مجلة الرسالة/العدد 740/الأدب والفن في أسبوع

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 740/الأدب والفن في أسبوع

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 09 - 1947



الأدب في الإذاعة:

نشرت مجلة الهلال مناقشة عنوانها (هل أدت محطة الإذاعة رسالتها؟) دارت في ناديها بين (محمد توفيق بك ومحمد فتحي بك والأستاذ مفيد عبد الرحمن والدكتور نور الدين طراف) وقد بدأ فتحي بك الحديث بأن الإذاعة تؤدى غرضين، غرض التثقيف وغرض التسلية والترفيه عن المستمعين، ثم اقتصر الحديث بعد هذا على الناحية الثقافية بمعناها الأعم الشامل للأدب والسياسة والصحة والنسائيات وغيرها. وإكتفى هنا بالكلام على الناحية الأدبية في هذه المناقشة، فأورد أهم ما قيل فيها وأناقش ما يستدعى النقاش.

قالت الأستاذة مفيدة: الواقع أننا لا نقدر مدى استماع الجمهور وفهمه لما يسمع، فليست إذاعة أقوال هؤلاء الأدباء معناها الثقافة) ثم قالت: (قد جرت عادة الله تعالى في بث الموعظة أن يسوقها في قالب قصصي محبب إلى نفوس العامة قبل الخاصة. والقرآن الكريم وما سبقه من الكتب المنزلة ملأى بأمثال ذلك، فقد ورد فيها من قصص المتقدمين ما فيه عبرة وعظة، مع أن هذه الكتب لم تنزل لسرد القصص والحكايات بل نزلت لإرشاد الناس لما فيه خيرهم ونفعهم، فحبذا لو اهتدى أباؤنا الأفاضل بهدى القرآن في وضع الموعظة في مثل هذا القالب) ومما قاله توفيق دياب بك: (فأنا أخاف الأستاذ مفيدة نوعاً ما فيما ذهبت إليه، لأنني عرفت من تجاربي ومما سمعته من كثيرين من طبقات مختلفة كالمترددين على المقاهي والأندية العامة أن كثيراً من الجمهور ينتظرون أحاديث الأدباء، وقد يعلو المتحدث بلغته بحيث ترتفع عن مستوى عامة الجمهور، ولكنهم يتابعون موضوعه ويفهمونه، وذلك لكثرة سماعهم القرآن وخطب المساجد وكلام الفصحاء، فارتفع مستوى فهم الجماهير حتى سبقت إفهامهم معرفتهم بالقراءة والكتابة. . .)

وكان فتحي بك قد قال موضحاً مسألة نجاح الإذاعة في تحقيق الغرض الثقافي. (لا شك في إنها خدمت الثقافة خدمة كبيرة، ومثال ذلك أن كثيراً من الأباء الكبار كطه حسين بك وتوفيق دياب بك والأستاذ العقاد وغيرهم كانوا معروفين في العالم العربي لدى طائفة خاصة من القراء. ولكن الإذاعة زادت أسماءهم لمعاناً وزادت الجمهور تعريفاً بهم!) وهذا كلام يقف أمامه صف طويل من علامات التعجب والاستفهام، فهل خدمة الإذاعة للثقافة ه التعريف بطه حسين والعقاد وتوفيق دياب؟ وهل زادت التعريف بهم حقاً! يا أخي. . . قل غيرهم!

وقد رد توفيق دياب بك على ذلك بقوله: (هل أعتبر هذا الكلام منا على الأدباء) وتساءل الدكتور طراف: (هل تذيع المحطة لهؤلاء الأباء بقصد إشهارهم أو لأنهم أصلا مشهورون. .؟)

ومما قاله فتحي بك: (أنا أقصد الثقافة بمعناها الأعم، ولكني ضربت مثلا بالناحية الأدبية فقد أصبح الجمهور يتذوق كثيراً من ضروب الأدب التي لم تكن معروفة لديه)

