مجلة الرسالة/العدد 770/زواج تولستوي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 770/زواج تولستوي

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 04 - 1948



للأستاذ محمود الخفيف

(تتمة ما نشر في العددين السابقين)

وعادت الأسرة إلى موسكو فكان يزورها كل يوم، وما زال أهل الدار ما عدا صوفيا وتاتيانا يعتقدون أن الكونت يتجه بقلبه إلى ليزا. . .

وظل على هذه الحال أسبوعين بعد ذلك لا يقطع زيارته ولا يجمع عزمه على رأي؛ ولقد جاء في مذكراته في السابع من سبتمبر قوله (لقد بقيت يومين بالبيت أفكر على انفراد في أمري لا تدفع نفسك يا دوبلتسكي حيث الشباب والجمال والشعر والحب فإن لهذه أيها الشيخ من هم أصغر منك؛ إن موضعك في صومعة من صوامع العمل حيث تطلع من عزلتك في سرور وهدوء على سعادة الآخرين وحبهم. لقد عشت في هذه الصومعة وسأعود إليها) وأثبت بعد ذلك بيومين قوله (أي دوبلتسكي لا تحلم. . . لقد كتبت لها كتاباً لن أرسله، لم أستطيع أن أتم لمدة ثلاث ساعات؛ لقد حلمت وعذبت نفسي كما يفعل غلام في السادسة عشرة) وقال في اليوم التالي (إني أشعر بالحب أكثر من أي يوم سلف. . وإن الأمل لا يزال في أعماق نفسي يجب أن أحل هذه المعضلة. . . لقد بدأت أكره ليزا وإن كنت أرثى لها. . أعني يا إلهي وأرشدني. . إن أمامي ليلة طويلة فارغة أقضيها، ذلك يؤلمني أنا الذي طالما ضحكت من آلام المحبين! كم ذا رسمت من خطة كي أصرح لها ولتانيا ولكل امرئ ولكن عبثاً حاولت. . . لقد أخذت أزدري ليزا من كل قلبي).

كان مرد هذه الحيرة الشديدة إلى أنه يخشى ألا يكون ما يحسه نحوها حباً كما يكون الحب؛ كان يخاف من نفسه على حد تعبيره، ويزيده خوفاً أنه كلما تدسس إلى شعورها ليتبين ما إذا كانت بها عيوب وجد نفسه منجذباً إليها. .

وفي الثاني عشر من سبتمبر كتب في مذكراته (إنني أحب اليوم على صورة لم أكن أصدقها من قبل. . . لقد بلغ بي الجنون أني أخشى أن أقتل نفسي إذا ما لبثت على هذه الحال. لقد قضيت المساء عندهم؛ لقد بدت لي بهيجة، ولكنني دوبلتسكي القبيح يجب أن آخذ أهبتي وشيكا. لا أستطيع النكوص الآن، ولو أنني دوبلتسكي إلا أن الحب غيرني. لقد سنحت لي فرص ولكني لم أغتنمها. . منعني الخوف، ولكن كان على أن أتكلم في بساطة إني أحب أن أعود إليهم فأذكر كل شئ أمامهم جميعاً)

وفي اليوم التالي كتب يقول (لقد سطرت كتاباً سوف أرسله إليها في غد. . . قوَّني يا إلهي. . . ما أشد خوفي من أن أموت، فأن مثل هذه السعادة تبدو لي مستحيلة. رب أعنيّ وأرشدني)

وقال بعد ذلك بيوم (لم أنم إلا ساعة ونصف ساعة، ولكني على الرغم من ذلك منتعش جد مهتاج) وفي اليوم التالي كتب يقول (أخفقت لم أحدثها. ولكني قلت لها إن لدي شيئاً أحب أن أحدثها عنه)

وذهب تولستوي في مساء السادس عشر إلى آل بيرز وفي جيبه الكتاب الذي أعده والذي لبث في جيبه ثلاثة أيام، وألفى صوفيا جالسة إلى البيان، فجلس إلى جانبها، والانفعال ملء نفسه وبدنه، وأحست انفعاله فسرى إليها قدر عظيم منه فتشاغلت بدور كانت تلعبه قبل مجيئه. ودخلت تانيا فطلبت إليها أختها أن تغني تريد بذلك أن تخفي ما في الموقف من اضطراب. . .

