مجلة الرسالة/العدد 786/ما أحبها من نقلة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 786/ما أحبها من نقلة

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 07 - 1948



للأستاذ محمود الخفيف

أحبب إلى نفسي بهذه النقلة إلى تأريخ أمريكا في سيرة زعيمها العظيم (أبراهام لنكولن)، فإنه لمن أعظم ما يسر القراء لا ريب حديث صاحب العبقريات عن أشبه العبقريين في الغرب بابن لخطاب وما أولى لنكولن بنصيب مما يكتب العقاد؛ ولو تفضل كاتبنا الكبير فعقد فصلاً أو أكثر من فصل، فوازن بين لنكولن وعمر، وهو خير من يفعل ذلك، لعددت هذا من أفضل ما بلغت بكتابي من خير. . .

وبعد، فأرجو من أستاذنا الجليل أن يصدقني أن عنايتي بتاريخ لنكولن هي التي حفزتني إلى كتابة هذا الفصل والذي سبقه، إذ لا زلت من بعض الملاحظات التي أبداها الكاتب الكبير غير مطمئن النفس، وما كان ذلك دفاعاً عن كتابي بقدر ما هو رغبة مني في الاهتداء إلى الصواب.

لا زال تأريخ أسلاف لنكولن سراً في أطواء الزمن، وأكبر الظن أنه سوف يبقى كذلك، وماذا عسى تحويه الكتب عن أبيه النجار، وعن جده لأبيه، وقد كان كذلك نجاراً بين أحراج الغابة قتلته رصاصة أطلقها عليه أحد جنود الحمر؟ وماذا عسى أن يعرف عن أمه وهي ابنة سفيحة لرجل مجهول من أهل الجنوب؟ ولولا أن تحدث بذلك لنكولن إلى صاحبه هرندن ما عرف حتى هذا القدر من سيرتها. . .

بذلك رددت على ما أخذه على الأستاذ الكبير من خلو كتابي من تعريف كاف بأسلاف لنكولن من جانب أبيه وأمه؛ وكان ما ذكر الأستاذ تعقيباً على ذلك الرد قوله: (وقد اعتقد الأستاذ الرجل كان كما هو معلوم عصامياً خامل الآباء والأجداد؛ ولكن الواقع أن اللغز يعرض لنا عن أمر آبائه المعروفين ونستطيع حله من تاريخهم).

إذا فلا سبيل لنا إلى أسلافه، بعد ذلك آباؤه المعروفون وما نعرف إلا أباه وأمه. ولقد ماتت أمه وهو في العاشرة من عمره فحرم من تأثيرها في نفسه، ذلك التأثير الذي أشرت إليه في كتابي بقولي: (كان الغلام ينتقل ببصره وخياله من أمه إلى أبيه، وكانت أمه في أقاصيصها جادة، تحس نفسه الصغيرة شيئاً من الحزن يطوف بنفسها ويتسرب إلى حكايتها؛ أما الأب فكان يميل إلى المرح والفكاهة، ويتدفق إذ يحكي تدفق من لا تنطوي نفسه على شيء تنطوي عليه نفس الأمن وما كان شيء من ذلك ليخفى على فطنة الغلام، وأحدثت القصة الدينية أثرها في نفس الصبي وظلت عالقة بلبه وخياله، وجرت في كيانه مجرى الدم في عروقه، واختزنت حافظته ألفاظها بنصها حتى ليتحرك بها لسانه وإن لم يقصد).

