مجلة الرسالة/العدد 786/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 786/القصص

ملاحظات: المجنونة La Folle هي قصة قصيرة بقلم غي دو موباسان نشرت عام 1882. نشرت هذه الترجمة في العدد 786 من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ 26 يوليو 1948



المجنونة

للكاتب الفرنسي جي دي موباسان

للأديب جمال الدين الحجازي

قال المسيو داندالين لأصدقائه وهو ينفث دخان سيجارته في بيت البارون رافوت شاتو: (سأقص عليكم أيها الرفاق قصة مخيفة وقعت حوادثها في الحرب البروسية الفرنسية) أنكم تعرفون البيت الذي كنت أسكنه في (فابورج دي كورميل) كانت جارتي هناك امرأة مجنونة لطيفة! وقد فقدت شعورها أثر نكبات شديدة نزلت بها، ففي العقد الثالث من عمرها توفي والدها وزوجها وطفلها الذي ولد حديثاً توفي جميع هؤلاء خلال شهر واحد! وكأن الموت استطاب الرجوع إلى بيتها لاختطاف جميع أفراد عائلتها دون إعطاء مهلة كافية! فتغلبت عليها الأحزان، وانتابتها الأزمات الشديدة، ومكثت في فراشها ستة أسابيع بهذيان دائم كانت خلالها لا تأكل شيئاً إلا ما يسد رمقها، ومكثت في فراشها لا تقوى على الحركة وما أن أبصرها البروسيون حتى تملكتهم الحيرة وحاولوا مراراً إنهاضها من فراشها، فكانت تصرخ في وجوههم وقد ظنت بأنهم سيقتلونها، فلم يجدوا بداً من تركها في فراشها إلا أنهم أخرجوها أخيراً من البيت لإزالة ما علق على جسمها من الأوساخ ولتغيير ملابسها الكتانية. ومكثت بجانبها خادمة صغيرة لإعطائها بعض ما تحتاجه من طعام من وقت لآخر.

ترى ما هي الأحداث التي ألمت بتلك المرأة حتى أصابها الجنون واليأس من الحياة! ذلك ما لم يدرك كنهه أحد، أتراها كانت تحلم بالموتى وتتراءى لها خيالاتهم، أم أصبحت ذاكرتها ضعيفة واهية كالماء الراكد الآسن؟ لم يدري أحد، ومكثت خمسة عشر عاماً على هذه الحالة التعسة.

نشبت الحرب، وفي أوائل شهر ديسمبر احتل الألمان كورميل وأني لأذكر ذلك كأنه حصل البارحة كان الطقس بارداً بل متجمداً وكنت جالساً على كرسي لم أستطع الحركة، عندما سمعت صوت أقدمهم الثقيلة الخطوات المنتظمة الصفوف، ورأيتهم من النافذة يمرون في الشوارع وقد انتظموا في صفوف كثيرة، وبعدئذ أمر الضباط جنودهم بأن ينزلوا في بيوت سكان البلدة فنزل في بيتي سبعة عشر رجلاً، وكان من نصيب جارتي أثنى عشر، وكان القائد من بينهم. وفي اليوم التالي وصلت الأنباء إلى الجنودالذين كانوا يقيمون في بيت المرأة المجنونة بأنها مريضة، إلا أنهم لم يقيموا وزناً لمرضها ولم يأبهوا له، ولما سألوا عن سبب مرضها علموا أنها طريحة الفراش منذ خمسة عشر عاماً وذلك لتوالي النكبات التي نزلت بها والأحزان التي تغلبت عليها فأورثتها الأمراض، إلا أنهم ولا ريب لم يقيموا لذلك وزناً، واعتقدوا أن تلك المرأة متكبرة وأنها ملازمة فراشها لكي لا يقع بصرها عليهم، أليسوا أعداء بلادها، ذلك ما فكروا فيه.

