مجلة الرسالة/العدد 780/صور من الحياة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 780/صور من الحياة

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 06 - 1948



للدكتور عبد العزيز برهام

(إن قول الحق لم يدع لي صديقاً)

(اكثم بن صيفي)

لا يجرح غير الحقيقة (مثل فرنسي)

جمعتني الصدفة بصديق قديم كنت آخذ عليه دائماً إخلاف المواعيد. زرته في مقر عمله فوجدت عنده عدداً عديداً من الزوار كلهم يرجوه في أن يشفع له عند فلان أو فلان في أمر كذا أو كيت، ورأيته يمنيهم جميعاً بقضاء حاجاتهم، فيخرجون من لدنه، وقد امتلأت نفوسهم بالآمال، وظنوا أنفسهم قاب قوسين أو أدنى من بلوغ المرام. ولكنهم ما كادوا يبرحون مكتبه حتى تنفس الصعداء، والتفت إليَّ وعلى شفتيه ابتسامة ثم قال: أفً لهؤلاء الناس! أيظنونني عبداً مسخراً لهم؟ ما أكثر ما هم عليه من بله! قلت: وماذا يحملك على أن تمنيهم كل هذه الأماني؟ قال: وماذا يضيرني، وقد بلغ الحمق بالناس أن يصدقوا كل ما يقال لهم؟ أو لا يسرك أن تراهم وقد خشعت أبصارهم أمامك، وانخفضت أصواتهم، وبدت عليهم الذلة والمسكنة، وهم يضرعون إليك بالرجاء؟ قلت: وأي لذة في هذا؟ قال: إن فيها لذة لا يشعر بها إلا من مر بمثل ما أمر به. قلت: أما آن لك أن ترعوي يا (نيرون) ومانه؟ قال: وأنت! أما آن لك أن تقصد في نصحك؟ قلت: بلى. ثم افترقنا.

انقضت ثلاثة أشهر لم أر فيها صديقي، ثم عدت إليه أزوره، ولشد ما كانت دهشتي عندما رأيت بين زواره فريقاً ممن رأيتهم عنده من قبل يطلبون شفاعته، وإذا به يعود فيعدهم ويمنيهم. لم أطق صبرا على رؤية هذه المسرحية الموجعة، فملت عليه بعد أن صرف واحداً منهم بالحسنى، وكنت أرى في مظهره ما يستاهل المساعدة: أتنوي حقاً قضاء حاجة هذا الرجل؟ فقال، وهو يهمس في أذني: وكيف لي بقضاء ما يطلب؟ إنه يطلب أن أعينه في وظيفة ممرض، وأنا لا أعرف من أطباء الصحة أحداً. قلت: فقيم إذن كل هذه الأماني المعسولة؟ قال: دعه، فستنجلي له الحقيقة يوماً ما، وسيريحني من تردده المملي عليَّ. قلت: ولماذا لا تصارحه بها؟ قال: يا لك من غر! أتريد أن أقول له إنني لا أعرف من أطباء الصحة أحداً؟ قلت: ولم لا؟ قال: هذه حماقة لا أرضاها لنفسي.

لم أكد أسمع منه هذا الحديث حتى يعثت فاستدعيت الزائر الذي انصرف، وكان لا يزال على مرأى منا، وقلت له على مسمع من الجالسين: أيها الأخ! إن فلاناً هذا يأسف لأنه لن يستطيع قضاء أمرك، فهو لا يعرف أحداً من أطباء الصحة.

فوقف الرجل مشدوهاً من سماع هذه الكلمات، وهو لا يكاد يصدق ما يسمع، وكأن لسان حاله يقول: ففيم إذن كانت كل هذه المقابلات؟ وانتفض صديقي انتفاضة تدل على الغضب البالغ فلقد فوجيء بما قلت. ثم التفت إليَّ يقول: هذا لا يليق بي أن تقوله. هذه إهانة لا أقبلها منك. قلت: أو ليس ما قلت حقاً؟ قال: وما كل حق يقال. قلت: ولكن هذا الرجل يجب أن يعرف إلى أين يسير؟ قال: لا شأن لك بي وبأموري. ثم مدَّ إليَّ يده وهو يقول. وداعاً، يا صديقي. فوقفت وانصرفت وأنا أقول: وداعاً لا لقاء بعده.