ولم يكن لأبيه أثر في نفسه ولا من صفات نستطيع أن نردها إلى آبائه فنعرف، ولو بما يقرب من اليقين شيئاً عن أسلافه فنحل اللغز بعض الحل؛ أما ذلك الذي كانت تنطوي عليه نفس الأم، فمرده في الأكثر إلى أنها كانت تجهل أباها؛ على أني لم أسه عما يكون للوراثة من أثر في حياة لنكولن، فأوردت في صفحة 151 من كتابي ما قصة على صديقه هرندن إذ قلت: (وإنه ليفضي إلى صاحبه هرندن ذات يوم بحديث عن أقاربه وصلته بهم، ويتطرق الكلام أثناء هذا الحديث إلى منشأه فيكشف لنكولن لصاحبه عن سر يتصل بأمه، وذلك أنه لا يعرف أجداده لأمه، فقد كانت أمه التي أحبها والتي يجل ذكراها ابنة رجل مجهول، وسيظل هذا الرجل مجهولاً أبداً، وكل ما يستطيع أن يعرفه عنه أنه من أهل الجنوب، وبيان ذلك أن جدته لأمه كانت تعيش وهي فتاة في ولاية فرجينيا في الجنوب فأصبحت ذات حمل وأن لم تتزوج، ووجدت نفسها بعد أشهر الحمل تضع أنثى، وكانت هي وحدها التي تعرف والد هذه الأنثى، ولقيت من أهلها أشد الغضب لزلتها، ولكنهم احتضنوا بنتها فنشأت بينهم تنتسب إليهم وليست منهم. ذلك هو السر الذي يفضي به لنكولن إلى صاحبه على ما فيه مما يوجب الكتمان، ويردف أبراهام قائلاً لصاحبه إنه كان ثمة من ميزة فيه لا يوجد مثلها في أحد من ذوي قرباه، فمردها لا ريب إلى أجداده المجهولين من أهل الجنوب).

أما عن المصادفة في حياة لنكولن، فإني أخشى أن يكون الذي يخرج به القارئ مما كتبها الأستاذ الكبير في هذا الصدد أن لنكولن مدين للمصادفة بكل شئ، فقد قال الأستاذ في مقاله الأول: (وقد كان من الجائز جداً ألا يصل إلى رئاسة الجمهورية لأنه لم ينجح قط في انتخاب أو ترشيح إلا كان للمصادفة في اللحظة الأخيرة أكبر الأثر في هذا النجاح)؛ وقال في مقاله الثاني: (ولم يكن نصيب المصادفات التي كان لها الأثر في الترجيح بين الأحزاب نفسها وبين جيوش الشمال وجيوش الجنوب أوفي نصيباً من هذه المصادفات التي صعدت بلنكولن إلى رئاسة الجمهورية).

وأرجو ألا أثقل على أستاذنا العلامة حين أقول له إني لا زلت أخاصمه في هذا، وإني لا زلت كل ما أصاب لنكولن من فوز إلى شخصيته، فما أعرف في العصاميين رجلاً مثله اتكأ على نفسه في جميع أطوار حياته، وما أعرف مثله من كانت الظروف كلها عدوة. وكيف لعمري تصعد المصادفات بنجار ابن نجار إلى رياسة الجمهورية، وكان في هذه الجمهورية آلاف النجارين غيره؟ ذلك ما لا أستطيع أن أحمل خيالي على تصوره، أن هذا الرجل الذي بات يحزم متاعه بيده آخر ليلة قبل سفره إلى العاصمة ليجلس فوق كرسي واشنطون قد بنى نفسه بنفسه. وأنا لنرى اعتماده على نفسه واضحاً في كل أطوار سيرته حتى في هذا العمل الذي يبدو هيناً في ذاته وهو عظيم في معناه، فقد سهر الرئيس ابراهام لنكولن يملأ حقائبه بيده ويحزم متاعه دون معونة من أحد!

إني أفهم أن تأتي المصادفة لخامل أو لدعي بشيء من اليسار أو الفوز مرة أو أكثر من مرة، كما أفهم أن تحول المصادفة بين ذي جدارة وبين ما يريد مرة أو أكثر من مرة؛ ولكني لا أستطيع أن أرد ما يبلغه العظيم الحق من مكانه أو ما يصيبه من فوز إلى المصادفة، وإلا فما معنى عظمته، وما معنى العظمة الفردية على الإطلاق؟ أن هذا يقتضينا أن ننكر عنصر الاستعداد الفردي، أو ما نسميه العظمة الشخصية، ونجعل تأريخ البشرية سلسة أو سلاسل من المصادفات لا ندري كيف تجري مجراها. ألا أن الرجل العظيم نفسه لهو المصادفة، فما هو إلا أن يتطلب عصره وجوده ويتهيأ لاستقباله حتى يستعلن السر وتشمل العصر كله، وتسيطر عليه روح الرجل العظيم، وهذا وحده الذي يفسر بوزه وسيطرته على غيره من الناس.

