مجلة الرسالة/العدد 780/أدباء معاصرون
مجلة الرسالة/العدد 780/أدباء معاصرون
أرشحهم للخلود
لحضرة صاحب المعالي الأستاذ إبراهيم دسوقي أباظه باشا
رئيس جامعة أدباء العروبة
يسألني السائلون عمن أرشحهم للخلود من أدبائنا المعاصرين، وأحْبب إلى أن يكون الجواب على صفحات (الرسالة) الغراء.
إذا ما ذكر الناثرون، كان أول من أذكره، وأول من يستأثر بإعجابي، الأستاذ الجليل أحمد حسن الزيات، فهو أقوى كتاب العصر ديباجة وأنقاهم أسلوبا وأعرفهم بالصيغ العربية الصحيحة، ومن أراد البيان العربي في أسمى درجاته فعليه بما يكتبه الزيات.
أما الكاتبان القادران، العقاد وهيكل، فإن عنايتهما بالموضوع الذي يعالجانه - وهما أقدر كتابنا جميعاً من الناحية الموضوعية - أقوى من عنايتهما بسمو الديباجة وإشراقها؛ وبالديباجة يعني أشد العناية، الكاتبان الكبيران، المازني، وتوفيق دياب.
وإذا كان الذين ذكرتهم من الناثرين قد كتب لهم الخلود فعلا، فقد كنت أود أن أرشح للخلود بجانبهم بعض الناثرين من الشباب، لكني أراهم مع الأسف لا يولون هذه الناحية من الأدب الرفيع ما تستحقه من اهتمام، ولا أجد بينهم من يحاول أن يبلغ في هذا الفن الجميل درجة الكمال.
أما الشعراء، فإذا تجاوزنا الذين بلغوا القمة من زمان بعيد، كمطران والعقاد والجارم ومن إليهم، فإن لدينا ممن يلونهم شعراء لا شك أنهم سيبلغون في العالم العربي أعلى مكانة. ولست أدري من يكون أولهم؟ ففي بعض المواقف يمتاز أحدهم، ثم يبرزه سواه في موقف آخر. وقد يتفوق عليهما زميل ثالث في موقف جديد؛ لهذا تصعب المفاضلة بينهم. فهل يكون الأول ناجي، أم طاهر أبو فاشا، أم غنيم، أم العوضي الوكيل، أم الغزالي، أم حممام، أم الصاوي شعلان؟
وكثيراً ما تفوق الحناوي ومخيمر والجرنوسي والجنبلاطي وعبد المنعم إبراهيم وشمس الدين وغيرهم.
وهنا كلمة لابد منها، وهي أن هؤلاء الذين توهت بهم، هم من شعراء جامعة أدباء العروبة، وليس المقصود بشعراء الجامعة أعضاء مجلس إدارتها وحدهم، فإن لها أعضاء أنصاراً، كالشاعرين الكبيرين رامي والأسمر، وهما من أكبر شعراء هذا الجيل.
وإني لحريص على أن أصحح فهما خاطئا سرى إلى بعض الأذهان وأثار حملات لا مبرر لها، فأقول إني لا أحتكر لرجال جامعة أدباء العروبة المجد الأدبي في هذا العصر، وإن كانوا في الحقيقة أقوى مجموعة عرفها التاريخ الأدبي الحديث، وأنا أعد الجامعة مكونة من أعضائها العاملين ومن أنصارها جميعاً. . أما أعضاء مجلس إدارتها فهم فوق مقدرتهم الأدبية الممتازة، أنشط الأدباء وأشدهم دأبا، وأغزرهم إنتاجا، وأكثرهم مثابرة على خدمة الأدب والأدباء، وتنظيم المهرجانات، وإحيائها بخطبهم وقصائدهم التي يحملها المذياع إلى دنيا العروبة فتملأ مسامع الملايين في سائر الأقطار العربية، وتحفر النفوس إلى طلب المجد، وتغرس فيها الشجاعة ومكارم الأخلاق.
وإن شعراء الجامعة لآثار أدبية جديرة بالخلود، أراني فخوراً بأن أعرض ما يحضرني منها في هذه الساعة.
فهذا ناجي يقول في (الغريب).
