مجلة الرسالة/العدد 754/كيف حاولت أن أكون خطيبا

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 754/كيف حاولت أن أكون خطيبا

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 12 - 1947


ً

للأستاذ زهدي الشواف

إنها محاولة لا أذكرها الآن إلا ضحكت من نفسي. . . فلقد كانت نزوة من نزوات الشباب الطائش، وهفوة من هفوات العاطفة الجموح. . . وما أكثر ما تخطئ العاطفة، وما أكثر ما تزل المرء في مزالق السخف!. . ولقد قدر لنا أن نتحرر من ربقتها لبرئنا من الضحك من أنفسنا، ولترفعنا عن كثير من المهازل التي تتمثل على مسرح الحياة.

لقد عينتي وزارة المعارف معلماً في مدرسة ابتدائية فبادرت للعمل فرحاً، ولم أكد أدخل الصف حتى ألفيت نفسي بين حشد من الأطفال لا يحصيهم عد. . . لقد كانوا لحداثة عهدهم بالمدرسة أشبه بالمهارة الناشزة التي لم تروض على الركوب، وكانوا مزيجاً غريباً من طبقات اجتماعية مختلفة، متفاوتين فهما وخلقاً وإدراكاً.

وما أن رأوني مقبلاً عليهم حتى سكتوا لحظة، ثم راحوا يتطاولون بأعناقهم فينظرون إلي. وبعد هنيهة عادوا إلى حديثهم وعكفوا على لهوهم، كأني لم أحل بينهم أو كأنهم في ساحة البلد لا تجمعهم مدرسة ولا يهيمن عليهم نظام. ولقد فكرت في عصا ولكن التعاليم التربوية الحديثة تقول (إن الضرب ممنوع في المدارس. . .) نعم أن الضرب ممنوع لأنه ينافي التعاليم التربوية ولكن حشر مائة طالب في غرفة واحدة لا ينافيها!. هذا هو فهمنا للتعاليم!. . وهذا هو مدى تطبيقنا إياها!. . .

وقد حاولت تأمين النظام بكل ما أوتيت من حكمة ولكن جهودي كلها ذهبت عبثاً. وأنى لي أن أفلح والطلاب منصرفون عني. فهم بين جالس على مقعد، ومضطجع على حصير، وواقف خلف (درف) الشباك. . . إن المقاعد لم تكن لتسعهم كلهم. . . فما ذنبهم؟. . وما ذنبي؟. . .

لقد أتيت المدرسة مزوداً بالتعاليم الحديثة مشبعاً بالأفكار المثالية ولكن ما أسرع ما وجدت أن تلك التعاليم ظل لا حقيقة له، وأن هذه الأفكار بعيدة عن متناول اليد بعد السماء عن الأرض.

وانتصفت الساعة الأولى وأنا حائر في أمري لا أجد مخرجاً لي مما أنا فيه. فلما يئست من إصلاحهم ركنت للحيلة، وذكرت أني كنت رأيت قبيل مجيئي للمدرسة أناساً خطيب يتكلم بصوت جهوري، وذكرت أنهم كانوا يصغون إليه هادئين صامتين فأحببت أن أقلد هذا الخطيب لعلي أظفر بهدوء الطلاب وصمتهم. فصعدت المنبر وانطلقت أتكلم بصوت جهوري: (أيها الطلاب!. . .) ولم أكد أنبس بأول كلمة حتى صمتوا وتوجهوا إلي بأنظارهم وأفكارهم. . . يا للمعجزة!. . . لقد نجحت طريقتي على ما فيها من سخف!. . لقد عرفت لأول مرة أن النجاح في الحياة قد تقوم على السخف والتدجيل أكثر من يقوم على العبقرية. . . لقد توارت التعاليم التربوية أمام التعاليم السوقية، وتلاشت الأفكار المثالية أمام الأفكار الصحفية، واصطنع السخف ما لم يستطع العقل له صنعاً.

وراحت الكلمات تنبعث من فمي كالرعد والأطفال صامتون. وما أدري اصمتوا متأثرين ببلاغتي، أم سكتوا دهشين لرؤيتي أتكلم بكلام مستغلق لا معنى له. ومهما يكن في الأمر من شيء فقد أغراني هدوءهم فاسترسلت في الخطابة حتى نسيت أني في الصف وتملكني الحماس فرحت أقرع الطاولة بيدي. . . ويبدو أن صدى صوتي قد ملأ أرجاء المدرسة فبادر المعلمون لاستطلاع الخبر ولكنهم لم يجسروا على فتح الباب وإنما لبثوا خلفه يسترقون السمع.

