انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 790/عالم الغيب:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 790/عالم الغيب:



الجن في منطق الأساطير

للشيخ محمد رجب البيومي

أما العامل المادي فقد كان ذا أثر ملموس في شيوع الخرافات حيث كانت البادية مورداً تجاجاً لما انتشر على الألسنة من الأساطير وطالما وفد إليها المتندرون والمتظرفون، يستعلمون ويستنبؤن. وإن أحدهم ليصحب البدوي إلى حاضرته ليقص على أصحابه وذويه ما يتقنه من الترهات إزاء أجر ثمين، وطبيعي أن يلجأ الأعرابي إلى الافتعال، لتنفق بضاعته، فتملأ حقيبته، وهنا يطلق لخياله العنان فيزعم أنه رأى الشيطان مرة فاستضافه وأنشده الشعر، ومرة أخرى فحاربه وصرعه، وكلما كان البدوي شديد المبالغة في حديثه كان أخف موقعاً في القلوب، وأسلس مقادة للعقول، فإذا أخذ نصيبه المادي ورجع إلى خيمته عكف على اعتمال الأباطيل ليكون على أتم استعداد إذا طلب مرة أخرى للسمر والاستمتاع!!.

ويجدر بنا أن نشير إلى ما شاع لدى العرب من تأثير الجن في الأجسام، فإذا مرض منهم مريض لجئوا إلى العرافين ومن بقي من ذوي الكهانات، وهؤلاء لا يرعون في الناس حرمة أو ذمة بل يجسدون الأوهام، ويبلبلون الخواطر، فيزعمون أن بالمريض مساً يجب أن يتدارك، ويطلبون الأجور المرتفعة جزاء ما يقرءون من التعاويذ الكاذبة، وما يصنعون من الرقي الباطلة. وقد يعشق البدوي فتاة تنتزع فؤاده من أضالعه، وتخطف عقله من رأسه، فيأتي به ذووه إلى العراف فيلجأ أيضاً إلى التمائم والتعاويذ، وكأنه يرى مريض القلب لا يختلف عن مريض الجسم، فيجعل الدواء واحداً لكِلا الرجلين، وقل في الجهالة ما تشاء!!.

وقد يبالغ بعض العرافين فيزعم أن الجن تعشق الإنس عشقاً مبرحاً وأن الجنية تلاقي الصد والتيه ما يلقاه الإنسي، فإذا تمكنت الصبوة من فؤادها، سلب رشادها، وتبددت قوتها، فيمر بها قومها من الجن فيسألون عنها، فيقال مسها إنسي كما يقال لم صرع من الإنس مسه جني، والطيب في كلتا الحالتين هو العراف الأثيم!!.

ولا يترك الفقهاء هذا الباب حتى يؤيدوه بما يعن لهم من الأدلة، ونحن نعلم الخلاف العريض بين أهل السنة والمعتزلة في الصرع والمس حيث قد ذهب الفريق الأول إلى حدوث ذلك، وقد استشهدوا بحديث رواه البخاري، كما أجاز بعض الحنفية زواج الجنية من الإنسي!! قال الجاحظ (وزعموا أن التناكح والتلاقح قد يقع بين الجن والإنس لقوله تعالى وشاركهم في الأموال والأولاد؛ وهذا ظاهر لأن الجنيات إنما تتعرض لصرع رجال الإنس على جهة العشق في طلب الفساد، وكذلك رجال الجن لنساء الإنس ولولا ذلك لعرض الرجال للرجال والنساء للنساء. قال تعالى لم يطمثهن إنس قبله ولا جان، ولو كان الجان لا يفتض الآدميات ولم يكن ذلك في تركيبه، لما قال الله تعالى ذلك القول).

وهذا قول لا يدري حقه من باطلهن وإلا فكيف نقول لمدنف عاشق يهوى فتاة معنية باسمها وصفتها إن به مسا من الجن!! ولماذا يزول المس إذا اقترن بمحبوبته الإنسية؟ وأين الجنية المزعومة إذن؟ كل هذا تدجيل صارخ فطن إليه من قال.

وقالوا به من أعين الجن نظرة ... ولو علموا قالوا به أعين الإنس

وكم في الحياة من أكاذيب!!

بقى أن نتحدث عن العوامل الأخلاقية، وهي ذات الحظ الأوفر في اختلاق الأساطير، لأنها ترجع إلى عامل واحد، هو الافتخار بالمواهب؛ وقد شاع لدى العرب أن الجن متقدمون عن الإنس في كل شئ، فهم مصدر الإلهام في الشعر، ومنبع الوحي في البيان، وهم أولو البأس في القتال والصيال، وهم سلاطين الصحراء وأمراؤها، يستأذنون فيأذنون، ويأمرون فيطاعون. كل أولئك قد جعل أصحاب الزهو والخيلاء يزعمون أنهم يفوقون الجن في مواهبهم، ويزاحمونهم بمنكب ضخم في مناقبهم، وما من دليل سوى الأساطير المزعومة يخلقا أولو الفخر الكاذب فيتناقلها الناس على ممر العصور!!.