يا قاسيَ البعد كيف تبتعد؟ ... إني غريب الديار منفرد
إن خانني اليوم فيك قلت غد ... وأين مني ومن لقاك غد
إن غداً هوة لنا ظرها ... تكاد فيها الظنون ترتعد
أطل في عمقها أسائلها ... أفيك أخفي خياله الأبد؟
يا لامس الجرح ما الذي صنعت ... به شفاه رحيمة ويد؟
ملء فؤادي لظى وأعجبه ... أني بهذا اللهيب أبترد!
ومن شعره الوطني:
مر الغزاة بمصر وانتهو رمرا ... فأين بالله تيجان ودولات
كأن صخرة أقدار تحطمهم ... وما من القدر المحتوم إفلات
مروا ومصر على التاريخ باقية ... كأنما حولها للنور هالات
فاعجب لمنطق أذيال يقوم له ... محض من الزور شَّته الضلالات ومسرح في الليالي لا جديد به ... لكن يعاد عليه الذئب والشاة
ومن شعر طاهر أبي فاشا في قصيدة وطنية نظمها لدى عودة دولة النقراشي باشا من أمريكا بعد دفاعه المجيد عن قضية مصر في مجلس الأمن:
ألْق عن وجهها الغضوب النقابا ... لا تخاصم إلى الذئاب الذئابا
أمر الأمر فادَّرعهم شيُوخا ... عاقروا الصبر وادَّرعهم شبابا
وأدر لحنك الذي أيقظ الثو - رة واخمر في صهده الأعصابا
أمة تنشد السلام فما با - ل حمام السلام أمسى غرابا؟
والذي يطلب الحياة سلاما ... كالذي يطلب الحياة سرابا
ومن شعر غنيم في قصيدة (ثورة على الضارة).
ذرعتم الجو أشباراً وأميالا ... وجبتم البحر أعماقا وأطوالا
فهل نقصتم هموم الكون خردلة ... أو زدتمو في نعيم الكون مثقالا
يا طالما حدثتني النفس قائلة ... أنحن أسعد أم أجدادنا حالا؟
ومن قصيدة له في الكلب البوليسي (هول)
كلب ينم على الحناه ... تمشي العدالة في خطاه
إن قال أرهفت النيا - بة سمعها وصغى القضاه
قد بات يرعى الأمن (هو - لُ) وغيره يرعى الشياه
شيخَ الكلاب أخفت ذئ - ب الإنس لا ذئب الفلاه
وأنفت من صيد البزا - ة فصدت صياد البزاه
وسلبت كلب الكهف ما ... بيديه من عز وجاه
لم تقض في النوم الحيا - ة كما قضى فيها الحياة
إن طوقوك فطالما ... طوقت أعناق الطغاه
ومن قصيدة لحمام في (القمر)
ويا رقيبا على العشاق مؤتمنا ... السر عندك مكنون ومدخر
ويا رسولا من الماضي الرهيب إلى ... من كان يخشع للماضي ويدَّكر
ويا شهيداً على أعمالنا يقظا ... عدلا، ويا مقلة يرنو بها القدر يا من يعيش بأعمار مجددة ... وكل يوم يرى الأعمار تهتصر
يا قيصر اعراشه الدنيا وما وسعت ... وجنده الأنجم المضاءة الزهر
يا صورة من جمال الله مشرقة ... والشاعر الحق تسبى لبه الصور
إليك يا بدر عتباً كنت أكتمه ... فالآن يا بدر لا كتم ولا حذر
أتذكر الحرب إذ تارت جهنمها ... وطار منها على آفاقنا شرر
وكنت للخصم جاسوسا فكم نزلت ... على هدى نورك الغارات والغير
قد سخروك لشر ما خلقت له ... لا تأس يا بدر إني عنك أعتذر!
كم ليلة لحت فيها شاحبا أرقا ... كأنما شقك التطويف والسهر
أوضقت بالظلم يغشى الأرض قاطبة ... أأنت مثلي طريد الظلم يا قمر؟!
ومن شعر عبد المنعم إبراهيم في العروبة
الجود والحلم والأقدام والأدب ... شمائل علمتها للورى العرب
الصيد إن ركبوا والصفو إن طربوا ... والعفو إن غلبوا والنار إن غضبوا
السحر ما كتبوا والطهر ما شربوا ... والبحر ما وهبوا، والأمر ما رغبوا
هذه شواهد من أشعارهم، بل أزهار من رياضهم، وإن لهم ولإخوانهم لبدائع وروائع، زادهم الله اتقانا وإحسانا، وجعلهم للأدب والعروبة أسنادا وأركانا.
إبراهيم دسوقي أباظه