مجلة الرسالة/العدد 753/بعد قرار التقسيم:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 753/بعد قرار التقسيم:

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 12 - 1947



القول للسيف ليس القول للقلم!

الأستاذ علي الطنطاوي

لو كان للكلام الآن مكان لقلنا فبذذنا القائلين، ولبعثناها في الأرض

مقالات تشتعل ح خفها ناراً وتتفجر كلماتها قنابل، ويكون منها براكين

تنفث الحمم ونحن (العربَ) أقرت لنا الدنيا بأنا ملوك المقال، وألسنة

البيان، كما أقرت لنا أننا أرباب الفعال، وأبطال الميدان، ولكن عهد

الكلام قد انقضى، وستسمع الدنيا غداً عنا، كما سمعت منا، أحاديث

تشيب النواصي، وتحرق فؤاد العدو، وتحير من هولها ذوي الأحلام،

وسترى الدنيا أن الذي نهدد به القوة التي خبأها الدهر في أعصابنا،

والتي صنعها لنا ميراث آباء صدق، في عشرة آلاف معركة مظفرة

خاضوها، ومائة ألف قاعة منيعة اقتحموها، وألف ألف روح طاهرة،

في سبيل الله والحق أزهقوها - حقائق، ليست خطابيات تسود بها

الصحف، ويتسلى بها القراء.

ولئن أخذت الأيام السلاح والمال منا، فوضعتهما في أيدي عدونا، فما أخذت منا إيماننا ولا مضاءنا، ولا سلبتنا عزتنا ولا نبلنا، ولا بدلت جوهرنا، ولا جعلت عدونا مثلنا، لأن الجبان الشاكي السلاح، لا يغدو بالسلاح بطلا، والبغل المحلّى سرجه بالدر لا يصير بالدر جواداً. . . والأمم الواغلة على المدنية، العابثة بالمبادئ الإنسانية، المتخذة العلم ذريعة إلى التدمير، والفن وسيلة إلى الفساد، ليست مصل الأمة التي حملت وحدها أمانة المدنية دهراً طويلا، فما عرفت يد آمن عليها، وأنفع لها، من يدها: أخذت المندل فنقّت روضة الحضارة من الأشواك، ثم مهدتها وحرثتها وشقت لها الجداول، وأقامت لها السدود، وسعتها الماء عذباً نقياً، حتى إذا بسقت أدواحها، وامتدت ظلالها، وملأ الِجواء ريَّا زهرها، وانتشى الن بخمرة عطرها، وارتووا بعصير ثمرها، وعاشوا بوافر خيرها، سلمناها إلى هؤلاء. . . المتمدينين. . . ليحفظوها للأجيال الآتية، فلم يكن منهم إلا أن رموا عليها قنبلة ذرية. . .

وماذا تصنع القنبلة الذرية؟ إنها تميت ولكنها لا تحيي، فهل عندهم قنبلة أخرى تحيي هذه الحكومة اليهودية التي ماتت من ألفين وخمسمائة سنة، وتعيد إليها الروح، وإذا هم استطاعوا اليوم إقامتها وتسنيدها بالأخشاب حتى تبدو كأنها حية، ولن يستطيعوا، فهل يبقون معها دائماً يحمونها أن يبتلعها هذا اللج العربي الذي يحيط بها، أو تهدمها موجة عاتية من موجاته، فتأتي عليها من القواعد؟. . . أفلم يفكروا في هذا؟

أنا أسمع من زمان أن السياسة لا أخلاق لها، ولكني لم أعلم قبل اليوم أنها لا عقل فيها. . . ولا حياء!

أفلا يستحي هؤلاء (المحترمون) أعضاء هيئة الأمم المتحدة أن ينكروا بالأمس على هتلر أنه سلب حقوق اليهود فأعطاها الألمان، وأنه أراد العلو في الأرض بغير الحق، وأن يثوّروا عليه الدنيا، دفاعاً عن الحق وعن الديمقراطية، ثم يجيئوا اليوم فيفعلوا ما لم يفعله هتلر، ولا موسوليني. وما أدافع عن الملعون موسوليني، ولكن أقول إنه كان كالذئب يقتل الخروف ليأكله ويتغذى به، لذلك عدا (لا رحمه الله) على طرابلس، أما هؤلاء فيعتدون ليغذوا غيرهم، ويبيعون دينهم بدنيا سواهم!

أو لا يعقلون أيضاً؟! ولا يخطر على بالهم أنه ربما نشأ هتلر آخر، يكون اسمه ستالين مثلا، وربما احتاجوا أن يثيروا الناس عليه مرة ثانية باسم الحق والإنسانية وميثاق الأطلنطي. . . فهل يجدون في الأرض مغفلا واحداً يصدقهم، بعد الذي رأى منهم؟

أو لا يعتبرون بما انتهى إليه هتلر، ومن قبل هتلر نابليون، ومن قبلهما كسرى وقيصر، وكل طاغية جبار؟ فهل دامت الدنيا على أحد حتى تدوم لهم؟ أهم أشد سلطاناً في الأرض من الإسكندر، وتيمورلنك؟ لقد كان الاسكندر، وكان تيمور بطلين ليس أمامهما كفوٌ لهما، وهؤلاء مهما قويت كل دولة منهم، فإن لها أكفاء هم أعداء في ثياب أصدقاء، وسيضرب الله بعضهم ببعض، ويريح الإنسانية منهم ومن حضارتهم، ولا يبقى منهم إلا أخباراً يقرؤها غداً تلاميذ المدارس، فيعجبون من أصحابها ويلعنونهم عليها. وهذا أمر محقق وإن كان يبدو الآن كالخيال.

