مجلة الرسالة/العدد 754/طرائف من العصر المملوكي:
مجلة الرسالة/العدد 754/طرائف من العصر المملوكي:
2 - ابن الوردي والخمول
للأستاذ محمود رزق سليم
لست أدري أيصبح (الخمول) مبدأ فلسفياً يعتنقه بعض الناس في هذه الحياة، ويستشعر من وراء اعتناقه سعادة وراحة ورضا. . وهل في مكنة امرئ أن يدفع نفسه دفعاً في زاوية من الخمول يقبع فيها قانع النفس راضي البال قرير العين بخموله. . . أم أن المرء بظروفه وبيئته، وبدرجة ذكائه وحظه من المعرفة، قد يؤتي نصيباً من الشهرة والصيت، وقد يحرم. يؤتي هذا النصيب قسراً عنه، ويحرمه قسراً عنه كذلك. وصحيح أن المرء بجده وكده واجتهاده وجلادة يكون عاملاً من أهم العوامل في شهرة نفسه، وفي إيتائها نصيباً من الصيت والحظ الحسن. ولكن مما لا شك فيه أن عوامل أخرى خارجة عن إرادته، ذات صلة وثيقة بإيجاد هذه الشهرة، وخلق ذلك الصيت والحظ. قد تكون هذه العوامل معينة للمرء تأتي إليه طائعة مختارة وفق ما يهوي ويشتهي، فيصل بها إلى ما يرجو من الشهرة، في سهولة ويسر. وقد تكون معوقة له واقفة في سبيله حجر عثرة، قاسية عاصية فلا يصل إلى ما يرجو إلا بعد لأي وشدة. وقد لا يصل. والدنيا ذات عجائب، فكثيراً ما تسوق الشهرة إلى من يستحقها، وتضفي عليه ذيول النعمة، ثم تنحيها عن رجل هو أهل لها، وتحرمه أسباب الرضا. وقديماً قال الشاعر.
متى أرت الدنيا نباهة خامل ... فلا ترتقب إلا خمول نبيه
وبدهي أن المرء الذي من حقه أن تنبه الدنيا شأنه، ليس أمراً عادياً، بل قد أوتي من الذكاء وخصوبة الذهن، ورزق من المعرفة وسعة التفكير، والقدرة على الإنتاج، حظاً واسعاً جديراً بأن يجعل منه رجلاً مشهوراً من حقه أن تسعى إليه الدنيا، وأن تنبه شأنه. ودون شك، هو يرى نفسه جديراً بهذا السعي والنباهة. فإن أوتي منهما حظاً سعد به. وإن حرم، فإما أن يجدد جهاده وجلاده، حتى يصل ما تصبوا إليه نفسه. وإما أن ييئس ويستنيم إلى الخمول، ويتخذ منه مبدأ فلسفياً، ومعتنقاً بعيش به، ويتسلى باعتناقه، ويجد لذة في الائتناس به، تعوضه عما فقده من شهرة، وعما حرمه من نعمة الصيت، وعما فاته من مباهج الحياة. ولكنني - كما ذكرت - لست أدري تماماً هل يجد الخامل - أو المتخامل - لذة خموله - أو تخامله - ويستشعر من ورائه سعادة وراحة ورضا.؟ أم هي سعادة اليائس وراحة القانط.؟ وكم من سعادة في اليأس، وكم من راحة في القنوط. .
ثم أيستطيع هذا الخامل - وقد وهب له الله عوامل النباهة مركبة في طوايا نفسه - أن يستنيم طويلاً إلى بأسه، ويسكن زماناً إلى خموله، والدنيا من حوله تتحرك ويسير ركبها. . . وأنداده فيها يصلون إلى منازل دونها منزلته، ويسمون إلى مكانات من تحتها مكانته، وتسعى إليهم الدنيا أكثر مما سعت إليه، مع أنه يشآهم علماً وفقهاً وأدباً، ويسبقهم ذكاء وحيلة.
وهل هذا خمول الذي يدفع نفسه بيت أحضانه دفعاً، يحلو له ويروقه على الدوام، أم أنه نوبة من نوبات يأسه، ومضاعفة من مضاعفات قنوطة، عما قليل يفيق منها ثم يعود إلى سيرته الأولى من الكفاح والجلاد والدأب في طلب الشهرة، والجد في سبيل نعيم الدنيا. .
على أنني أكاد أعتقد أن المرء الذي من حقه أن تنبه الدنيا شأنه، ولكنها حرمته النباهة، فدس نفسه بين أحضان الخمول دساً، إنما ابتغى من وراء ذلك الخمول ضرباً جديداً من نباهة الشأن. وما ذلك منه إلا الحيلة الأخيرة لليائس القانط. الحيلة الأخيرة يجربها، فيدعي الخمول، ويتخذه وسيلة إلى الشهرة. . ويمقت الدنيا لكي تسعى إليه، ويتجمع عن الناس لكي يتساءلوا عنه. .
هذه كلها ضروب من المعاني تنتاب ذهن الإنسان عندما يقرأ طوائف من شعر ابن الوردي.
زين الدين ابن الوردي - عمر بن مظفر - من أنبع شعراء النصف الأول من القرن الثامن الهجري. وقد توفي عام 947 هـ وقد نشا في مدينة حلب، وكانت إحدى نيابات المملكة المصرية حينذاك. وقد أوتي ابن الوردي نصيباً محموداً من الذكاء وحضور البديهة وسعة العلم. فقد كان أدبياً كاتباً شاعراً فقيهاً. درس فقه الشافعي فبرع فيه وبذ إخوانه وأصبح من علماء هذا المذهب الأعلام، حتى أنه اختير للنيابة في الحكم - أي قاضياً في الأقاليم - ينوب عن قاضي قضاة الشافعية، وكان كفئاً في منصبه.
