مجلة الرسالة/العدد 746/رأي الأكثرية في السياسة الشرعية
مجلة الرسالة/العدد 746/رأي الأكثرية في السياسة الشرعية
للدكتور السيد محمد يوسف الهندي
أثار الأستاذ عبد المتعال الصعيدي في مقال له نشر في العدد 732 من (الرسالة) مسألة الأخذ بـ (رأي الأكثرية في السياسة الشرعية) وهي مسألة تنطوي على مقارنة النظام الديمقراطي البرلماني الحديث مع النظام التشريعي والحكومي الإسلامي من ناحية الطبيعة والوضع والروح جميعاً، فأول ما يجب ان يلاحظ في هذا الصدد إن النظام الأوربي إنما هو وليد ظروف تختص بالمجتمع الغربي وغني عن القول ان المجتمع الغربي لا يبتنى على أساس غاية دينية تنسى المؤمنين بها والعاملين في سبيلها جميع الفوارق البشرية كالإقليمية والطائفية والوطنية والقومية وكذلك يعدم في أي مجتمع غير إسلامي مبادئ تضمن للناس العدالة في معاملاتهم بعضهم مع بعض وتكفيهم التناحر فيما بينهم لأغراض دنيوية، فإذا الاختلاف الناشئ بين أفراد المجتمع الغربي هو في الحقيقة اختلاف المصالح المادية بين مختلف طبقات الشعب التي لا تزال في حالة حرب مستمرة تبعث كل واحدة منها على حشد القوة (وهي ترتكز في العدد) ضد الأخرى، ومن المعروف إن النظام السياسي إنما يصطبغ بصبغة المجتمع الذي ينشأ منه، وعلى ذلك فالنظام الديمقراطي الحديث ليس إلا وسيلة لتسوية الاختلافات الناشئة عن الطموح إلى أغراض مادية لا تسوية حاسمة على أساس المبدأ والحق بل تسوية تمكن فريقاً من الشعب من إدارة الشؤون لصالح (زبائنه) فقط وكذلك يكون الحكم سجالاً بين مختلف أحزاب الشعب الذي لا يزال من حيث المجموع قلقاً غير مطمئن إلى التوازن والعدل الاجتماعي، أما المجتمع الإسلامي فبالعكس يبتنى على مبادئ يتلقاها الشعب من الله ويتعهد على نفسه كل فرد من الشعب على السواء بتطبيقها على أعماله وتنفيذها فيما بين الناس بما فيها من صالح الإنسانية وضمان الحق والنصفة في المعاش والمعيشة. فالمجتمع الإسلامي موحد الكلمة، موحد الإيمان بالمبادئ الحقة وفوق كل شيء موحد الشعور بالمسؤولية لدى العليم الحكيم في حق الأفراد ومجموع الأمة، فأي مجال في مجتمع مثل هذا أن ينقسم إلى أحزاب متعارضة الهوى في الدنيا وما فيها مغرضة متحيزة في نواياها وأعمالها؟ ولا يعدم المتتبع لأحكام القرآن والسنة ما يقنعه بان النظام الإسلامي السياسي إنما هو مؤسس على التعاون والتضامن والتآزر الفعلي بين المسلمين كافة في السلم وفي الحرب من غير فرق وانه لا يعترف بحال من الأحوال بوجود معارضة مستقرة التي هي من أهم مظاهر الديمقراطية البرلمانية
وإنما مرد هذه الميزة إلى للنظام الإسلامي إلى أن الاتفاق على الشريعة التي هي قانون الحياة بأوسع معانيه، سابق على تكون الهيئة الاجتماعية والسياسية بين المسلمين بل هي منشأهما وقوامهما بحيث ينزل المسلمون جميعاً بمنزلة لجنة تنفيذية لا غير، ومن المعروف أن المعارضة لا مكان لها في لجنة تنفيذية قط، أما الحال في الغرب فعلى العكس تماماً لان هناك تكونت الهيئة الاجتماعية أولاً على أساس بعض المصالح المشتركة بطريق الارتقاء غير الشعوري ثم هي أقبلت على التشريع لافتقارها إلى وضع حدود للأعمال الإنسانية التي لم تزل ولا تزال معرضة للإفراط والتفريط ولما لم يكن لها مستند إلى المصدر الأعلى اندفعت بطبيعة الحال إلى التعويل على العقل الذي قلما يتخلص تماماً من أسر الهوى فتعذر عليها (الاتفاق) في التشريع لكون أفرادها كثيري الهوى شتى المسالك نتيجة لعدم ارتباطهم بحدود من الله فإذا فشلت الهيئة الاجتماعية الغربية في تحقيق (الاتفاق) (استكانت) إذ ذاك (إلى الاختلاف) واهتدت إلى إيجاد نظام للتشريع يؤدي إلى حفظ السلام وسير الأعمال غير معرقلة مع عدم اقتناع عدد غير قليل بما ينتج منه وهذا النظام هو النظام الديمقراطي الحديث. . .
