى، وليتجمل بالصبر وتأديب النفس ومواصلة جهادها حتى تصفو المرآة فتعكس الصورة واضحة جلية، فإن لم يفعل ذلك فهو الشقي البعيد. (إذا أنت أنفت من كل مسحة فأنى لك أن تصير مرآة مصقولة؟).

وكان جلال الدين كثيراً ما يذكر في هذا المجال ما وقع بين الصينيين واليونانيين ليبين كيف أن الروح إذا صفت أظهرت الشيء في أجمل صورة وأحسن اشكاله.

فيحكي (أن جماعة من الصينيين واليونانيين تخاصما أيهما أجود فناً؛ ولجاً في الخصومة، ثم تحاكما إلى السلطان فحكم بينهما، بأن أعطى كل فريق حجرة ليظهر فيها براعة فنه، وجعل باب كل منهما مواجهاً للآخر وقدم لهما ما يحتاجان إليه من ألوان وأدوات فأخذ الصينيون منها عدداً عظيماً، وأما اليونانيون فعمدوا إلى حجرتهم فصقلوا جدرانها وأزالوا ما بها من صدأ. وأخبراً ذهب السلطان إلى حجرة الصينيين فبهره بديع فنهم، ثم ذهب إلى اليونانيين فإذا بصورة مما نقشه الصينيون قد انعكست على الجدار فأزداد منظرها رونقاً وجمالا فشهد لهم بعظيم فنهم).

فاليونان بعملهم هذا يمثلون العارفين الذين طهروا قلوبهم وصقلوا نفوسهم فوصلوا إلى عين اليقين، فليس الأمر أمر زخارف وألوان وصور وأشكال، بل أمر صفاء وتطهير.

والذين يطهرون قلوبهم ويهذبون نفوسهم ويتخلصون من الأكدار ينجون من مجرد العطر واللون، فيرون الجمال في كل شيء وكل لحظة. وفي ذلك يقول: (إن روح الإنسان كالهواء المختلط بالتراب يحجب نور السماء فلا تستطيع العين أن ترى الشمس، وحين يصفوا الجو وينقشع التراب يصبح صافياً طاهراً.

ومن أغواه الشيطان وأضله الهوى، ثم أراد العودة إلى ملكوت الله وتاب عن ذنوبه، فالطريق أمامه واضح جلي جلاء الصبح، فعليه بتأديب نفسه وزجرها عن الماضي وإمارتها في نشدان المثوبة والغفران فالله يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات، وفي ذلك يقول جلال الدين:

(ما معنى تعظيم الله؟ اعتبار المرء نفسه حقارة خاوية).

(ما معنى توحيد الله؟ حرق المرء نفسه بين أيدي الواحد ذي الجلال).

فإحياء الروح وخلودها لا يتأنى إلا بإماتة النفس وإفنائها في ذات الله فيقول (إذا لم يسقط الزهر لا يبدو الثمر، وإذا لم يفن الجسم لا تسمو الروح، وإذا لم يكسر الخبر لا يمدنا بالقوة والحياة، وإذا لم تعصر الأعناب لا تعطينا خمراً).

وطريق التوبة طويل الدروب وعر المسالك كثير الأشواك، فإذا لم يكن الساعي إلى الوصل ذا صبر وجلد، سقط في الطريق صريعاً قبل أن يبلغ الهدف ويحظى بنعمة الوصل. فيقول جلال الدين في الحث على مواصلة الجهاد، والاستمرار في السعي إلى كعبة الوصل: (في كل صباح يأتيك صوت من السماء ينادي، إذا أنت نفضت غبار الطريق، فستنطلق إلى هدفك المقصود) ويقول: و (في الطريق إلى كعبة الوصل أنظر تجد في كل ايكة من الشوك ألوفاً من قتلى الشوق ضحوا بحياتهم ببسالة) ويقول: (ألوف سقطوا صرعى على هذا الطريق دون أن يصل إليهم نسيم من عطر الوصل كدليل من جوار الصديق).

هؤلاء هم الذين أضجرهم طول الطريق، ولم يصبروا على مكارهها فذهبت حياتهم قبل أن يبلغوا الهدف الأسمى من كعبة الوصل ونعمة القربى من ملكوت ذي الجلال.

فجلال الدين الرومي صوفي حلولي، وفوق ذلك هو من أعظم الفنانين بإشراق ديباجته، ووضوح خياله، وإبراز معانيه. وهو أول من أنشأ الذكر الصوفي الذي يؤدي على نغمات الناي، والذي نظم له من الشعر الشيء الكثير، وتسمى طريقته (المولوية) وأساسها الحب الإلهي ومبدأها التفاني في حب الله.

وتوفى جلال الدين سنة 673 بعد الهجرة بقونية ودفن بها. ولم يقتصر مشيعو رفاته وأرثوه على المسلمين بل كان من بينهم المسيحيون وغيرهم.

(أسيوط)

عبد الموجود عبد الحافظ