فالشاعر مثلاً يرى أن منزلته لا تعظم في قبيلة إلا إذا زعم أن الجن تلهمه ومن ثم يتجه إلى وادي عبقر كل يوم حيث يصعد إليه الوحي من الأرض، بدل أن يهبط عليه من السماء!! ونحن ننظر فنجد ذا الرمة وأبا النجم، ورؤية والأعشى وغيرهم يدعون أقرانهم من الشياطين، هم ناظمو القصائد ومبدعو المعاني والأساليب، وربما سمى الشاعر قرينه باسم معين، وذهب يفتخر به في كل ناد، كما قال الأعشى في قرينه (مسحل).

وما كنت شحذوذا ولكن حسبتني ... إذا مسحل يسدي لي القول أعلق شريكان فيما بيننا من هوادة ... صفيان، إنسي وجن موفق

وصحائف الأدب مليئة بما يماثل ذلك، وربما كان أصل هذه الفكرة لدى العرب أن شاعراً حسد زميله في إبداع، فأدعى أن الشيطان هو الذي يجري البيان على لسانه، وفي جمهرة أشعار العرب أساطير تؤيد ما نقول، ومن ذلك ما زعمه ابن المرزوي عن أبيه أنه مر على جماعة ظباء في سفح جبل، فرأى شبحاً ذا منظر غريب فارتاع من، فقال له اذكر الله ولا تخف ثم سأله: أتروي من أشعار العرب شيئاً؟ فقال المرزوي: نعم وأخذ يروي له شعر عبيد بن الأبرص!؟ فسأله الشيخ من قائل هذا الشعر؟؟ فقال: عبيد، فتهافت وقال: ومن عبيد، لولا صاحبه هبيد؟! ثم شاعت بهذه الخرافات فكرة الأخذ عن الجن فكان كل شاعر يأتي بعد ذلك يزعم أن له قرينا، بل ميز شيطانه بخصائص لا توجد في غيره، كما زعم أبو ألنجم وشركاؤه. وأتى من الراوة من بسط الحبل على امتداده، فقيض لكل شاعر أنجبته الجاهلية شيطاناً فهو له قرين، وإن لم يعترف به الشاعر نفسه، فلا قط قرين امرئ القيس، وهاذر صاحب النابغة، وجهنام شيطان عمرو بن قطن وغير هؤلاء لا يحصون!!.

هذا في الشعر والأدب؛ أما الافتخار بالشجاعة فقد أورث العربية تركة مثقلة بالخرافات، فكل صعلوك يزهى ببسالته، ويختال ببطشه، يختلق من الأساطير ما يؤيد دعواه، فيزعز أنه حارب الجن، ولقى السعلاة فضربها بسيفه، وامتطى الغول في البيداء، وقد زعم صاحب الأغاني أن ثابت بن جابر لقي الغول في ليلة دامسة، فأخذت عليه الطريق، فلم يزل بها حتى قتلها وبات عليها، فلما أصبح حملها تحت إبطه وجاء بها إلى أصحابه فقالوا له لقد تأبطت شراً، فلقب بهذا القول وعرف به لدى الجميع.

ومهما يكن من شئ فإن تأبط شراً قد أكثر من الحديث عن الجن إكثاراً لم يتح لغيره. وكأنه رأى في انتصاره الموهوم على الغول ما يبرر له كل اختلاق، فذكر في شعره محاورة قامت بينه وبين غول ضربها ضربة واحدة بسيفه، فقالت له: ثن الضربة، فأبى كيلاً تعود لها الحياة إذا ضربت مرة ثانية حسب اعتقاده، كما زعم أنه قابل وفداً من الجن فأشعل النار ونحر الذبائح ودعاهم إلى الطعام، فذكروا أنهم يحسدون عليه الإنس فهم لا يأكلون كما نأكل، اسمعه يقول من أبيات.

أتوا ناري فقلت منون أنتم ... فقالوا الجن قلت عموا ظلاما فقلت إلى الطعام فقال منهم ... زعيم تحسد الإنس الطعاما

لقد فضلتمو بالأكل عنا ... ولكن ذاك يعقبكم سقاماً

وقد ابتلى تأبط شراً بمن كذب دعواه، فزعم أنه نزل بشعب وادي الجن فرأى وجوها صباحاً وسُما، فنحر لهم مطيته ليأكلوا من طيباتها المشتهاة ذلك هو جذع بن سنان الفساني إذ يقول.