وما كان لنكولن بدعاً من العظماء، فمنذ اشتغاله بالسياسة اقترن اسمه بالمشكلة الكبرى التي شغلت بلاده، ألا وهي مشكلة الرق، ثم ما زالت آراؤه في هذه المشكلة تتضح وتتسع دائرتها حتى أشتهر أمرها. وأن له المقدرة في الخطابة تسلكه في أفذاذ هذا الفن من الموهوبين؛ واغتدى لنكولن أحد رجال الحزب الجمهوري المعدودين، وكانت الغلبة لهذا الحزب لأسباب كثيرة أهمها حسن سياسته في مشكلة الرق، ولقد اشتغل بالسياسة واهتم بمشكلة الرق غير لنكولن من كبار الجمهوريين، ومع ذلك أخذ صيته، وهو المحامي الفقير الذي لا جاه له يعظم يوماً بعد يوم حتى أغرقهم جميعاً؛ وما لمصادفة من أثر قط في هذا، وبهذا وحده اتجهت القلوب إلى لنكولن وبخاصة بعد ما كان من جدال طويل على أعين الناس بينه وبين دوجلاس أحد قادة الديمقراطيين، وأن اتجاه القلوي إليه لهو (الترشيح) الذي تحسه الأنفس قبل وقوعه رسمياً. . .

فإذا كان هذا جميعاً من المصادفات، فيجب إذا أن نتفق على معنى المصادفة، وإلا عددنا حوادث التاريخ جميعاً مصادفات، وجعلنا أعمال بونابرت مثلا وسعد زغلول أو غيرهما من المصادفات، وما هي إلا تلك القوة التي يمتاز بها الرجل العظيم، أو تلك (الروح) التي لا تدرك ولا تنكر.

وهل نعد قضية الرق في ذاتها مصادفة، واشتغال لنكولن بها مصادفة؟ وما قيمة هذه المصادفة إن عددناها مصادفة؟ والمهم هنا هو كيف علا صوت لنكولن فيها على جميع الأصوات؟ وكيف نفذ إلى القلوب دون غيره؟ وهل نعد مواهبه وفي مقدمتها الخطابة كذلك من المصادفات؟ وإذا فماذا يبقى من (الرجل)؟

ولقد فشل لنكولن في السياسة اكثر من مرة، فأين كانت المصادفة؟ هل نعد فشله كذلك مصادفة كما نعد نجاحه لو أنه نجح؟ ولقد فاز دوجلاس بمقعد الشيوخ دونه بعد صرعهما الطويل، وعاد هو إلى عمله في المحاماة!؟

ودعي لنكولن بعد هذا الفشل إلى نيويورك فخطب الناس هناك فسحرهم بيانه بعد أن سخروا من منظره ومن هندامه ومن شعره الأشعث الذي يعلو رأسه الكبير كأنه ألفاف الغابة. وقد قال الصحفي النابه جريلي وهو من خصومه: (ما من رجل ستطاع أن يبلغ بخطابه لأول مرة ما بلغه لنكولن من عظيم الأثر في جمهور السامعين في نيويورك).