وأردت أن أتزوَّج، فأوصيت كل من تصلني بهم صلة أن يعنينوني في البحث عن (نصفي الثاني). ثم طرقتْ بابي ذات مساء سيدة هي مني بمنزلة الوالدة، ووجهها يطفق بشراً. وما كادت عينها تقع عليَّ حتى صاحت: أبشر يا صاح! فقد وجدت ضالتك المنشودة. إنها فتاة في ريعان الشباب ومقتبل العمر، من أسرة كريمة، وإن لم تكن غنية. قلت: وهل نقلت إليهم ما تعرفين عني؟ قالت: لقد قلت عنك كيت وكيت، وقلت إنك تملك خمسين فداناً. قلت: في أي بلد؟ قالت: لا أدري. قلت: فكيف إذن قلت ذلك وأنت تعلمين أنني لا أملك قيراطاً واحداً؟ قالت: أو لست جديراً بأن تملك هذا المقدار وأكثر منه؟ قلت: الجدارة شيء والواقع شيء آخر. وما كان لك ان تقولي غير الحقيقة.

القيت بأصهاري (الجدد) وكان استقبال بالغ الحفاوة، وترحيب لا نظير له، ثم اتفقنا على كل شيء، ولكن. . . وما أقسى لكن هذه! دار بخلدي أن هؤلاء الأصهار (الجدد) الذين سأكون واحداً منهم ليس من اللياقة أن أحبس عنهم حقيقة ثروتي، فجمعت أطراف سجاعتي (وصححت) المعلومات التي وصلتهم عني. وما كنت أدري أنني بهذا القول قد بخست في نظرهم من قدر نفسي، فلم أكد أصل منزلي، حتى لحق بي رسولي، والغضب باد على وجهه، وهو يصيح في وجهي: لقد أفسدت كل شيء! قلت: ماذا؟ قال: ما لك وللحديث عن أطيانك؟ لماذا لا تتركهم في ضلالتهم؟ لقد اعتذروا من عدم قبولك صهراً لهم، وفهمت أن السبب هو أنك قلت لهم إنك لا تملك شيئاً. أو ما كان الأحرى أن تموه عليهم حتى ينتهي كل شيء؟ قلت: لا أستطيع. وإياك أن تفعلي هذا مرة ثانية. قالت: إذن فأعفني من هذه المهمة ووداعاً يا صديقي! قلت: وداعاً

وكنت ذات يوم منهمكاً في عملي، وقد قدرت للفراغ منه ساعة من زمان، وإذا بزميل لي يقتحم عليَّ الباب، والبشر يطفح من وجهه، ويقطع عليَّ سلسلة أفكاري، وهو يدندن بألفاظ لم أفهم لها معنى. ثم قال: أما تهنئني؟ قلت: بلى، ماذا أصبت؟ قال: كنت مع المدير الآن أحمل إليه (توصية) من فلان باشا وقد وعدني بترقيتي في الشهر القادم. قلت: ولكننا لا زلنا على بعد ستة أشهر من الميزانية الجديدة؟ قال: وما شأن الميزانية الجديدة الآن؟ قلت: لأن الترقية إنما تكون على درجات خالية وقد استنفدت المصلحة في ترقياتها الأخيرة جميع ما لديها من درجات. قال: كيف، وقد وعدني بما قلت لك؟ قلت: لقد خدعك. قال: هذا محال؛ وخير لك أن تبشر ولا تنفر. قلت: لقد أعذر من أنذر. قال: لا، إنك تسعي بقولك هذا في تثبيط همتي، ولا تود لي خيراً؛ إن المدير لا يكذب. قلت: شأنك وما تريد. قال: الآن قد كشفت ما تنطوي عليه نفسك من حسد لي، وحقد علي، وكان أولى بك أن تفرح لفرحي. قلت: لو أن هناك ما يستحق الفرح. فانفلت زميلي من الغرفة حانقاً ولم أعد أرى وجهه. ثم مضى شهر أعقبه شهر آخر، ثم تلته شهور أخرى وصاحبي لا يزال ينتظر الترقية الموعودة. ولكن هذا لم يحل دون تجنبه إياي، ونشره بين زملائي أن فلاناً يكره الخير للناس، ثم روايته القصة بصوره تؤيد ادعاءه. وما أقل المحققين للأخبار!

دكتور

عبد العزيز برهام