وغنت تاتيانا في صوتها الرائق الحلو، وناداها تولستوي باسم مغنية كبيرة هي مدام فياردو إعجاباً بها، ثم قال لنفسه إذا ختمت تاتيانا لحنها خاتمة جيدة فسوف يعطي صوفيا ذلك الكتاب؛ وكانت تاتيانا موفقة كل التوفيق إذ ختمت لحنها، وانسحبت الشيطانة الصغيرة في لباقة، وقد أحست أنها اللحظة الحاسمة، وما كادت تغادر الحجرة حتى مدَّ تولستوي يده بالكتاب إلى صوفيا قائلاً إنه ينتظر ردها، وتناولته صوفيا بيد مرتجفة، وخرجت به فأسرعت إلى حجرتها وأوصدت الباب وراءها وجلست تقرأ. . (أي سوفيا. . أصبح الأمر لا يطاق؛ لقد ظللت أقول لنفسي طيلة ثلاثة أسابيع سأبوح لها الآن، ومع ذلك كنت أخرج كل مرة وفي نفسي مزيج من الحزن والأسف والرعب والسعادة! وكنت أنظر كل ليلة نظرة إلى الماضي فأسخط على نفسي أن لم أبح لك وأسأل نفسي ماذا عساي كنت أقول لو أني تكلمت. . . لقد ظننت أني أستطيع أن أحبكم جميعاً كما أحب الأطفال، وكنت في أفتسى لا زلت أستطيع أن أقطع ما بيني وبينكم وأعود إلى خلوتي، إلى عملي الذي يشغل وقتي كله. . ولكني الآن لا أستطيع شيئاً. أشعر أني أحدثت في بيتكم شيئاً من الاضطراب، وأن صداقتكم لي كما تصادقون رجلا شريفاً قد لحقتها بعض الشوائب، ولذلك لا أستطيع الانطلاق كما لا أستطيع البقاء. . وإني أحمل هذا الكتاب معي وسوف أقدمه إليك إذا لم أجد في نفسي من الشجاعة ما أبوح لك معه بكل شئ. . . وإني أعتقد أن أسرتك تنظر إليّ نظرة خاطئة إذ تحسب أني أحب أختك اليزابيث وليس هذا بحق، فإن قصتك لا تبرح عقلي قط، وذلك لأني بعد أن قرأتها أصبحت أعتقد أنه غير خليق بي، أنا دوبلتسكي أن أحلم بالسعادة، لقد كتبت لك ونحن في في إفتسي أقول إن شبابك ومرحك يذكراني في صورة قوية بتقدمي في السن وباستحالة السعادة عليَّ. . . ولكني حينذاك كنت أكذب على نفسي ولا زال هذا حالي؛ إنك فتاة أمينة صريحة، فدليني ويدك على قلبك دون أن تتعجلي_وإني أناشدك الله ألا تتعجلي_ماذا عسى أن أفعل؟ لو أنني علمت منذ شهر أني سوف ألقى مثل هذا الألم السار الذي عاينته طيلة هذا الشهر لضحكت حتى يقتلني الضحك. نبئيني بكل ما في نفسك من إخلاص: أتكونين زوجة لي؟ إذا كنت تستطيعين أن تقولي: نعم وان تقوليها من أعماق نفسك فقوليها، ولكن إذا كنت تحسين أدنى شك فقولي لا. . . نشدتك الله أن تفكري ملياً في الأمر، وإني لأمتلئ رعباً كلما فكرت في قولك لا، ولكني أوطن النفس على تحمل ذلك، وسوف أقوى على تحمله بيد أنه من الأمور المفجعة ألا تحبني من تكون لي زوجة بقدر ما أحبها

وسمعت سونيا دقات عنيفة على الباب، وصوتاً هو صوت أختها ليزا يناديها في إلحاح أن تفتح ففتحت فقالت أختها! ماذا كتب لك الكونت؟ نبئيني. ووقفت صوفيا جامدة والكتاب في يدها، فقالت ليزا صائحة أخبريني الساعة ماذا كتب لك الكونت فقال صوفيا في عبارة فرنسية: إنه طلب يدي؛ فأجهشت أختها قائلة: أرفضيه. . . أرفضيه من فورك!. .

ودخلت أمهما فعملت في لباقة على أن تبعد بين الأختين فتخرج بهما من هذا الموقف الكريه وكان الكونت إذ ذاك في الثوي ينتظر، والقلق ملء نفسه، ويداه خلف ظهره، وقد استند إلى الموقد وفي وجهه صفرة لم يعرف مثلها من قبلن وأرهف سمعه إلى وقع أقدام خفيفة، وإن قلبه ليثب بين ضلوعه ودخلت صوفيا فنظرت إليه قائلة: نعم. . . ثم ولت مدبرة.

وتقدمت ليزا فهنأت أختها، ثم مشت إلى الكونت فهنأنه وقبلته في كثير من الكرم والنبل؛ وجاءت الأم فهنأت صوفيا وفي نفسها من السرور بقدر ما فيها من الشفقة على ليزا.

وكان رب الدار قد مسته وعكة من قبل فتنذرع بها وتردد فلم يهنئ الكونت، ولم يبد ارتياحه لأنه كان يحب ليزا، وأظهر الطبيب الشيخ كثيراً من الرثاء لابنته، ولكن ليزا نفسها ما زالت تستحلفه والدموع في عينيها ألا يغضب أختها، حتى اطمأن فؤاده فذهب إلى تولستوي وصافحه مهنأ.

وتصادف أن كان اليوم التالي يوم ميلاد الأم، وكانت دار الطبيب بيرز ملأى بالضيوف فأعلنت الخطبة وأقبل الضيوف على العروسين مهنئين. . . وغابت ليزا عن الموائد متوارية من القوم، الأمر الذي تألم له قلب تولستوي على الرغم مما كان يفيض به من فرح، ولقد تحدث بهذا إلى عروسه، وهو الذي لا يحب منذ طفولته أن يؤلم أحداً. . .

محمود الخفيف