مجلة الرسالة/العدد 753/وطن الأحرار في سوق العبيد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 753/وطن الأحرار في سوق العبيد

مجلة الرسالة - العدد 753
وطن الأحرار في سوق العبيد
ملاحظات: بتاريخ: 08 - 12 - 1947



للأستاذ توفيق محمد الشاوي

وقعت الواقعة، وحدث المستحيل: اتفقت روسيا مع أمريكا، لا على صيانة سلم العالم وأمنه من خط المنافسة بينهما وتوسيع كل منهما لنفوذه على حساب استقلال الأمم الصغيرة، ولكن على تقسيم (فلسطين). وكأن كلا من هذين العملاقين قد شعر بأن فلسطين الصغيرة، العربية الأبية، لن تخضع له منفرداً، فآثر أن يتفقا معاً تجاوزاً عن خصومتهما التي ملأت أسبابها كل بقعة على ظهر الأرض بدلا من الاعتراف بالعجز والتراجع أمام الإباء العربي والمقاومة الإسلامية. فإن كان في ذلك معجزة فليس بغريب أن تأتي فلسطين بالمعجزات، وإذا كانت فلسطين الصغيرة قد حققت تلك المعجزة بفضل تضامن العروبة معها؛ وهي بعد لم تبدأ المقاومة العملية والتجربة الدموية التي تتأهب لها، فإن العالم سيشهد قريباً لبطولتها جهادها بالمعجزة الأخرى؛ هي أن تنتصر إرادة هذا الشعب العربي الصغير الأبي على خطط الصهيونية وحليفيها العملاقين مجتمعين. وإذا كتبت فلسطين صحائف جهادها بدماء أبطالها، وسجلت العروبة تضامنها بنجدة شبابها، فإن قوى الأرض مجتمعة لن تنال من وجودها واستقلالها، ولو اتفق على ذلك الروس والأمريكان.

إيه يا فلسطين لا تيئسي ولا تترددي، ولا يقولن دعاة الذلة والاستكانة ماذا نفعل أما جحافل الشرق الروسي والغرب الأمريكي، وأين لنا بالقوة التي تحبط بها إرادة (الأمم المتحدة) فما تلك إلا حجة لجبان يبخل بدمه على مواطن الشهادة، وبراحته على متاعب الجهاد. أما سليل البطولة ومن تجري في دمه عزة العروبة فإنه يعلم أن هذا (الاتفاق) بين أنصار الباطل إنما هو وهم وتضليل يقصد به إرهابك وإضعاف عزيمتك، أملاً في أن ينصرف شعبك عن المقاومة ويرغب في الاستكانة. فإذا أنت تشبثت بعروبتك وصممت على الجهاد في سبيل استقلالك فستنهار كل هذه (الاتفاقات) وتتحطم هذه المؤامرات في ميدان العمل ولعمري إنه ليس بغريب أن اتفق الروس والأمريكان هذه المرة؛ فمن ذا الذي لا يتفق على اقتسام شعب لا يقاوم؟ ومن ذا الذي لا يتفق حتى مع عدوه على اقتسام غنيمة باردة، ما دام يظن أنها لن تكلفه شيئاً؟ ولكن مثل هذه الاتفاقات الرخيصة ستذوب وتتلاشى، وسترين أن دماء أبنائك كفيلة بمحوها متى أيقن العالم أن إرادتك قوية وأنك عازمة على حقك بالدماء.

إيه يا فلسطين، أيتها العربية الأبية، إن هذا الاتفاق الذي يعلنه الصهيونيون نصراً لهم، سيعمل دعاتهم ما استطاعوا ليوقعوا في روع شعبك الباسل أن الأمر قد قضي ولا سبيل إلى المقاومة؛ والحقيقة أنك قد ارتفعتِ بهذا الأمر وشرّفت به، وإن كل أمريكي من المائة مليون الذين يسكنون الولايات المتحدة ليعلم اليوم أن بلاده قد أقدمت على تضحية كبرى باتفاقها مع الروس هذا الاتفاق، وهو يعرف لماذا أقدمت بلاده على هذه (التضحية) إنه يوقن أنها فعلت ذلك اعتقاداً منها أن ذلك سيجنبها عبء الاصطدام بالمقومة العربية التي لا تريد مواجهتها وقد أوهمها سماسرة الصهيونية أن هناك شيئاً واحداً يجنبها هـ1االصدام، وهو أن يصدر قرار قانوني من (الأمم المتحدة) ولابد لذلك من رضاء روسيا، فلتحصل عليه بأي ثمن. فانظري يا فلسطين الصغيرة أي ثمن تدفع أمريكا لتتفادى مواجهة مقاومتك وحدها وهل تظنين أن أمريكا كانت تقبل أن تنتظر موافقة روسيا لتفعل شيئاً لو كانت استطاعت أن تفعله وحدها؟ فما بالك إذا أصبحت مقاومتك حقيقة واقعة، وأرادت روسيا أن تطالب بنصيبها في (العمل) مستعينة في ذلك بسلاحها التقليدي (الفيتو)؟ قسما إن أمريكا تفضل حينذاك أن تهدم (الأمم المتحدة) بدلاً من قبول ذلك. . .