فما هي ضروب الأدب التي أحدثتها محطة الإذاعة ولم تكن معروفة لدى الجمهور؟ أن ما تذيعه من ألوان الأدب هو الأحاديث الأدبية القليلة، وبعض القصص القصيرة، وقراءة بعض الشعراء شيئاً من أشعارهم، وقراءة بعض المذيعين فصولا من الكتب، وإلقاؤهم بعض قصائد شوقي وحافظ في المناسبات؛ فأي هذا لم يكن معروفاً في جوهره لدى الجمهور؟ لقد كان يمكن أن تحدث الإذاعة ضرباً جديداً من الأدب لو إنها أذاعت تمثيليات قصيرة باللغة العربية بدل التمثيليات العامية التي تذيعها أو إلى جانبها، فكانت تحدث في الأدب (فن التمثيلية الإذاعية) ولكنها تخلفت فسبقتها في هذا الفن بعض محطات البلاد العربية الأخرى التي لا تستطيع من ضروب الأدب التي لم تكن معروفة لديه.

الأدب والمجتمع:

كثيراً ما أشعر بعد الكتابة في موضوع، أنني لم أوفه حقه وأني قصرت في بيان أمر، وأنه فتني أن أذكر شيئاً.

من ذلك ما كتبته غير للتنبيه على ضرورة اتجاه الأدب إلى المجتمع لتعرف أدوائه وتصوير أحوله، وعلى ما ينبغي من تأثير الأدباء والشعراء وانفعالهم وغضبهم على الأمور الواقعة والأحوال والراهنة، وتعبيرهم عن ذلك كله بطرقهم الفنية.

خلت بعد ذلك كأن أصداء تقول لي: أتريد أن يكون الأدباء وعاظاً يجاهرون بالأمر والنهي، ويسوقون النصائح المجردة والمواعظ السافرة؟ أو تريد أن يتحول الأدباء جميعاً إلى باحثين اجتماعيين يدرسون الظواهر ويضعون النظريات؟

كان ذلك قائماً بنفسي وأنا أقرأ في مجلة (الإصلاح الاجتماعي) فصلا عنوانه (تجنيد الأدب في ميدان الإصلاح) دعا كاتبه الأدباء إلى أن يتركوا الأبراج العاجية ويجندوا أنفسهم في الحرب الاجتماعية المعلنة على الفقر والمرض والجهل، وبين كيف يعمل الأديب في هذا الميدان بأنه (لا يكشف النقاب عن مهمته وغرضه، ولا يجهر بنصح أو إرشاد، ولكنه بأسلوبه الفني يعرض عليك من صور الحياة وحقائق المجتمع وحالات الناس مما تتأثر به في نفسك غير تصريح أو مجاهرة، فإذا أنت منفعل بما صوره لك وعرضه عليك، وإذا أنت قد أسلمت عنانك لهذه الصور الفنية وأوليتها عواطفك من حب أو كره، ومن رضا أو اشمئزاز) قرأت هذا فوجدته مطابقاً لما أريد من بيان. ويقول كاتب المقال بعد ذلك: (وربما قيل أن الحرية والانطلاق روح الأدب، فليس لنا أن نقسر الأديب على شئ بعينه ولا أن نوجهه إلى ميدان خاص، وإلا خرجت آثار الفنية ضربا من التكلف والتعامل لا قيمة له ونحن لا نريد أن نكره الأدباء على الانقياد لخدمة مبدأ من المبادئ خدمة متكلفة ليست منبعثة من صميم النفوس والوجدانات وإنما ندعو الأدباء إلى أن يوجهوا أنظارهم وجهة المجتمع المصري وأن يتدبروا أحوله الاجتماعية ويفكروا فيها ويشغلوا أنفسهم بها، فإن فعلوا ذلك فإنهم لا محالة يتأثرون ومن ثم يواتيهم الوحي الفني عن تأثير وانفعال، فنخرج آثارهم الفنية الاجتماعية طبيعية لا تكلف فيها ولا تزوير).

