مجلة الرسالة/العدد 786/رسالة النقد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 786/رسالة النقد

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 07 - 1948



أين المفر

تأليف الأستاذ محمود حسن إسماعيل

بقلم الأستاذ أنور المعداوي

شاعر. . . كلمة أقولها بكل ما يحويه مدلولها من معان يدخل فيها الطبع، والموهبة، وسعة الأفق، وقدرة الجناحين على التحليق؛ أقولها أنا عن صاحب هذا الديوان حين يطلقها غيري على كل ناظم، وكل ناحت، وكل مصنوع.

قرأت له أكثر ما قال من شعر إن لم يكن كل ما قال، وفي هذه الفترة الطويلة بين إنتاجه الأخير لم يتغير رأيي فيه. . لقد ظل على مستواه من الشاعرية التي صقلها الطبع وشحذها التأمل، وغذاها الخيال؟، ونحن حين نقرر هذا كله، تقرره بميزان الوعي الفني؛ الوعي الذي تعينه مقاييس الذوق والفن على تحديد الأوضاع والقيم.

ولا بد من وقفة قصيرة عند تلك الكلمة التي قدم بها الشاعر لديوانه، وعرض فيها للشعر العربي الحديث في شتى فنونه وألوانه وكيف تعددت هذه الفنون والألوان على أيدي أصحابها من الناظمين والشعراء.

وكيف تباينت مصائرها تبعاً لما ينال المعادن الشعرية زيف في الفن أو أصالة؛ وقفة قصيرة لأقول للشاعر إنني كنت أود ألا تظهر تلك الكلمة كمقدمة لديوانه، حتى لا يتهمه النقاد بأنه، اكتبها إلا تزكية لشعره وانتصافاً لنفسه. . . على الأستاذ محمود حسن إسماعيل أن يقدم لنا شعره لنحكم له أو عليه، ولا يحق له بعد ذلك أن يقيم الميزان لنفسه ولغيره في الوقت الذي يقدم فيه إلى النقاد عملاً من أعماله الفنية!

هذه لفتة أسجلها قبل أن أمضي في عرض شعره، وقبل أن أقول إننا نعاني تخمة في الشعر وأزمة في الشعور. . . إن نظرة واحدة إلى ما تخرجه المطبعة من دواوين الشعر في هذهالأيام؟، تنتهي بك إلى الإيمان بهذا الحكم؛ الأيمان به كحقيقة ملموسة، ونظرة فيها التذوق والتمعن تسلمك إلى حقيقة أخرى هي أنك لو رحت تبحث وسط هذه التخمة الشعرية عن آثار أدبية ترضي الفن حين تحفل بصدق الشعور، لما وجدت غير ثلاث دواوين هي (أين المفر) لمحمود حسن إسماعيل و (طفولة نهر) لنزار قباني و (الشروق) لحسن كامل الصيرفي؛ ونظرة فيها التأمل والنفاذ تقنعك بأن أزمة الشعور عند الكثرة الغالبة من شعرائنا مرجعها إلى أن التجربة النفسية قد تمر بهم فكأنما تمر بفراغ موحش لا تلقى فيه إلا مجموعة حواس معطلة، لا تستجيب لأحداث النفس والحياة.

أترك هذا لأسجل ظاهرة تلفت الحس الفني عند قارئ هذا الديوان، أقصد القارئ المتذوق لا القارئ العجلان. . . وهي ظاهرة تتركز في الحركة النفسية التي تشيع في الكثير الغالب من قصائده؛ هذه الحركة النفسية هي (المرصد) الذي يتلقى (الهزات) الشعورية من هنا وهناك ثم (يسجلها) في بيت من الشعر أو أبيات. . . هذه الهزات متفرقة ثم متجمعة تنصهر في بوتقة الوجدان النابض لتضع بين يدي الناقد نموذجاً كاملاً للشاعر الإنساني. . .

محمود حسن إسماعيل في (أبن المفر) مثال صادق لهذا الشاعر، ولست أجد في وصف فنه خيراً من تلك الكلمات التي قلتها من قبل عن الفن الإنساني، وهو أن يكون الفن انعكاساً صادق من الحياة على الشعور، وأن يكون الشعور مرآة تلتقي على صفحتها النفس الإنسانية في صورتها الخالدة بكل ما فيها من اشتجار الأهواء والنزعات. . . هنا تتحقق المشاركة الوجدانية التي تتمثل في ذلك التجاوب الروحي بين الفن وصاحبه، وبين الفن ومتذوقه، وبين الفن والإنسانية بكل ما فيها من اختلاف الصور والألوان.

الشاعر الإنساني هنا يقف من وراء هذه الأبيات، وأن شئت فقل من وراء هذه الأنات. . . في (أغاني الرق):

ألقيتني بين شباك العذاب ... وقلت لي غن

وكل ما يشجي حنين الرباب ... ضيعته مني

وهذا جناحي صارخ لا يجاب ... في ظلمة السجن

ونشوتي صارت بقايا سراب ... في حانة الجن

أواه يا فني

لو لم أعش كالناس فوق التراب!