إيه يا فلسطين العزيزة، إنك ستحققين هذه المعجزة، وإن أبناء العروبة ليتحفزون للتضحية رهن إشارتك، ويدفعهم إيمانهم بالمثل العليا والمبادئ السامية التي سيكافحون من أجلها، غير عابئين بدعاة الذلة واليأس، الذين يتخذون من (الواقع) حجة لبذر أسباب الجزع والاستكانة، وإن لهم شياطين تعلمهم وتغذيهم بمنطق خادع مضلل، إنهم ليقولون: كيف تطلبون الإنصاف من عالم لا يعرف الإنصاف، وتنتظرون العدل من دول لم تؤسس إلا على الظلم، وبماذا تتسلحون؟ بقوة الروح وعزة النفس في ميدان لا يعرف إلا عدة الحرب وقوة السلاح. والواقع شهيد بذلك، فالأمم الصغيرة تباع اليوم في أسواق السياسة بيع الرقيق، وتعرض في مؤتمرات الاستعمار ظاهرها وخفيها عرض السلع. لقد قام مقام الرق الفردي رق جماعي هو الاستعمار بطل صوره من حماية أو وصاية أو انتداب، هو الرق الأوربي الذي ابتدعه شياطين السياسة ليتحكموا به في رقاب الأمم والشعوب. ألا ترون أوطانكم التي بيعت في هذه (الأسواق) السياسية واحداً بعد الآخر؟ وما (الأمم المتحدة) إلا سوق جديد من أسواق الرقيق، فإذا استطاع الذهب الصهيوني والنفوذ الأمريكي أن يتما الصفقة، وأن يملك اليهود فلسطين كلها أو بعضها، فقد ضاع الحق ولا سبيل إلى استنقاذه، وتأيد الظلم، وما هو بجديد. . .

ألا وإننا نرى الواقع ولكن بغير عين الجبناء الأذلاء. ونعلم منه ما هو أشد إيلاماً وأبلغ بياناً، نذكر أن الذين باعوا فلسطين، والذين يساومون على برقة وطرابلس لم يدخلوها فاتحين وإنما دخلوها حلفاء لأهلها، أصدقاء لشعوبها، بذلوا لهم الوعود وقدموا لهم العهود والمواثيق، فاطمأنوا إليهم وأمنوا لهم، حتى إذا انتهت الأزمة، وزالت عنهم الحرب، نقضوا العهود وتناسوا الميثاق، وباعوا إخوانهم في السلاح وأعوانهم في الكفاح، لا بيع غالب لمغلوب، ولا قاهر لمقهور، ولكنه بيع الصديق للصديق، وغدر الرفيق بالرفيق ووضع القيد في يد الحليف دون العدو. بلك والله الكبيرة التي لا يأتيها الوحش في الغابة ولا يجيزها حتى قانون الذئاب المفترسة، ولكن يأتيها الأوربي المتمدن ويعاملنا بها الإنجليز الحلفاء. . .

فما هي القوة إذن، ولكنها الخيانة والغدر، وإذا باع الحليف حليفه، واسترق الرفيق رفيقه، فإنما يبيع أولا شرفه وكرامته، ويخلع عن نفسه آدميته. فإذا وُجد في القرن العشرين دول تقوم على هذه الخطة وتثرى من هذه التجارة، فهو انحطاط جديد في الإنسانية قد أصيب به الأقوياء الذين يرضون أن ينزلوا بنفوسهم إلى أحط درجات الإنسانية، وأصبحوا هم أنفسهم عبيداً لأطماعهم وشهواتهم، ولا يغير من هذه الحطة وتلك الذلة التي يمارسونها أن كانوا في يوم من الأيام أقوياء، وأن تمكنوا بسبب هذه القوة من احتراف ذلك النوع الجديد من (النخاسة) والاتجار بالأحرار، وإذا كان الرق قد ألغى إلى غير رجعة، وعلت إرادة الإنسان أن تخضع لسيد مهما يكن، فإن أشد البلاء أن تصيب النكسة قوماً كانوا أول من دعا لإلغائه، ولابد لهم أن يفسروا لنا قيام هذه الأسواق الاستعمارية التي يمارسونها، وأن يقروا معنا أن العبودية وقد انتفت عن الأمم جميعها، متى أرادت ذلك وصممت عليه، فإن وصمتها تمكن أن تلقى على عصابة النخاسين الذين يمارسون حرفة قد أبطلتها الإنسانية ومبادئها السامية.

أيها الأحرار لم يعد بينكم وبين الحرية إلا عزيمتكم وإرادتكم وما العزيمة إلا البذل والتضحية والاستشهاد. لن يضيركم تلك الصكوك الزائفة الباطلة التي يعدها سماسرة (الأمم المتحدة) متى أعلنتم إرادتكم وقوتكم، وستحول دماؤكم هذه الصكوك إلى قصاصات حقيرة وتضعون حداً لهذه المهزلة التي تمثل على مسرح (ليك سكسس) والتي يراد بها بيع وطنكم فلسطين، بيع الرقيق، فإن العالم لم يعد يقر بعد اليوم أن يباع وطن الأحرار في سوق العبيد.

توفيق محمد الشاوي

مدرس بكلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول