مجلة الرسالة/العدد 738/القسم التاسع:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 738/القسم التاسع:

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 08 - 1947



فرنسا ومستعمراتها

للأستاذ أحمد رمزي بك

قال ضابط البحرية الياباني:

(إنك لم تفهم بعد الدرس الذي تلقيناه من أجدادنا بهزيمتهم وموتهم: إنه درس صبر وعناد ويقظة واحتراس ومكر وخديعة. لكي ننتصر على أعدائنا ذهبنا لمدارسهم وكانت عقولنا لا تهضم تعاليم الغرب وأساليبه. فشعرنا بحاجتنا إلى عقلية أوروبية فأقدمنا بكل صعوبة وألم وحسرة على التحرر من أشياء عزيزة علينا للحصول عليها. ولكن هذا التغيير كان لازماً نعم لأجل الخلاص لأجل إنقاذ الوطن لكي ننتصر على الأعداء في الميدان).

(من كتاب المعركة)

كفاح الجزائر أمام جحافل فرنسا

إننا لا نحاول سرد حوادث هذا الكفاح، لأن من السهل تتبع معاركه وأدواره وحلقاته من كتب التاريخ في مختلف اللغات ولذلك سنكتفي بإعطاء فكرة إجمالية، أو رسم صورة عامة من التي يراها واقف على مرقب أو مركز للرصد من على رابية عالية تشرف على الحوادث والتطورات وعلى مواقع القتال. ونرجو أن نوفق في إخراج التاريخ صورة حية وذكرى لمن شاء أن يتذكر من دروسه وتجاربه وعبره حتى لا تتكرر الأخطاء مرة أخرى في تاريخنا وكفاحنا.

كانت حكومة الجزائر الإسلامية من الحكومات التي ليس لها سبيه أو مماثل في التاريخ إذ كانت تابعة للدولة العثمانية ولكنها تتمتع بسيادة وحرية، وكانت خارجة على القانون الدولي والعرف السائد بين الأمم الأوروبية ومع ذلك فهي تفرض الإتاوات على دول الغرب وتتقاضى رسوم المرور في عرض البحر، وإلا هاجمت أساطيلها المراكب البخارية، وأحياناً ثفور هذه الدول ومرافئها، ولهذا سالمتها الحكومات المختلفة وأذعنت لقبول ما تفرضه هذه الحكومة عليها، فكانت فرنسا ترسل إليها هدايا معلومة مالية أحياناً وأخرى معدات وآلات حربية، وكان هذا شأن بريطانيا معها والدانمارك ومملكة صقلية والبرتغ والسويد والنرويج حتى ولايات ألمانيا والولايات المتحدة خضعت لهذا النظام العجيب الذي فرضته حكومة قليلة العدد ولكنها كثيرة البطش. وكانت قواتها المسلحة تتراوح بين 15 و20 ألف مقاتل من الجنود الأتراك أو أبناء هؤلاء من أمهات وطنيات وكان ينضم إليها رجال من قبيلة زواوه وهي التي حرفها الفرنسيون فأصبحت فرق الزواف المشهورة التي قامت على متطوعي هذه القبيلة وبقايا جند حكومة الجزائر النظامية.

وعلى هؤلاء الجنود اعتمد الدفاع عن المدن السياحية عند مهاجمة الفرنسيين ولما تثبتت قواعد حكمهم جندوا من الأسرى أول فرقة وطنية للاستعانة بها.

أما في الداخل فقد قامت قوة الدفاع على جماعات المقاتلة من رجال القبائل وهم مشاة وفرسان على طريقة حروب البادية، ولما اشتدت المعارك فكر الأمير عبد القادر في إدخال النظام العسكري الحديث مقلداً المحاولات التي حاولها كل من محمد علي والسلطان محمود العثماني، ولاشك في أن هذه المحاولات قد بهرت أنظاره وتطلع إليها وحاول تقليدها.