نزلت بشعب وادي الجن لما ... رأيت الليل قد نشر الجناحا

أتوني سافرين فقلت أهلا ... رأيت وجوهكم وسُما صباحاً

نحرت لهم وقلت ألا هلموا ... كلوا مما طهيت لكم سماحاً

وقد لا يكتفي الصعلوك بأن يفخر بنفسه بل يتعدى ذلك إلى قبيلته، فيزعم أنها حاربت الجن، فانتصرت انتصاراً رفعها إلى ذروة عالية من المجد. قال أحد الأفاكين من بني سهم: ذهب جني يطوف بالبيت فعرض له شاب من بني سهم فقتله، فثارت بمكة غبرة لم تبصر لها الجبال - وإنما تثور تلك الغبرة عند موت عظيم من الجن - فأصبح من بني سهم على فرشهم موتى كثير من قبل الجن، فكان فيهم سبعون سيخاموي الشباب، فنهضت بنو سهم وحلفائها إلى الجبال والشعاب بالثنية، فما تركوا حية ولا عقربا ولا خنفساء، ولا شيئاً من الهوام يدب على الأرض إلا قتله وأقاموا على ذلك ثلاثا، فسمع في الليلة الثالثة هاتف يهتف بصوت جهوري، يا معشر قريش اعذرونا من بني سهم فقد قتلوا منا أضعاف من قتلنا منهم فأصلحوا ما بيننا، ففعلت ذلك قريش، وسميت بنو سهم (قتلة الجن).

وكثير من مسطري هذه الأخبار - في القديم - من يملأ بها الصحائف دون أن يلفت الأنظار إلى مبلغها من الافتراء وكأنه يرى من الأمانة العلمية أن يذكرها كما تلقفها من الأفواه، أو نقلها عن الأسفار بدون تعليق يضع الحق في نصابه، بل لعله يتصب لها تعصباً يترك القارئ في شك من أمره، ولكن الحق لا يعدم أنصاره في كل زمان ومكان، فكما وجد جماعة من الفقهاء ينشيعون لهذه الأساطير، فقد وجد منهم آخرون يفتدونها أتم تفنيد، قال ابن حزم عن الجن: (ومن ادعى أنه يراهم أو رآهم بالفعل فهو كاذب إلا أن يكون من الأنبياء) وقال أبو إسحاق المتكلم فيما رواه عنه الجاحظ (وأصل هذه الفكرة أن القوم تأثروا بوحشة بلادهم، ومن أقام بالصحراء منفرداً استوحش وابتلى بالوسوسة، وتمثل له الشيء الصغير كبيراً، فإذا اشتملت عليه الغيطان، وسمع صياح بومة أو مجاوبة صدى، تصور في نفسه كل باطل. وربما كان أحدهم كذاباً فيأتي بشعر يزعم فيه أنى رأي الغيلان وكلمها ثم يتجاوز ذلك، فيقول قتلتها، ثم يتجاوز ذلك فيقول رافقتها وتزوجتها) ويستفيض حديثه بين الناس فتسيل به الأندية والمجتمعات)!.

هل عرفتم مصرع حرب بن أميه؟؟ فقد خرج في نفر من قومه فاعترضتهم حية خبيثة فقتلها وكانت من الجن - فجاءت حية أخرى فطالبت بالثأر، وقام بين الفريقين معركة طاحنة قتل فيها حرب، ودفن حيث وافته منيته فقالت فيه الجن.

وقبر حرب بمكان ففر ... وليس قرب قبر حرب قبر!

وهل علمتم أن سيد الخزرج سعد بن عبادة رضي الله عنه أصيب بسهمين قاتلين من الجن ففاضت روحه الكريمة إلى بارئها العظيم؟ ثم رثوه بعد ذلك بشعر نائح! وهل سمعتم أن الغريض غنى بالبادية صوتاً مؤثراً فحسده الجن وقتلوه!؟ وهل تدرون أن أمية بن أبي الصلت تعرض ليهودية من الجن، فبرص أعلاه واسود أسفله. هذا رذاذ من وابل هطال تتدفق به الأساطير!.

إن في هذه الخرافات لمتعة عجيبة، وأخشى أن أدعو إلى تذوقها تذوقا فنياً يكشف عن طرافتها الغريبة، فأجد - في القرن العشرين - من يميل إلى تصديقها من الناس! ولم لا يكون ذلك والغباوة تسير مع الزمن في خطوة السريع!.

رحم الله أيام الطفولة، فقد ملأت مخيلتي بآلاف مولعة من هذه النوادر، وكنت أسمعها في لذة ومتعة، فأترنح من السرور كمن مالت بقامته نشوة السلاف! فأين مضى هذا العهد الحالم، وكيف عصفت به ريح الزمان!!

أقرأ على الوشل السلام وقل له ... كل المشارب مذ هُجرت ذميم

(الكفر الجديد)

محمد رجب البيومي