مجلة الرسالة/العدد 786/صوم غاندي السياسي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 786/صوم غاندي السياسي

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 07 - 1948



للأستاذ عبد العزيز محمد الزكي

الصوم تعليم ديني فرضته جميع الشرائع السماوية، وسنته مختلف الأديان الأخرى. وجعلت من أدائه طاعة لله وتقرباً منه، ومن مخالفته خروجاً على أوامره. ويعتبر الدين الهندوكي من بين تلك الأديان التي تشرع الصوم في أوقات محدودة، وتلزم الهندوكيين بقضائها تزلفاً لله. وكن الشعب الهندوكي العريق في الروحية لم يكتف بصيام الأيام التي يفرضها الدين، ويقدم طواعية قربان صومه لله كلما نزلت به محنة، أو أشقته مصيبة، أو كلما ارتكب آثاماً يود التفكير عنها. وكانت أم غاندي من أولاء الهندوكيات الورعات المتقشفات التي لا تهمل صيامها الديني، فضلاً عن أنها كانت تنذر في مناسبات مختلفة أن لا تأكل إلا إذا رأت الشمس. ويحدث أن تمضي الأيام تباعاً دون أن تأكل شيئاً لأنها لم تستطع رؤية الشمس خلف سحب الهند الكثيفة. فتعود غاندي منذ صغره أن يرى أمه تصوم صوماً طويلاً شاقاً، ترك في مخيلته أثراً مطبوعاً ظهر مفعوله في حياته العامة.

فابتدأت نزعة غاندي الروحية تتربى في أحضان تلك الأم التقية الصالحة التي تتمسك بفروض دينها. ثم أخذت تنمو حينما تلقن أول مبادئ الديانة الهندوكية، ولمس من مواطنيه تعلقهم بها، ووجدهم شعباً يؤمن بدين يحرم أكل اللحوم، وينبذ لذيذ الطعام، ويعيش على النبات، ويشتهر بالزهد والتقشف. فشب غاندي نباتياً لا تثيره شهوة الأكلن ولا يغريه فاخر المأكولات، ويحترم تقاليد دينه. فغرست حياته الأولى مع أمه، ثم نشأته في ربوع شعب ديني، المبادئ الروحية في نفسه. وأصبح فكره ينزع دائماً إلى الناحية الدينية والروحية، ويغلب الحقائق الدينية على أي حقيقة تخالفها. وظهر كل ذلك واضحاً حينما خاض معترك الحياة الاجتماعية، فكان يحاول أن يحل كل ما يقابله من مشاكل بالطرق الدينية. وكان الصوم أول هذه الطرق.

كان غاندي في أول الأمر يصوم صيامه الديني، أو يزيد عليه أياما معدودة، كلما طرأت مناسبة شخصية تدفعه لذلك. ولكن حينما أخذ نفوذه يقوى في جنوب أفريقية، وأصبح له أتباع مسئول عن سلوكهم وتصرفاتهم؛ حتى إذا ما صدر عنهم أي فعل يخالف تعاليم الدين، أو يتعارض مع أصول الأخلاق، أو يغاير ما ينادي به من مبادئ سياسية، حق عليه أ يحزن لحدوثه ويتألم، ويشعر أنه مسئول عما أتوه من أثام، وينذر صوم عدة أيام أو بضعة أسابيع ليكشف عذاب الصوم ما يحسه من وخز الضمير وكآبة الروح، أو يخفف ضغط الشعور الأليم بالمسئولية من ناحية، وليكفر عن آثام أتباعه من ناحية أخرى. فكان صومه يؤثر في نفوس أتباعه فيتألمون لألمه، إلا أنهم في الوقت ذاته كانوا يجلون مقاساته آلام صوم متواصل من أجلهم بدون أن يقترف ذنباً يستحق أن يطلب عنه الغفران. ولذلك حرصوا على ألا يقترفوا من المخالفات والأوزار ما يؤلم غاندي، فيضطر إلى أن يلجأ إلى صوم يسبب له ما يكرهون من العناء والتعب.