ولا يخيل إلى القارئ إن باب التشريع قد اقفل في الشريعة الإسلامية فان الشريعة الإسلامية بصفتها نظاماً دائم النمو والاتساع تتضمن في ذاتها الطرق المسنونة والأساليب الواضحة لكفاءة الأحوال المتجددة والظروف الطارئة على ممر الأيام والعصور ولكن مهمة التشريع عند المسلمين إنما تقتصر على تطبيق المبادئ المنصوصة عليها على الأحوال غير المحسوبة لها. وهذه المهمة لا تتأدى إلا على أيدي العلماء المعروفين بالفقه في الدين والصدق والتقوى في أعمالهم الحائزين على ثقة الناس في أمانتهم فيعتبر الإنسان هذه المهمة من اختصاصهم ولا يسمح بالتدخل فيها لكل من يفوز بكثرة الأصوات سواء وجدت فيه المؤهلات الخاصة والشروط اللازمة أم لا كما هو الحال في النظام الديمقراطي الأوربي. . .
ويتضح مما قيل آنفاً إن الاختلاف الناشئ بين العلماء المسلمين الثابتين على التقوى إنما هو بمثابة مناقشة علمية أكاديمية ناشئة عن النيات الخالصة والتحريات الصادقة ولا يشوبه شيء من الهوى أو رعاية مصالح الناخبين في أي قطر مخصوص ومثل هذا الاختلاف لاشك انه رحمة من حيث انه يؤدي إلى تثبيت الحقائق الإسلامية وسير الأمور حسب مقتضى القانون الإلهي في جميع الأزمنة والعصور. . .
وما عدا القياس والاجتهاد هناك طريقة أخرى للتشريع في الإسلام ألا وهو الإجماع ومبناه أن الإيمان والعمل بالإسلام يخلقان في المسلم ملكة تدفعه إلى الاتجاهات التي تتفق هي والروح الإسلامي وإن لم ينص القرآن والسنة على شيء في صددها
فهذا فيما يتعلق بالأمور الدينية مع فهمنا الدين بأوسع معانيه وأشملها أي النظام الذي يسيطر على جميع الأعمال الفردية والاجتماعية مما لها شأن أدبي وأخلاقي. . .
أما المسائل من قبيل تأبير النخل فلا شأن للإسلام أو أي نظام تشريعي بها لأنها من اختصاص الفنانين ومدارها على التجربة والمشاهدة لا غير. . .
فلم يبق الآن إلا بعض أمور اسميها أموراً إدارية محضة مثل الحرب والسلم والخوف والأمن وهي التي يرجع فيها إلى أولي الأمر وأولوا الأمر يقضون فيها بمشورة الناس.
فلا شك أن الإسلام يقدر رأي الأكثرية حق قدره إذا صادف الحق ووافق المبدأ، ولكن طبيعة النظام الإسلامي تأبى أن تكون للأكثرية أهمية كبرى في التشريع لان مصدر السلطة عند الغربيين هو الجمهور وهذا القول يستلزم ان يكون التشريع دائماً حسب إرادة الناس وهم مختلفون في أهوائهم أما في الإسلام فمصدر السلطة ليس إلا الله والتشريع لا يكون إلا وفقاً لمشيئته والمسلمون كلهم سواء في ابتغاء مرضاته. . . ثم التشريع لا يحتل المكان الأول في النظام السياسي الإسلامي لان الإسلام في نفسه شريعة كاملة أما أمر التفريع والاستنباط بالنظر إلى الأحوال المتجددة فهو موكول إلى نزعته وليس لكل ذي حنجرة أن يصوت في كل ما يعنيه أو ما لا يعنيه وصفوة القول إن الجمهورية في الإسلام ليست كالديمقراطية في الغرب التي مدارها، بعبارة حكيم الشرق الدكتور محمد إقبال رحمه الله على (تعداد الناس لا على وزنهم). . .
السيد محمد يوسف الهندي