ولقد أنصتوا وأنصتوا ولكن لم يفهموا شيئاً. وأني لهم أن يفهموا كلاماً مزج الأدب بالتربية، وخلط العلم بالفن، فأصبح لا تربط بين أجزائه رابطة، ولا تقوم بين عناصره علاقة. . . إني لم أترك كلمة احفظها (لوليم جيمس) إلا أتيت عليها. ولم أدع بيتاً أرويه للمتنبي إلا ذكرته. ولقد كان لقوانين الكيمياء والفيزياء النصيب الأوفى من محاضرتي فإني كنت لا أزال حديث العهد بها أحفظها عن ظهر قلب. . .

وبينا أنا عاكف على إغراق طلابي في بحار العلم والحكمة، رفع أحدهم إصبعه فما كان مني إلا أن صحت به (ما لك؟) فمال بإصبعه وبعينه نحو الباب. . . فالتفت. . . ويا لهول ما رأيت. ويا للخجل!. . إنهم المعلمون.

وماتت الكلمات على شفتي فجأة. . . لقد صحوت من النشوة التي كانت تعتادني. ونزلت من عالم الوهم إلى عالم الحقيقة المرة. . . يا إلهي أين كنت؟. . .

وبادرني أحد الزملاء قائلاً: (لقد انتهى الدرس) فأمرت الطلاب بالخروج من الصف ثم انضممت إلى المعلمين ولم أترك لهم مجال النقد وإنما رحت أوهمهم بأن ما قمت به إن هو إلا تطبيق لقاعدة تربوية مشهورة ابتدعها المربي الكبير (أوغست كونت) وما سمع زملائي الأكارم بهذا الاسم حتى شرعوا يثنون علي ويطرون طريقته هذه. . . وإني أعترف الآن أن الحظ ساعفني في تلك اللحظة فاستطعت أن أخرج من هذا المأزق الحرج ناصع الجبين، محاطاً بهالة من إعجاب الزملاء والطلاب. . . ولكنني خرجت من المدرسة ولم أعد إليها، وما زال معلموها - أحسن الله إليهم - يذكرون أسمي مقروناً بالثناء العطر، وما زال طلابها - وقد اصبحوا شباباً - يرون أني المثال الذي يقتدي به علماً وأدباً.

لقد خرجت من المدرسة ولم أعد إليها. ورمت بي الأيام مرامي شتى فغيرت من طبيعة عملي ولكنها لم تستطع أن تتطرق إلى فكرة بقيت كامنة في قرارة نفسي، تلك الفكرة هي: (أني خلقت خطيباً. . . فيجب أن أكون خطيباً. . .).

ومرت أيام وأيام أصبحت بعدها محامياً فوجدت أن الخطابة أصبحت من لوازم مهنتي ولقيت الفرصة مناسبة (لإظهار مواهبي ثم أدركني ما يدرك كل محام ناشئ في (حماه) ففكرت بأنني قد درست المحاماة لا لأكون محامياً فحسب، بل لأكون نائباً أدافع عن حقوق الشعب تحت قبة البرلمان.

وكيف لا أطمع في النيابة وقد رأيت جاري (أبا نادر) زعيماً يتصدر مجلس الحي ويبحث في قانون روسيا ويناقشه، ثم يحمل على أمريكا وينتقد دستورها وسياستها. (وأبو نادر) أمي يجهل حتى موقع روسيا على الخارطة، ولا عرف عن أمريكا إلا أنها البلد الذي كان يهاجر إليه السوريون لكسب الرزق. . . لقد قرنت نفسي (بأبي نادر) فوجدت أني أكثر منه أهلية وكفاية وأخذت أعد للزعامة عدتها فرحت أحترم الكبير وأعطف على الصغير وأحيي كل مار أصادفه في الطريق، وأغشي كل ندي وأزور كل سامر. . . إنها مهمة شاقة ولكنها الوسيلة الوحيدة للزعامة في هذا البلد.