فلما وجد غاندي ما لصومه من أثر عميق في نفوس الهنود، أدرك بفطرته النفاذة، وفهمه السليم لروح شعبه أنه يمكن أن يتخذ من الصوم ذريعة روحية مفيدة، يخدم بها أغراضه الإصلاحية من تقويم أخلاق قومه، وإصلاح حياتهم المادية والاجتماعية، وترقية مستواهم السياسي؛ كما أدرك أن قوة مفعول الصوم في نفوس الهنود سببه أنهم قوم لا يرهبون إلا قوة الروح، ولا يخضعون إلا لسلطان الدين، فتعمد مخاطبتهم باللغة التي يجيدون معرفتها ويصدعون إليها. فاستعان بالصوم لخدمة مصالحهم، لأنه يعبر عن قوة دينية، وعن مظهر من مظاهر القدرة على تحمل الآلام ومقاساة الجوع، فضلا عن أنه وسيلة من وسائل تطهير الروح. فسهل عليه السيطرة به على قومه، ونجح في استخدامه إلى أبعد حد بحيث أصبح الصوم أمضى سلاح سياسي يعتمد عليه غاندي بصفته الشخصية للقضاء على الاضطرابات والقلاقل التي كثيراً ما تحدث في الهند، ولتهدئة ثورات النفوس الهائجة حتى يشملها الحب والوئام، أو لتفادي ما تتعرض له من أزمات سياسية، وما يهددها من كوارث اجتماعية. ويرجع توفيق غاندي في استخدام هذا السلاح الديني في السياسة إلى أسباب أهمها:

فهم غاندي العميق لمزاج شعبه الروحي، ومعاملته بالأسلوب الوحيد الذي يصدع له دائماً.

ثم دقة حساسية غاندي وصدقها في تلمس خطايا الشعب الحقيقية، وقدرته الروحية ونفاذ بصيرته التي تخترق شغاف قلوب الجماهير، وتشعرهم بأن خطاياهم قد مست أعماق نفسه، فسببت له ألواناً مؤذية من الحزن والألم، فرضى أن يحتمل عناء الصيام ليعفو الله عنهم. وذلك يوجد الفزع في قلوب الشعب الذي يخاف على حياة الزعيم الذي يحبونه كل الحب فيضطرون للاستماع لنصائحه والأخذ بآرائه السياسية والاجتماعية، حتى لا يعود إلى صوم قد يكلف غاندي حياته، وتفقد الهند بطلها المقدس.

ولقد صام غاندي حوالي خمسة عشر صوماً خلال الخمس والثلاثين سنة الأخيرة من عمره أذكر منها على سبيل المثال ثلاث مناسبات صام فيها غاندي، لأوضح بعض الظروف المختلفة التي كان يصوم من أجلها غاندي. ولنبدأ بصوم سببه أخلاقي تذره عندما كان في جنوب أفريقية يشرف على التعليم في المدرسة التي أنشأها بمزرعة العنقاء، وتسمح باختلاط الصبيان والبنات بالرغم من تباين نشأتهم واختلاف أوساطهم. فحدث أن اعتدى أحد التلاميذ على عفاف فتاة، فلما سمع غاندي بهذا النبأ الأثيم تألم وشعر أنه كمشرف على هذه المدرسة مسئول عما ارتكب، فعاقب نفسه بصوم تسعة أيام ليخفف بها وطأة وخز الضمير وتأنيبه من جهة، وليطلب المغفرة من الله لهذين الآثمين من جهة أخرى. فكان لصيامه وقع أليم في أهل المزرعة طهر ما علق بالنفوس من أفكار سوداء، كما حرر نفس غاندي من كل ما انتابها من قلق واضطراب، وأحل محل غضبه على المجرمين إحساساً بالعطف والشفقة عليهما، فتوثقت العلاقة بينه وبين الأولاد والبنات.

أما عن الصوم الثاني فصامه غاندي بعد أن نزح عن جنوب أفريقية ورجع إلى الهند بصيته المعروف بمحاربة الاستعمار البريطاني؛ فاستطاع بعد أن درس حال الهند من جميع النواحي أن يتولى زعامة الشعب الهندي. ثم أخذ يطالب باستقلال الهند الذاتي الذي وعدت إنجلترا أن تمنحه للهند بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، نظير ما قدمته لها من مساعدات حربية. فلم تكتف الحكومة الإنجليزية بمراوغته، بل أخذت تشدد الرقابة على الهنود كما فرضت عليهم أحكاماً عسكرية صارمة. فعزم غاندي على أن يحاربها حرباً سلمية، أي يحاربها بسلاح العصيان المدني الذي حاربها به من قبل في جنوب أفريقية، واستطاع أن يلغي ضريبة الثلاث جنيهات المفروضة على الهنود هناك. إلا أنه شعر بصعوبة قيام شعب يقرب من أربعمائة مليون نسمة، يختلف فيما يبنه من حيث الدين العادات واللغة، يعصيان إجماعي قبل أن تتشبع روح كل فرد بأساليب العصيان، حتى تبتعد عن العنف والشغب والفوضى وحوادث السرقة والتحطيم والحرق. فأخذ غاندي يمرن الشعب بادئ الأمر على العصيان، بأن طالبهم بمقاطعة كل ما هو إنجليزي. فقاطع الشعب التوظف في المحاكم الحكومية الظالمة، والتعلم في المدارس والجامعات الإنجليزية التي تفسد عقلية الهنود، وشراء السلع البريطانية. كما طالبهم بمخالفة كل قانون جائر يضر بمصالحهم. وبعد أن تغلغلت مبادئ المقاومة السلبية في النفوس، وبعد أن بلغت حماسة الهنود من القوة بحيث لا يستطاع إغفالها، أعلن غاندي العصيان المدني العام في جميع أنحاء البلاد، وكان يظن أنه لن يحدث شيئاً يعكر صفو سلمية هذا العصيان، ولكن حدث أشد ما يبغضه إذ اصطدم الأهالي برجال الشرطة، فهاج الشعب، وأطلق الرصاص، وأشعلت النيران، وأريقت الدماء، فانتشرت الفوضى، وكثرت حوادث النهب والإتلاف. فأرغم غاندي على أن يوقف هذا العصيان ويعلنه ثلاث مرات متتالية، وعلى أن يصوم أربعاً وعشرين ساعة من كل أسبوع تكفيراً عن الدم الذي أريق، وقصاصاً لنفسه على فظائع بني قومه، حتى يشعرهم بهمجية عنفهم، ويلزمهم حد اللاعنف الذي يجب عن طريقه أن تنال الهند استقلالها.