وفي سيرة الأمير ذكر ابتداء هذه الحركة وانتشار الدعوة إلى تجنيد الأجناد وتنظيم العساكر تحت اللواء المحمدي وإيجاد دفاتر لقيد الجنود الذين بدءوا تدريبهم وأتموا تعليمهم ورسم الذين حملوا السلاح منهم، كما فيها وصف كامل لأصناف الفرق من مشاة وفرسان ومدفعية وطريقة التعبئة والسير والنزول في المعسكرات ويظهر أن هذه القوة مع اهتمام الأمير عبد القادر بها لم تكن هي التي يقع عليها القتال وحدها وإنما كان الكفاح موكولاً إلى رجال القبائل وكانت هي بمثابة قوات ثانوية مساعدة ومكملة.

أما الفرنسيون فكانوا على علم تام بطبيعة الأرض الجزائرية من ناحيتها الجغرافية والطبوغرافية ولديهم الخرائط المفصلة عنها، فقد أثبتت المراجع الرسمية أن نابليون الأول أرسل ضابطاً فرنسياً إلى الجزائر عام 1808 وكلفه أن يدرس بالتفصيل مشروع الحملة الفرنسية ووضع الخطط العسكرية الشاملة، وقد قام هذا الضابط بمهمته وصحح المواقع على الخرائط ورفع تقريراً وافياً عن الشاطئ الإفريقي والأماكن التي تصلح لإنزال الجنود وأشار إلى الطرق والآبار والوسائل التي تؤدي إلى حشد القوات وربطها والسير في حلقات الحملة، ولم يكن لدى الفرنسيين عند عدوانهم سوى إخراج هذا التقرير من ملفات وزارة الحربية وتقييد ما فيه وهذا ما حدث في عدوان سنة 1830. إذ أنزلت الفرق في الأماكن المختارة في هذا التقرير وتحت تجارب حملة مصر عند احتلالها مدينة الإسكندرية واختيارها منطقة العجمي التي تشبه سيدي فرج.

ولم يكن الفرنسيون على جهل بأساليب القتال لدى المسلمين، فهم قد حاربوا المماليك في معركة أمبابة ورأوا ما يمكن أن تقوم به أساليب القرون الوسطى أمام جنود معبأة على الطرق الحديثة، ثم هم لم يهملوا تتبع التطور الذي أدخل على أنظمة جيوش المسلمين، فقد كان من ضباطهم وقوادهم من رافق حملات مصر ضد الوهابيين وكانوا في الصفوف الأولى يقيدون حركات المصريين ودفاع الوهابيين ويكشفون عورات الجانبين ثم يستفيدون من كل ذلك في حروبهم بالجزائر.

واختير للقيادة البرية الماريشال بودمون وهو من رجال سنة 1815 أي من الضباط الذين قاتلوا في معركة واترلو وحضروا معارك نابليون فأسندت إليه آمرية حملة بنيت على تقرير ضابط من ضباط نابليون، وكان على الأسطول الأميرال دوبريه ولكل منهما طابعه الخاص ورغبته في الانفراد والتسلط فما لبث أن دبَّ الخلاف بينهما ولولا تعليمات الحكومة الصريحة أنه إذا اختلف الرأيان، فضل رأي المارشال وأسندت إليه القيادتان البرية والبحرية لاستفحل بينهما النزاع ولفشلت الحملة.

ولعل أعظم ما ساعد الفرنسيين على التغلب هو أعمال المدفعية التي تجرها الخيول فقد امتازت منذ الساعة الأولى كما ذكرنا بقوة نيرانها وتوفيقها في إصابة الأهداف وسرعة حركتها، فكانت أول عامل من عوامل النصر لديهم، كانت كمدرعات هتلر وفرقة البانزو الألمانية في الحرب الأخيرة، وهي الميزة التي كانت لدى الفرنسيين على جند حكومة الجزائر وعلى العرب المجاهدين ولولا هذا القطع من المدفعية لكانت الحرب بين الفريقين على مستوى واحد من تكافؤ فرص وتكافؤ معدات القتال.