وشعرت بحاجتي للخطابة، وعاودني الحنين إليها. وما إن خطبت مرة واحدة حتى أصبحت المجالس تشتاق لسماع صوتي. وأضحى القوم يشيرون إلي بالبنان ويعدونني مجاهداً. . . وما أعظم هذا اللقب!. . وما أرخصه في هذا البلد!. . إني - شهد الله - لم أحمل عصا ولم لأرم حجراً، ولكنه لقب ساقه إلى القدر كما ساقه لغيري، فلن لا أفيد منه، ولم لا أنتفع ببركاته. إن خطبة واحدة جعلتني مجاهداً، فكيف بي لو خطبت كثيراً. . . إني سأكون في عداد الزعماء الخالدين. . .

إن الكلام رأس مال الزعماء، فلم لا أكون من أهل الكلام؟ هذه حقيقة أيقنت بها فأحببت أن أروض نفسي على الخطابة ورحت أفتش عن مكان خال من الناس، ناء عن المدينة فلم أجد خيراً من قبة (البرناوي) القائمة على مسافة كيلو متر من شمالي حماه الغربي، على سفح منحدر ينتهي بطريق ضيقة تؤدي إلى البساتين النائمة في أحضان (العاصي).

وهناك كنت أقضي الآصال هانئاً بالوحدة، ناعماً بمنظر الخضرة والماء. . وكنت أخطب فأطيل ولا أمل؛ ويتملكني الحماس فأرغي وأزبد، ولا أجد من يسمع صوتي غير البقرات العائدات من البساتين، وقد رحن يمشين مشياً وئيداً في الطريق الضيقة في أسفل المنحدر وخلفهن بعض القرويين التعساء. . . وكن إذا ما مررن من أمامي بعيداً عني وسمعن صوتي يقفن قليلاً ويملن بعنقهن نحوي ثم يهززن رءوسهن وبعدن لسيرهن فيخيل إلي أنهن يقلن لي: (إذا أصبحت نائباً فأرخص لنا الشعير. . .) فأجيبهن: (نعم سأرخص لكن الشعير أيتها البقرات العزيزات!. . .)

وقد ملكت الخطابة نفسي فأصبحت وكلامي كله يكاد يكون خطابة. . واتفق أن رجعت ذات مساء إلى البيت ودخلت غرفتي وأغلقت الباب وشرعت أخطب. . وما هي إلا لحظات حتى انفتح الباب ودخلت أمي والدموع تملأ عينها: (سلم الله عقلك!. . ماذا أصابك يا بني!.) فلزمت الصمت ولم أحر جواباً. ولكنها أردفت قائلة: (أتريد أن تكون كجارنا أبي رشيد. . .) وخيم الصمت علينا ثم انسحبت من الغرفة وأغلقت وراءها الباب. ولم أكد أخلوا إلى نفسي حتى فكرت فيما قالته أمي. . وأصغيت قليلاً فإذا بصوت جارنا (أبي رشيد) يخترق الظلام ويطرق سمعي.

مسكين أبو رشيد!. . لقد مر عليه شهران والأغلال تلازم يديه والقيود تثقل رجليه. . إنهم يقولون أن به مصاً من الجنون. إنه لم يؤذ جاراً ولم يضر إنساناً ولكن أبناءه بصروا به يخطب في الشوارع والأسواق فاقتادوه إلى بيته وحبسوه في غرفته. . . لقد بح صوته وهو يقول أن ليس به مجنون. ولكن ما من سامع! واختنق وهو يدعو للأخلاق القويمة. . ولكن ما من يطيع!. وهذا صوته يصل إلى أذني ضئيلاً وهو ينادي:_أيها القوم! الدين لله والوطن للجميع!. أن بناء الوطن لا يقوم على الطين والأحجار ولكن على المهج والأكباد.

المصلحة العامة رائدنا ونجاح الأمة غايتنا. .).

ما أعذب هذه الكلمات!. لقد طالما سمعتها تتردد في كل مكان وعلى كل شفة، يا للعجب:. . هذه الكلمات التي رفعت أناساً إلى مصاف الزعماء والقادة تنحدر بأبي رشيد إلى ظلام غرفته ووحشتها. . . ورحت أفكر طويلاً في أمر أبي رشيد!. . مسكين أبو رشيد!. . لقد حكمت عليه الهيئة الاجتماعية بالجنون ولا ذنب له غير الدعوة إلى الأخلاق القويمة. . ومن يعلم؟. لعل بين جنبي أبي رشيد نفساً أجدر بالزعامة من كثير من النفوس التي تتبوأ عرش الزعامة، ولكن الهيئة الاجتماعية حكمت عليه بالجنون فكان مجنوناً. لقد كانت مقاييس الجنون طبية بحتة، ولكن المجتمع جعلها اجتماعية بحتة فخلق من الحمقى قادة، وجعل من العقلاء مجانين.