وكان الصوم الثالث سببه ما بين الهندوكيين والمنبوذين من نزاع من أولى المشاكل الاجتماعية الهندية التي وجه لها غاندي كثيراً من عنايته. وذلك لما وجد الهندوكيين يحتقرون المنبوذين أشد الاحتقار، ويعتبرونهم أنجاساً، ويحرمون معاشرتهم أو الاتصال بهم. فحاول غاندي أن يمحو الفوارق الاجتماعية بين جميع الطوائف الهندية، ويعطي المنبوذين من الحقوق السياسية مثل ما لأي هندي آخر. فكان يظهر في كل مكان يؤاكل المنبوذين أو يعانقهم، حتى يشجع غيره من الهندوكيين على أن يتشبهوا به ويحسنوا معاملتهم. إلا أنه لم يقدر أن يقضي نهائياً على اضطهادهم للمنبوذين. ولكن حين قبلت الهند سنة 1935 المشروع الإنجليزي الذي ينص على خضوع البلاد لحكم نيابي مؤلف من مجلسين أحدهما تشريعي والآخر للمقاطعات، تكون الحكومة مسئولة أمامها، ثم بدئ في توزيع المناطق الانتخابية لتأليف هذين المجلسين النيابيين، طالب المنبوذون بمناطق انتخابية منفصلة. فأيدهم الإنجليز في هذا الطلب؛ إلا أن غاندي رفضه مصرحاً بأن إعطاءهم مثل هذه المناطق يعقد مشكلة المنبوذين ويجعل حلها عسيراً، ويقضي ببقائهم على ما هم عليه من ذل وهوان، وهذا فضلاً عن أنه يزيد الشقاق بين الطوائف الهندية، ويقوي الخلافات الدينية التي تشكو منها الهند، وأعلن الصوم حتى الممات. وما كاد يمضي سبعة أيام على صيامه حتى انتهى الخلاف بتسوية تسلم بانتخاب المنبوذين في مناطق الهندوكيين، على أن يكون لهم عدد معين من المقاعد في المجالس الإقليمية التشريعية.

وإذا حاولنا أن نتكلم عن كل صيام صامه غاندي، استعرضنا مختلف مشاكل الهند الحديثة سواء أكانت اجتماعية أو سياسية أو طائفية أو دينية، لأن غاندي لم يترك مشكلة لم يتعرض لحلها، فإذا ما أحس أن هناك مشكلة ستحل بطريقة تتعارض مع مصلحة الهند والهنود فإنه يتفادى مقدما نتائجها الوخيمة، ويعلن الصوم حتى تحل هذه المشكلة حلا يقع نفعه على الهند، أو إذا ما تصادم المسلمون والهندوكيون أو اندلعت نيران الثورة الطائفية، وهاجت النفوس، أكثر واشتدت المجازر فإن صيامه يبعث الذعر في قلوب ملايين الهنود مما يبعثه وابل من القنابل، فيضع حداً للمذابح، ويسكن النفوس الهائجة، ويستحيل بفضله الحقد إلى حب. وذلك كله يؤكد زعمنا بأن غاندي أخرج التعاليم الدينية من عالم المعابد إلى عالم الحياة الواقعة، وأعطى الصوم الديني حقيقة عملية، وجعل له وظيفة نافعة في الحياة الاجتماعية والسياسية، واتخذ منه سلاحاً يقوم به أخلاق الناس، ويهدئ من هياجهم، ويمحو الحقد والبغضاء من قلوبهم.

عبد العزيز محمد الزكي

مدرس الآداب بمدرسة صلاح الدين الأميرية بكفر الزيات