ونشرت كبريات الصحف خطابه وبدأ اسمه يظهر بين أسماء المرشحين لرياسة الجمهورية. ولما عقد الجمهوريون مؤتمرهم العام في شيكاغو في شهر مايو لاختيار أحد رجالهم ليرشحوه للرئاسة، كان سيوارد واثقاً من نفسه قليل الاكتراث بلنكولن، وقدم زعماء المؤتمرين خمسة أسماء غيرهما وجرى الاقتراع على دفعات، وأعلنت نتيجة الدفعة الأولى من الولايات، فإذا سيوارد يزيد على لنكولن بسبعين صوتاً وصوت، ثو أعلنت نتيجة الدفعة الثانية فإذا لنكولن لم يبق بينه وبين منافسه القوي إلا ثلاثة أصوات، ثم تعلن نتيجة الدفعة الأخيرة، فإذا إبراهام يظفر على صاحبه ببضعة أصوات فحسب. وإذا فالأمر هنا أمر اختيار وتمحيص وليس للمصادفة دخل فيه. وما يقال عن عدم إعداد الوراق اللازمة للاقتراع ونشاط جريلي وتحويله معظم المندوبين عن رأيهم فهو من قبيل ما يروي عن المعارك الانتخابية مما يشبه القصص بقصد التسلية والتشويق أو بدافع المبالغة، إذ لا شك أنه مما ينبغي أن يأخذ في كثير من التحفظ أن تتحول آراء المندوبين في فترة قصيرة في أمر عظيم كاختيار رجل للرياسة في غير سبب من شأنه أن يفضي إلى هذا التحول الخطير. ولقد كان جريلي من أشد خصوم لنكولن طيلة حياته، وظل على لدده حتى بعد أن ظفر لنكولن بالرئاسة. ولم تكن خصومته لسيوارد إلا مفضية إلى نجاح منافسه، وهذا مما يجعلنا نرتاب فيما نسب إليه يوم ذلك المؤتمر العام. هذا إلى أنه لو فرض وقوعه كما ذكرنا فأنه أقل من أن يحول آراء المندوبين بالقدر الذي يؤدي إلى نجاح لنكولن.

لقد مكن لنكولن لنفسه قبل ترشيحه، وسبق هذا الترشيح نشاط وتنافس في القول والكتابة بين أنصار سيوارد وأنصار لنكولن، وجاء انتصار لنكولن بعد ذلك متفقاً مع مكانته التي ظل عاملاً عليها، لا طمعاً في الرئاسة، ولكن استجابة لما كانت تهجس به نفسه.

ومع ذلك كله، فقد كان من الجائز أن لا يظفر لنكولن بالنصر في معركة الرياسة وإن رشحه الجمهوريون، ولكنه ظفر ونال مائة وثمانين صوتاً من أصوات مندوبيه الولايات الذين ينتخبون الرئيس وفق الدستور، وكان عددهم ثلاثمائة رجل وثلاثة، وهذا العدد قلما ناله رئيس من قبله.

لقد شق لنكولن طريقه إلى الرياسة في مشقة، وتحمل من عنت الأيام ومن قسوة الظروف ما يزيد في معنى عصاميته، وما المصادفات هي التي صعدت به إلى رياسة الجمهورية، ولقد ظل يشتغل بالسياسة أكثر من عشرين عاماً حتى نبه اسمه وذهب صيته في طول أمريكا وعرضها، وهو الذي خرج من بين أحراج غابة من غاباتها فقيراً معدماً على نفسه بنفسه، ولم يتكئ منذ كان طفلاً إلا على نفسه. . .

وبعد، فإني أعود فأشكر للأستاذ الجليل ما أبداه من ملاحظات على كتابي كانت سبباً في هذه النقلة المستحبة في تأريخ البلاد الأمريكية، ولعلنا نظفر منه بأمثالها، وإني لسعيد إذا صدقني كاتبنا الكبير أني لم أرد بالرد على ملاحظاته القيمة دفاعاً عن كتابي، وإنما الصواب طلبت؛ وما أبرئ نفسي من الخطأ، ولست أرى أن كتاباً يوضع في تأريخ لنكولن وتأريخ الولايات المتحدة في عصره ويصدق القائل فيه إذا قال إنه يخلو من ملاحظات جلت أو هانت تلك الملاحظات.