وكان الليل قد انتصف فاضطجعت في فراشي وصورة (أبي رشيد) لا تبارح خيالي، وصوته لا ينفك بطرق مسمعي ضئيلاً ضعيفاً. ونمت وقد عولت على ترك الخطابة. . ونمت وقد شيعت كل آمالي وأحلامي. .

وما أشرقت شمس النهار حتى كنت أنهض من فراشي. . . وما مالت الشمس للغروب حتى كنت أدرج إلى (البناوي) لأنقع غليلي بالخطابة. . . لقد سلوت أبا رشيد، ونسيت العظة البالغة التي حملها إلى صوته في الليل البارحة. . . لقد مضت تلك العظة مع الليل وما كان الإنسان أن يتعظ بما فات. .

ووقفت على المنحدر كسابق عهدي أرسل الجمل المتتالية، والكلمات متداخلة حتى شعرت أن الأرض تهتز من وقع كلامي ورأيت أن الأشجار تتمايل في أقصى البستان من هول خطابي. ولقد تملكني الحماس فرحت أكثر من الإشارات. ونشأت أضرب الأرض برجلي. وفجأة شعرت بيد قوية تضغط على كتفي والتفت فإذا بمسدسين مصوبين إلى رأسي، وإذا أنا أنام أمام أثنين من رجال الشرطة الأشداء يتقدمان إلي ويحاولان إلقاء القبض علي ولقد سدت المفاجأة علي منافذ التفكير فلم أعد أدري ما أصنع، وهمت بالابتعاد عن الشرطيين ولكنهما صاحا بصوت واحد.

- حذار أن تتحرك وإلا قتلناك!. .

- وعلام ذلك. وما هذه المعاملة الشاذة!. احترموا الناس أنا محام. . أنا أستاذ. . أنا. .

- محام. . أستاذ. . هذا ما يخيله لك الجنون!. .

- الجنون. . .

- أخرس وإلا قتلناك!. . .

ولما أبصرت الجد في كلامهما، ورأيت أن من العبث مناقشتهما لزمت الصمت وأنقدت إليهما فضربا على يدي بالوثاق ورحنا نحث الخطى إلى مخفر (الحسنين).

ودخلنا المخفر مع الليل، ولم نتخط القبة حتى كنا أمام المأمور (القومسير) ولقد كان هذا يعرفني معرفة تامة فلك يكد يراني حتى انتصب واقفاً ونظر إلى رجاله مشدوهاً، وقلب يديه مستفهماً عن السر في القبض علي. فأجابه أحد رجاله:

- إنه يدعي أنه محام. . . وأنه أستاذ. . .

- من يكون إذاً؟. . .

- إنه المجنون الذي أرسلتنا بطلب، المجنون الذي روع المارة في سفح البرناوي هذا الصباح بما كان يلقيه عليهم من حجارة.

تألم (القومسير) لهذه الكلمات وارتسم الألم على محياه. ثم أسرع إلى الوثاق فحله وراح يستعذر إلى عن فعل رجاله، والتفت إليهما يؤنبهما. . وما ينفع الاعتذار!. وما يجدي التأنيب!. لقد كان ما كان وشدت يداي بالوثاق، وأخذت كما يؤخذ المجرمون والمجانين. . . لقد خرجت من المخفر وأنا لا أعي ما أصنع. . . لقد كانت الصدمة أليمة أنستني الخطابة، وزهدتني في النيابة. ولم يدر أحد بما أصابني فقد كتم رجال الشرطة - على غير أمتهم - الأمر ولقد كانت الطريق التي جزناها من البرناوي إلى المخفر مقفرة من المارة. . وأني لا أزال أحمد الله كثيراً على أن الخبر لم ينتشر وإلا رغب الطامحون عن الخطابة كما رغبت، وزهد المغرمون بالنيابة كما زهدت، ولأمست حماه لا تسمع لخطيب صوتاً ولا ترى لنائب وجهاً.

حماه (سوريا)

زهدي الشواف