جعلت زادي من عويل الرياح ... وغربة الطير ومن أسى الليل ووجد الصباح ... وشهقة النهر

وسقتني ظمآن بين البطاح ... إلا من السحر

وقلت لي رفرف بهذا الجناح ... واشرب من السر

والسر في صدري

قيدت ساقيه بتلك الجراح!

هذه كلمات شاعر ينظر إلى الحياة من خلال (عدسة) فكرية مكبرة، تكشف الطريق إلى كل خفي من شعاب النفس، وكل تعريجة في منعطف الشعور هي كلمات فنان وأن شئت فقل كلمات إنسان؛ واستمع مرة أخرى لخفقة من خفقات القلب الإنساني، في لحظة من تلك اللحظات التي تمر لكل نفس ألهبتها سياط العذاب، وألهمتها فلسفة الحرمان. . . هناك في (مقابر السحر):

وهفا بالنفس ما يهفو بغصن في يد الإعصار يعول

ثم قالت كيف عن دمعي ومنك الدمع يا حيران تسأل؟

أن أكن فيك سكنت الجسم والجسم تراب يتنقل

فأنا طير بعرش الله لي عش، وبستان، وجدول

إنما أبكي لهذا القفص الداجي الكئيب المتململ

لم يجد أي عزاء في وجودي. . . كيف يغدو حين أرحل؟!

ولما طال المسير بشاعر الإنسانية، آمنت دموعه وكفر جفنه، ومن التقاء الكفر بالإيمان انبعث الهتاف الملتاع، وانطلقت الزفرة المحرقة، في طريقهما إلى الله. . هناك في (التراب الحائر).

رباه! ما أنا؟. . . هل وجدت على زمان الناس سهواً!

سويتني روحاً تمرد، لا يطيق الأرض مثوى

وأنا التراب! فكيف صرت هوى وتعذيباً وشجواً!

شرفات غيبك لا يتحن لغير من يبكي دنوا

وأنا إليك ذرفت أيامي فزاد دمي عتوا

ووقفت أحفر للجراح طريقها. . . فتعود شدوا! ونقلة أخرى تقف بنا عند ظاهرة أخرى لا تقل عن الأولى استئثاراً باهتمام الناقد ولا إثارة لملكته الناقدة، ونعني بها ظاهرة الرمزية في شعر الأستاذ محمود حسن إسماعيل. . . هذه الرمزية هي التي تدفع بعض الناس إلى وصف شعره بغموض العبارة حيناً وجموح الخيال حيناً آخر؛ والحقيقة التي نقررها أنه لا غموض هناك ولا جموح، وإنما هو عجز العجالي عن التحقيق في أفق الشاعر، وقصور احساساتهم عن التجاوب والجو النفسي الذي عاش فيه، ذلك لأن الرمزية هنا تأتي مطبوعة لا مصنوعة، وأصيلة لا مقصودة. . . الرمزية المطبوعة هي أن يعبر الفنان عن طريق المعنويات، أما الرمزية المصنوعة هي التعبير عن الماديات بما وراء المعنويات، وفي هذا اللون الأخير من الرمزية يكون السخف والدجل والتضليل!

الرمزية في شعر هذا الشاعر تصدر عن منبعين أصيلين: التأمل العميق المنعكس من الحياة على النفس وهو ما يعبر عنه يا (الاستيطان النفسي)، وهذا هو المنبع الأول. . أما المنبع الثاني فهو (الفيض الشعوري) المنبعث من قوة الشخصية الشعرية أو رحابة الحقل الشعري؛ ومن هنا تطغي التهويمات الروحية التي تصبغ الشعر بصبغة الرمزية الأصيلة لا الرمزية المتكلفة، تلك التي لا تهدف إلا إلى الغموض والإبهام! استمع له يقول في (العزلة):

صلت بها عيدان ... لا تعرف الأديان

واستغفرت أغصان ... لكن بلا ذنب

خميلها حران ... ونبعها ظمآن

وصمتها ولهان ... شوقاً إلى الغيب

تفجرت أنهار ... فيها من الأسرار

يجري بها إعصار ... في عالمي الرحب

وهذه أنفاس ... في صمتها الوسواس

تدق كالأجراس ... في معبد القلب

وهذه حيات ... تسعى من الساعات

كأنما الأوقات ... غاب نما قربي هنا لون من الرمزية لا يعجزك فهم مراميه حين تلقاه بشيء من الرويه وإمعان الفكر. . . كل ما في العزلة من خلجات النفس وخفقات القلب وهزات الشعور، تلك الانعكاسات المادية المحسة قد عبر عنها في هذه الأبيات بأشياء معنوية؛ (فالعيدان المصلية) بلا دين، و (الأغصان المستغفرة) بلا ذنب، و (الأنهار المتفجرة) من الأسرار، و (الأنفاس الصامتة) التي تدق كأجراس في معبد القلب، و (الحيات الساعية) من الساعات، كل هذه المعنويات التي تنبع من العقل الباطن يمكنك أن تردها إلى وقع العزلة على العقل الواعي؛ ذلك الميزان الشعوري الذي يسجل ما في الوحدة من مظاهر الرهبة والصمت، والرغبة في اختراق حجب الغيب، وبطئ النقلة في خطوات الزمن، وامتلاء الجو بالأسرار، واستجابة الوجدان لدعاء مجهول يوحي بالتعبد والصلاة. . .