ومال منذ حداثة سنه إلى الأدب، فكتب وأنشأ، ودبج الرسائل والإجازات العلمية والمقامات والمفاخرات. وقرض الشعر وافتن فيه، ونظم في أبواب منه شتى، منها: الغزل والفخر والحماسة والمدح والهجاء والنقد والوصف والشكوى والزهد والاعتذار والإخوانيات والفكاهة والنصيحة والحكمة ونظم في النصيحة والحكمة والنقد قصيدته اللامية المشهورة ذات الأبيات والأمثال السائرة. ونهج في أسلوبه نهج شعراء عصره من الإغراق في البديع وبخاصة التورية والتضمين والاقتباس، مع رصانة وانسجام وقلة تكلف.
ولم يقتصر اهتمامه بالأدب على النثر والشعر، بل نظم في العلوم وله في ذلك (نظم البهجة الوردية) في أكثر من خمسة آلاف بيت، وهي في الفقه. وضرب في الشعر العامي بسهم، ونظم المواليا والدوبيت.
وفوق ما تقدم برع في النحو حتى أصبح فيه حجة، وألف فيه مؤلفات نافعة. وله في التاريخ كتاب (تتمة المختصر) وهو تذبيل على مختصر أبي الفداء. وله في التقويم كتاب (خريدة العجائب).
وقد طوف ابن الوردي في آفاق عدة من الديار الشامية، وربما وفد على مصر. وذلك سعياً وراء الرزق، وطلباً للعلم. فاستفاد من العلم شيئاً كثيراً، وإن كان لم يستفد من الرزق ما يريد.
وقد انعقدت في خلال ذلك أواصر المحبة والمودة بينه وبين كثير من أفذاذ عصره - وقد كان جيله غاصاً بهم - ومنهم أبناء فضل الله العمري وزراء البلاد الشامية وكتاب سرها. وجمال الدين بن نباته الشاعر المصري. وشهاب الدين بن المرحل النحوي المصري. وعلا الدين بن أيبك الأديب الدمشقي. والقاضي بدر الدين بن الخشاب المصري، والقاضي شمس الدين محمد بن النقيب، والقاضي كمال الدين بن الزملكاني، والمجتهد الفقيه ابن تيمية الحرائي. وغيرهم.
وكان ابن الوردي يجادل كلاً من هؤلاء، أو يقارضه الشعر، مجادلة الند للند، ومقارضة الصديق للصديق. وهكذا راسل وساجل. وربما كان من بينهم من هو أرفع منه منزلة وأعز جاهاً وأوسع مالاً، ولكن وشيجة الأدب والعلم كانت أقرب الوشائج بينهم وأسماها.
نحن لا نحاول هنا أن نترجم ترجمة وافية لابن الوردي. بل ولا نحاول أن نتحدث عن شعره حديثاً كاملاً. وكل ما نرمي إله في هذه الموجزة أن نتحدث عن خمول ابن الوردي. فكان لا بد لنا من أن ننوه بمزاياه وبمنزلته بين العلماء والأدباء، ليحق لنا أن نتساءل بعد ذلك: (هل كان ابن الوردي خاملاً)؟. . والخامل في نظرنا رجل قليل الحيلة ضيق العطن قريب غور الذكاء. ولم يكن ابن الوردي كذلك. فقد قال:
أحسن مدارة الورى ... يعد عليك نفعها
كم من يد قبلتها ... كان بودي قطعها
لم يكن ابن الوردي قليل الحيلة، ولا كان خاملاً - كما رأينا - ولنه مع ذلك، اعتنق الخمول وأتخذه عقيدة له ومبدأ. فقمت الدنيا وذم أهلها، وأنجمع عن الناس وابتعد عن مجالسهم، وطلق المناصب وحمل على الساعين إليها. وكل هذا في مرارة لديه ولوعة. قال:
أتهزأ بي لما أجد وتلعب ... وتعجب من حالي وحالك أعجب
ألا طالما قد كنت مثلك ساعياً ... لجاه ومال جاهداً أتطلب
وطال اجتنابي للخمول فذقته ... فطاب فأحببت الذي أتجنب
وما العيش إلا في الخمول مع الغني ... فشكراً لمن في فضله أتقلب
رضيت كساوي واستخرت بطالتي ... وقلبي مسرور وعيشي طيب
وما ذاك من مال جزيل وإنما ... كفاني كفاف والقناعة تغلب
ولو ذقتم طيب القناعة متم ... عليها ولكن بدرها تهيب
تركت لكم عز القضاء وجاهه ... وأبعدت عنه خائفاً أترقب
فقوموا على ساقي حديد وشمروا ... لنيل علاء واهجروا النوم واطلبوا
وميلوا وجوروا واحكموا وتخولوا ... وصولوا وطولوا وانبذوا الزهد وانبهوا
ستعلم نفس أي حمل تحملت ... ليوم أسى من هوله الطفل أشيب
لقد نلت من كنز القناعة بغيتي ... وجانبت حرصي والحريص معذب
وعفت بني الدنيا وغادرت برهم ... لغيري فلا أشكو ولا أتعتب
(يتبع)
محمود رزق سليم
مدرس بكلية اللغة العربية