على أني أتسمع أخرى تشير إلى مسألة ثار فيها الجدل واعتركت حولها الأقلام، وهي: هل الأدب للأديب أو الأديب للحياة! وأضع بازاء ذلك ما أراه من أن الأدب الملحق فوق الحياة إنما هو كمال فكري، أما مطلب الحياة من الأدب فهو من الضرورات. ولا شك أننا الآن - من حيث الجهاد الخارجي والإصلاح الداخلي - أحوج إلى أن يكون أدبنا لحياتنا أكثر ما يكون، وله أن يقضى بعض الوقت فيما يطيب له من ذرى الفن ومواطن الفكر.

السجل الثقافي:

ورد إلى الكتاب الآني من الأستاذ محمد سعيد العريان مدير إدارة التسجيل الثقافي بوزارة المعارف، وفيه البيان الكافي لما توقفنا عنده من أمر السجل الثقافي في العدد الماضي:

عزيزي الأستاذ العباس

قرأت ما كتبته من قريب في الرسالة تنويهاً بالسجل الثقافي الذي اعتزمت وزارة المعارف أن تصدره في كل عام لتسجل به مظاهر النشاط الثقافي في مصر؛ فشكرت لك هذا.

ثم قرأت ما اقتبست لقرائك من رسالة للأديب (البسام) يعترض فيها على هذا السجل من ناحيتين:

الأولى: أنه يقتصر على وصف مظاهر النشاط الثقافي خارج جدران المداس على حين كان الواجب أن يشمل هذا السجل كل مظاهر النشاط في المدرسة وخارج المدرسة.

الثانية: أنه يقتصر على وصف مظاهر النشاط الثقافي في مصر دون غيرها من البلاد العربية التي تجمعها وحدة الثقافة منذ مئات السنين.

وقد عقبت يا صديقي بما عقبت على رسالة الأديب (البسام) وأحسبك قد وافقته على اعتراضه من ناحيتين، ولكنك تركت (لأهل الاختصاص في الوزارة أن يجيبوا بما عندهم).

وأرى من حقي - أو من حقك وحق القراء علي - أن أرد اعتراض الأستاذ البسام واعتراضك؛ فنحن ل نقصد قط حين أخذنا الأهبة لإصدار السجل الثقافي أن نحصره في هذا الحيز المحدود، ولم يخف علينا قط ما يجمع بين البلاد العربية من وحدة الثقافة التي تأبى القيود والحدود ولا تعترف بهذه الفواصل الصناعية التي تجعل البلاد العربية المتحدة بلاداً ذات أسماء وعناوين - لم نقصد إلى شئ من هذا، ولم يخف علينا شئ من هذه الحقيقة، وقد قصدنا أن يكون السجل الثقافي الذي يصدر عن وزارة المعارف في مصر صورة صادقة التعبير عن كل مظاهر النشاط الثقافي في تلك الوحدة الثقافية التي نسميها البلاد العربية.

أما إغفال تسجيل النشاط الثقافي في نطاق المدارس فلأن ثمة هيئة أخرى في وزارة المعارف تقوم عليه وتعنى به وتعد العدة له؛ فليس من حسن التدبير أن يتكرر العمل، ولذلك تركنا للقائمين على شئون (تقويم التعليم) أن يمضوا فيما هم بسبيله لنفرغ نحن للجانب الآخر من جوانب النشاط الثقافي.

وأما أن يشمل السجل كل مظاهر النشاط الثقافي في البلاد العربية جميعاً فهدف نقصد إليه وغاية نتنورها على بعد، ولكنا لا نريد أن نبدأ العمل قبل أن تتجمع لنا أسبابه؛ ومن أجل ذلك قصرنا برنامجنا - الآن - على تسجيل مظاهر النشاط الثقافي في مصر حتى تتهيأ لنا الأسباب الكفيلة بتمام العمل على الوجه الذي يتمناه كل مثقف من أبناء العربية في أي بلادها.

فهذا ما أردت أن نعرفه قراء الرسالة عن هذا الأمر، ولعل فيه بلاغاً، وإني لأشكر لك ولصديقك ما أتحتما لي من فرصة لبعض الحديث عن هذا العمل الذي آمل أن يبلغ مبلغه من النفع العام أن شاء الله.