وبمثل هذا التطبيق ينجاب ذلك الغموض الذي يطالعك في بعض قصائد الأستاذ محمود حسن إسماعيل حين تلقاه هنا أو تلقاه هناك. . في (عرفت السر) و (نهر النسيان) و (الخريف) و (جلاد الظلال) هاتان ظاهرتان أو ناحيتان؛ ويبقى أن نسجل ناحية أخرى لها وزنها عند الكلام عن الفن التصويري في الصياغة الشعرية، هذه الناحية تتمثل في الربط بين أجزاء الصورة الوصفية تتمثل في الربط الشعوري كما تتمثل في الربط التعبيري. . . ومن اتصال هذا بذاك، ومن التوفيق في اختيار الزوايا وتحديد النسب تكتمل الوحدة الفنية التي تخلق من الصورة الكاملة لوحة نابضة تتناسق فيها الجزيئات في نطاق المدركات الحسية والنفسية. . . هذه الظاهرة تستطيع أن تلمسها في (الشك) و (نشيد الأغلال) و (خمر الزوال) و (المعبد المرجوم) و (الانتظار)، وتعال نستمع له وهو يصف لحظة من لحظاته:

انتظر هنا. . . وطال انتظاري ... وهي في أعيني التفات وذعر

وسؤال لكل شيء حوال ... ي وإيماءة لكل طيف يمر

وانتباه، وغفلة، وربيع ... وخريف، وشيب زهر وعطر

وجناح يهفو، وآخر يهتاج وم ... ن بين ما يرفان طير

وأنا سبسب توهج منه ... لخطاها أيك رطيب وزهر

وهي لا أقبلت ولا عاد منها ... لشقائي بعودة الكأس خمر هذا هو الشاعر الإنساني، وشاعر الرمزية المطبوعة، وشاعر الصورة لوصفية الكاملة، فما هي الفجوات الشعرية التي يتعثر فيها الناقد ولا يستطيع المضي في طريقه دون أن يشير إليها؟.

هي فجوات قليلة ولكنها تعترض سالك الطريق على كل حال؛ يجدها في غلبة اللفتات الذهنية حين تخمد الومضات الروحية. . هناك في (اللحن المقهور):

ليتني كنت رياحاً ... تهتف الآباد منها

أنا أهواها ولكن ... رغم أنفي لم أكنها

أنظر إلى هذا التعبير النثري في قوله (رغم أنفي). . . ألا تشعرها هنا بشيء من الهبوط في الإحساس بالجو الشعري؟! إن هذا التعبير في رأيي يصلح لمقالة من المقالات لا لبيت من الأبيات.

واستمع له مرة أخرى حين يقول في (أغاني الرق):

يا سارق القوت نزعت الحجاب ... عن هذه اللقمة

ما كنت أدري فتكها بالرقاب ... أو أنها نقمة

والجوع أن صاح يصيح الخراب ... وتصعق الأمة

ألا توافقني على أن أفق الخيال في البيتين الأول والثاني أفقشاعر، وأنه في البيت الثالث أفق ناثر؟. . .

وأن القالب الشعري في قوله: (وتصعق الأمة) تصبغه صبغة الخطب المنبرية أكثر مما تصبغه صبغة التهويمات الروحية؟

واستمع له مرة ثالثة حين يهتف في (الرداء الأبيض):

عشقت فيك الحزن والسوادا ... وسمرة الخدين والحدادا

وجد ولا تحت الدجى تنادي ... يا ساقي الحب أغث لي وجدي

وهنا أيضاً يصدمك هذا التعبير (أغث لي وجدي). . . إنه هتاف ينبعث من قريحة اعتراها الهمود بعد وهج التوقد وحرارة الانفعال!

وتأمل مني هذه الصورة الوصفية لوقدة القيظ ولفح الهجير:

وألسنة بيض لهن رطانة ... بمثل لغاها كاهن لم يتمتم كأن عفاريت الظهيرة طنبوا ... خياماً على هذا البساط المضرم

إن الصورة هنا تبلغ القمة وتصل إلى مدى الإبداع، ولكن كلمة (عفاريت) قد أفسدت ألوانها الزاهية!

هذه المآخذ التي تنتثر في مواضع قليلة من (أين المفر)، لا يمكن أن يخلو منها أثر من الآثار الفنية. . .

وأعود فأقرر أن هذا الديوان يثب بالشعر العربي الحديث وثبات قل أن تجد لها مثيلاً في ديوان آخر.

أنور المعداوي