أو لا يفكرون أنه لو اتخذ مثل هذا القرار ملك عات من ملوك الحكم المطلق، أو أمير ظالم من أمراء القرون الوسطى في أوربة، لفضحه كتاب التاريخ، وقالوا، لص يأخذ مال زيد ليعطيه لعمرو، وقالوا، مجنون نجود بما لا يملك، ولملئوا صحائفهم غيرة على الإنسانية وحقوق الإنسان. فلماذا يخرسون الآن فلا ينطقون؟ لماذا لا نسمع من أوربة وأمريكة، أصوات من يدعون أنهم أنصار الحق , أن أقرمهم للإنسانية ليست لفرد ولا لشعب؟

لقد غضب أميل زولا لدريفوس، فقالوا إنه رجل الحق والإنسانية، وصدقنا ما قالوا، فلم لا نلقى اليوم في الغرب كله زولا واحداً، يغضب لأمة بقضها وقضيضها، تزاح عن مكانها وتطرد من أرضها، ليحل اللص الواغل عليها في محلها، وتشترك في هذه المؤامرة الدنسة أمم الغرب كلها.؟

لماذا يخرسون الآن؟ ألأن الظلم صار ظلماً منظماً؟ ألأن قطاع الطرق تركوا الجبال والمغور وجلسوا في (ليك سكسس) ألأن محكمة التفتيش صار اسمها (هيئة الأمم المتحدة)؟ ألأن الجزارين أميركا وروسيا وفرنسا، والشاة فلسطين؟

خسأتم يا حلفاء الشيطان. . والله ما فلسطين بالشاة ولكنها القنفذ، على ظهرها الشوك، إنها السكين المشحوذة ذات الأربع شُعب، إنها زجاجة السم الناقع، فليتقدم لابتلاعها من شاء أن ينتحر. . .

لا، ما نريد أن نتكلم. ولو أردنا الكلام، لدمغنا جباه هذه الأمم التي أقرت التقسيم بأربعمائة مليون لعنة، تلفى التاريخ بها غدا، وتلقى الله بعد غد، وهي مخزاة لها، وعرَّة في جباهها ولكنا نريد العمل.

ونحن نعترف أننا لا نملك مثل أموال اليهود، ولا مثل أسلحة الأميركيين ولكنا نملك سبعين مليون روح، نريد أن نزهقها كلها، أو ندفع عنا هذا الضيم الذين تريدنا عليه أميركا وروسيا، فهل عندكم من القنابل الذرية ما يكفي لقتل أربعمائة مليون؟

أما نحن فإن عندنا من القوة ما ندمر به كل شيء لكم في بلادنا. . بضائعكم ومصالحكم ومدارسكم (وسمعتكم) فلا تستطيعون أن تأخذوا بعد اليوم بترولنا لتحرقونا به، ولا أموالنا لتحاربونا بها ولا أولادنا لتجعلوهم أعداء لنا، ولا تجدون فينا بعد اليوم من يسبح بحمدكم، ونحن نصلى بناركم.

لقد خدعنا بفرنسا أولا، حتى فزع إليها الزعيم مصطفى كامل وحسب أنها أمة الحرية حقاً، وأمة حقوق الإنسان. . وخدعنا بإنكلترا ثانياً حتى ترك الملك حسين إخوانه في الإسلام وحلفاءه في المعركة، وانحاز إلى العدو، وفعل فعلته التي فعل. . .

وخدعنا بأميركا ثالثاً ومبادئ ولسن، وميثاق الأطلنطي. وخدعنا بروسيا رابعاً، والمبادئ الشيوعية المثالية التي تجعل الأرض جنة للفقراء. . فذقنا وبال ذلك كله علقماً مراً، ثمالة كأسه تقسيم فلسطين فلن نخدع بهم بعدُ أبداً، كفرنا بهم كفراً صريحاً لا تأويل له، ولا شبهة فيه، ولا رجوع عنه. كفرنا بكل شيء غربي، إلا الأدب الإنساني والعلم التجريبي، فما فيها شرقي ولا غربي. كفرنا بموسكو وواشنطون، ولندن وباريس. . حين رأينا أنه لم يكن معنا من الأمم يوم التقسيم إلا أمم الإسلام وأمم كاليونان والهند حكمه المسلمون ورأت جمال الإسلام، أفليست هذه حرباً صليبية دينية؟ اليس أولئك هم المتعصبين حقاً، ونحن المساكين نتهم بالتعصب، لأننا (من حماقتنا) نقول أننا متعصبون ولا نتعصب. . . وهم يتعصبون ولكن لا يقولون. . .