كبار الكتاب والسينما:

تضمنت الكلمة التي كتبتها في عدد مضى من الرسالة بعنوان (السينما بمناسبة (المنتقم)) بيان عيوب في بناء قصة السينما المصرية كخلوها من الفكرة وقصورها في تصوير النواحي المختلفة لحياتنا. ويظهر من هذه العيوب إنها ترجع إلى ضعف التأليف أو قل عدم التأليف لأن أكثر الروايات تحور عن أصول غربية، يفقدها (التصرف) قيمتها الأصلية، فتجئ لا شرقية ولا غربية.

وعندي أن الذين يستطيعون أن يجبروا هذا النقص هم الأدباء الذين يلتفتون إلى هذه الناحية ويدرسون دقائق التأليف للسينما، بمعاونة مخرجين لهم ذوق أدبي ومشاركة في الأدب إلى جانب حذقهم في الإخراج.

وقد أثارت هذا الموضوع مجلة (الاستديو) فكتبت بعنوان (أعلام الكتاب في مصر: لماذا لا يكتبون للسينما؟) قالت: (تحمل القصة للسينما في مصر طابع الضعف في التأليف والتفاهة في الفكرة والعجز في إحكام العقدة الروائية ووسائل حلها. ولما كان كبار الكتاب والأباء هم عماد القصة في كل عصر وجيل فمهما يثير الدهشة حقاً أن أعلام الكتاب في مصر قد أعرضوا إعراضاً ظاهراً عن إمداد السينما بوحي أقلامهم) ثم ذكرت المجلة بعد ذلك إنها استطلعت آراء بعض الكتاب والمخرجين في أسباب ذلك الإحجام، ونشرت هذه الآراء.

يرى الأستاذ محمود تيمور بك أن رجل الشارع الذي أوتى حظاً محدوداً من الثقافة لا يستسيغ ولا يقبل على ما يكتبه أعيان الكتاب له، ولكنه يقبل على روايات الكتاب العاديين المؤلفة أو المترجمة لأنه يجد فيها متعته الحلوة وغذاءه المستساغ.

وقال الأستاذ المازني (إن السينما المصرية تعتمد على عنف الحوادث وعلى المواعظ والخطب المنبرية وعلى الغناء والموسيقى إلى آخر هذا. وهذا كله لا يتفق مع فن القصة، وما دام رجال السينما يطلبون هذا فمن البعيد جداً أن يجدوا في كاتب يحترم فنه استعداداً لوضع قصة لهم على هذه القواعد).

وقال الأستاذ زكي طليمات: (سيعمل كبار الكتاب للسينما يوم يصبح المنتجون والمخرجون في عقلية تماثل عقلية كبار الكتاب).

ويستبين من هذه الأقوال أن المنتجين والمخرجين يرون أن الجمهور إنما يقبل على الأفلام العنيفة الحوادث المفعمة بالمواعظ والخطب المنبرية والأغاني، والتي تعتمد مع ذلك على إثارة الغرائز، والكتاب يترفعون عن هذه الصغائر.

ولا شك أن إقبال الجمهور هو أهم شئ في هذا الموضوع، ولكن هل الجمهور لا يريد حقاً إلا هذا الذي يقدمونه له؟ وهل يعرض حقاً عن إنتاج فني نطيف يحمل إلى عقله ووجدانه غذاء خفيفاً إلى جانب المتعة التي ينالها من أسباب الدعة والتسلية والطرب والتفكهة؟ وهل قدم له شئ من هذا فأعرض عنه؟

إن الإنسان، كما قلت في مناسبة سالفة، فنان بالفطرة، فهو أن لم تتح له وسائل الإنتاج في الفنون وأدواته، فنان (مستهلك). فمجاراة الجمهور في ميله إلى هذا البهرج أما أن تكون - مع حسن الظن - غفلة عن استغلال ميله الفطري إلى جمال الفن أو عجز عن تهيئة له، وهي - مع سوء الظن - تجارة من أرذل التجارات. . . .

جربوا أيها المنتجون. . . . وإذا أردتم إلا تغامروا قبل أن تستوثقوا، فقدموا للطفل الذي اعتاد أن يفرح (عرائس المولد) لعبة من اللعب ذات الفكرة، وانظروا هل يعرض عنها. . . .

(العباسي)