أصر القائد على رؤيتها ولما وصل إلى غرفتها قال لها غاضباً: يجب أن تنهضي من فراشك وتنزلي إلينا (فلم تجبه، فواصل القائد حديثه قائلاً: أنني لا أحتمل هذه الغطرسة والكبرياء، فإن لم تنهضي من فراشك فسأضطر إلى إنزالك بالقوة) ولكنها لم تجبه ولاذت بالصمت. وحينئذ رجع الضابط إلى غرفته وقد أشتد غضبه وأتخذ من صمتها أداة لاستعمال الشدة معها.

وفي صبيحة اليوم التالي، أرادت الخادم تغيير ملابس المجنونة، إلا أن المجنونة بدأت تصرخ صراخاً عالياً وقاومت ذلك ما استطاعت، وما أن سمع القائد ذلك الصراخ حتى ذهب إليها، ولما رأته الخادم رمت نفسها على قدميه باكية وقالت له: أنها لا تستطيع النزول يا سيدي، لا تستطيع، أرجو أن تسامحها فهي مسكينة).

ولما رأى القائد ذلك، ضحك ضحكة خبيثة وألقى بعض الأوامر إلى جنوده، فأقبلوا وهم يحملون بين أيديهم فراشاً اتجهوا به نحو تلك المرأة المجنونة. أقترب أحد الجنود من فراشها وقال لها متهكماً وهو يفرك يديه: سنرى الآن هل تخلعين ملابسك وتستبدلينها بثياب نظيفة وتسيرين في نزهة قصيرة أم لا! ثم سار الجنود في غابة (أموفيل) وبعد ساعتين رجعوا وحدهم. لم يدري أحد ماذا حصل للمجنونة ولم يعثر لها على أثر، ترى ماذا صنع بها أولئك الجنود وأين أخذوها، لم يعلم بذلك أحد.

بدأ الثلج يتساقط، وغطى السهول والغابات فجاءت الذئاب وهي تعوي واقتربت من بيوتنا، مكثت مدة أفكر في تلك المجنونة الضائعة! وحاولت مراراً الاستعلام من السلطات البروسية عن مصيرها دون جدوى. ولما عاد الربيع أنسحب جيوش الاحتلال وبقي بيت المجنونة مغلقاً، وكانت خادمتها قد توفيت في الشتاء الماضي! ولم يهتم بالحادث أحد سواي إذ كنت أفكر في مصير تلك المرأة أناء الليل وأطراف النهار، ترى ماذا صنع بها أولئك الجنود وهل هربت إلى الغابة، أو عثر عليها أحد من الناس وأخذها إلى المستشفى رغماً عنها، ولم أجد ما يزيل شكوكي ولكن المصادفات والمقادير تدخلت في الأمر فأزالت هذه الشكوك، إذ بينما كنت غي الغابة وكان الفصل خريفاً اصطاد بعض الطيور الجارحة، وقع أحدها جريحاً في حفرة مليئة بالأغصان ولما نزلت إلى الحفرة لالتقاطه رأيت حطام جثة آدمي في الحفرة، يا إلهي. . . ترى من يكون صاحبها، وحينئذ تذكرت حالاً تلك المرأة المجنونة، قد يكون كثير من الناس ماتوا في الغابة أثناء النكبات التي حلت بهم في تلك السنة، ولكنني لا أدري لماذا كنت متأكداً، بل متأكداً جداً بأنني أرى رأس تلك المجنونة وأن هذه الجثة جثتها!

وعرفت بعدئذ أن الجنود قد تركوها في هذه الغابة وأنها نظراً لتمسكها بمبادئها التي أخلصت لها لم تعبأ بموتها في تلك الغابة الموحشة، لقد مزقتها الذئاب وبنت الطيور أعشاشها من بقايا فراشها الصوفي الممزق!

ولما رأيت هذه المناظر البشعة المحزنة كدت أبكي من شدة تأثري ودعوت الله مخلصاً أن يبعد شبح الحرب عن أولادنا، فلا يرونه أبداً.

(القدس)

جمال الدين الحجازي

الندوة الأدبية