أنا لا أقول في هؤلاء المؤتمرين بالحق والعدل شيئاً، ولو أننا قلنا فيهم أقبح المقال، لما جزنا عن القصد، ولما حدنا عن الصدق، ولا نقول إن العرب لا يقر لهم قرار، حتى نيمحوا بدمائهم هذا (القرار)، ويطهروا ديار الشام من أقذار الصهيونية، وينظفوا منازل العربية من أوضار الاستعمار الظاهر منه والمستتر. لا، ولا أقول: سنفعل، ولكن سأقول: فعلنا. . . ولقد جاءت الأخبار بأن العرب شرعوا بالعمل، وهذي طلائعه بدت من دمشق، ودمشق قلب العربية، من القلب ينبثق دم الحياة إلى الرأس والجوارح والأعضاء. . .

هذي طلائعه وأوائله، وأول الغيث قطر ثم ينهمر!

ولست أفخر بأن دمشق ثارت، فما هي بأولى ثوراتها على الظلم، ولا بأنها سبقت عواصم العرب كلها، فدمشق أبداً السباقة إلى كل ما فيه إعزاز العربية الدفاع عنها، ولكن أفخر بخمسة أمثلة ضربتها دمشق أول أمس، فيها للعرب هدى ونور!

أولها: أن دمشق أدركت أن دعوى المساواة في الشيوعية كاذبة، كدعوى العدالة في الديمقراطية، وأنهم كلهم أعداء لنا يأتمرون بنا، ولصوص يتفقون علينا، وذئاب تجتمع على نهش لحومنا، وشرب دمائنا، فدمرت دار الحزب الشيوعي بعدما رأت فيها يوماً كيوم مارس 1945.

ففي مارس كانت النار تطلق على أطفالنا ونسائنا من نوافذ دار البعثة الفرنسية في (الشهداء) بأيدي الفرنسيين وأذنابهم حمير الاستعمار، أذناب موسكو.

وثانيها: وهذه خلة في دمشق لا توجد في غيرها، أن الأحزاب كلها اجتمعت أمس على اختلافها، وتقاربت على تباعدها، فلم تبق في دمشق حزبية، أن الحزبية في مثل هذا اليوم تعد في الشام خيانة وطنية.

وثالثها: أن الحكومة كانت مع الشعب، وأن رئيس الجمهورية خطب في الشباب والطلاب يدعو هو إلى الجهاد، ولا عجب فقد كان شكري بك القوتلي الوطني والمجاهد مقارع الاستعمار قبل أن يصير فخامة السيد شكري القوتلي رئيس الجمهورية السورية.

وأنه خطب مثل ذلك رئيس الوزارة السيد جميل مردم، ووزير الداخلية السيد محسن الرازي، ووزير المعارف الصديق السيد منير العجلاني، وأن ثلث نواب المجلس تطوعوا مع المطوّعية لنصرة فلسطين وأنها لم تسق كتائب الشرطة وفرق الجنود، لضرب وجوه المتظاهرين، وسد الطرق عليهم، وكل ما صنعته الحكومة أن حاولت منع الناس من الأذى، فلما رأت أن الحماسة طاغية وأن المنع لا يكون إلا بإيذاء الناس لم تستطع أن تحتمل مقالة التاريخ عنها؛ (إن حكومة فلان وفلان، ذبحت شباب البلد لأنهم خرجوا يدافعون عن فلسطين) وما في الشام رجل واحد يرضى أن يكون رئيس وزارة، وأن تنسب إليه هذه المعرَّة!

وكان أجمل من ذلك كله. أ، فقررت الكحومة حل الحزب الشيوعي، ومحو هذه البقعة النجسة عن وجه دمشق وطرد الموظفين الشيوعيين، وكانت حسنة من حسنات (المحسن).

ورابعها: أن دمشق أغلقت ملاهيها وسينماتها إلى أجل غير مسمى أن الأمة التي تجدّ حقاً في جهاد هو لها مسألة حياة أو موت، لا تفكر في تسلية ولا لهو، وإن هي فعلت كانت أمة لاعبة كاذبة.

وخامسها: أنها جمعت البضائع الصهيونية، والأفلام الأميركية، وأحرقتها في الشوارع لأنها عرفت أننا إن شتمناهم ونحن نروج بضائعهم ونشتري أفلامهم نكون قد أيدناهم وقويناهم، وأضحكناهم على أنفسنا.

وبعد فلن يصل عدد (الرسالة) إلى أيدي القراء، حتى يكون هذا الجديد الذي أحدث به عن دمشق قد صار قديماً، وحتى نسمع عن القاهرة ودمشق وحلب وبغداد والموصل ومكة وعمان والمغرب أدناه وأقصاه وأقطار الباكستان وإندونيسية أخباراً أجل وأعظم، ثم نسمع من فلسطين الخبر الذي يأكل الأخبار. . خبر الانتصار، وتحرير الديار.

ولن تقوم للصهيونيين دولة في فلسطين، ما دام المسلمون في الأرض والله في السماء.

على الطنطاوي