فلننظر إلى ساحل ممتد مئات الأميال عليه مدن ومرافق متعددة ويتكون الداخل من سلاسل جبال ووديان ورمال تصلح للحروب ويسمح للقبائل والعشائر التي تسكنها أن تتولى عملياتها بكل سهولة ضد الجيش المهاجم سيما وهي من جماعات ألفت الحروب.

على هذا الميدان نزلت قوات فرنسا بمعداتها الثقيلة ومهماتها الأوربية لتواجه أهل البلاد ولديهم ثلاثة أصناف من المقاتلة. جند حكومة الجزائر وحكام المقاطعات الجند النظامي الذي أنشأه الأمير عبد القادر ثم العمود الفقري للقتال وهم رجال القبائل الذين لبوا دعوة الجهاد.

هذه هي حرب الجزائر التي اشتدت وطأتها على أربعين ألفاً من الجنود الأوروبيين اصطلوا بمعاركها ومشوا إليها تحت وهج الشمس، فتغيرت سحنتهم وتبدلت لديهم ملابس الميدان وأصبحوا مع الزمن كقطيع منفصل عن العالم لا يعرف سوى الحرب والدمار وإسالة الدماء على الأرض الإفريقية. هذا جيش أفريقيا الفرنسي الذي ولد ونشأ وترعرع في معارك الجزائر وحروبها القاسية.

ودارت رحى الحرب سنوات والهزائم تتوالى والمصاعب تتضاعف وليس لدى الفرنسيين الخبرة الواسعة بالإدارة والحكم فهم تارة يجنحون إلى الشدة ويقنعون أنفسهم أنها هي الحزم وأخرى يتقربون زلفى إلى الأهالي، وفي أوقات يقدم قواتهم على عمليات حربية فيها المجازفة والتسرع فترتد عواقبها وخيمة عليهم.

من وسط هذه النكبات ظهرت فكرتان: الأولى إنشاء فرق من الجنود الوطنيين لخدمة فرنسا والثانية إنشاء المكاتب العربية التي أطلق عليها في النهاية اسم المكاتب الوطنية.

وقد ظهرت بوادر النجاح في الناحيتين إذ بالاعتماد على الفرق الوطنية المقاتلة وبعد احتلال مدينتي بون ووهران واتباع خطة الدفاع أمكن إنقاص القوات الفرنسية من 37 إلى 11 ألفاً فعد هذا نجاحاً للقيادة.

أما المكاتب العربية فهي التي وضعت سياسة التخريب والتشريد وهي إحراق المناطق المزروعة ومصادرة قطعان الماشية التي تملكها القبائل العاصية والاستحواذ على الأطفال والنساء كرهائن والفتك بهم إذا استمرت الحرب وأخيراً تطور هذا النشاط إلى القمة واتجه إلى بذر الشقاق بين عناصر وطوائف الأمة الجزائرية، وخلق قضية العرب والبربر فكسبت هذه المكاتب في هذا النشاط من المعارك أضعاف ما كسبته فرنسا بقوة السلاح.

وكان الأمير عبد القادر أول ضحايا عمل هذه المكاتب، فإن قواد فرنسا حاولوا كثيراً أن يعقدوا اتفاقاً معه ولما توصلوا لذلك واعترفوا باستقلاله وإمارته، سلطوا مكاتبهم عليه ووجهوا المطاعن بواسطة وكلائهم وخدامهم فقالوا إنه حالف الكفار وأعداء الدين فأصبحت بيعته باطلة ووكالته على الناس غير قائمة، وعرفت هذه المكاتب السياسية أن تجعل بين أبطالها من هم من رجال الدين والطرق والزعامة، وجندت من يتظاهر بالجهاد والوطنية، وأصبحت مع الزمن من أخطر المنظمات الاستعمارية وأشدها وطأة بما تملك من الوسائل والقوى الخفية مما يعجز الناس عن تصديقه

ولقد عشنا في كثير من بلدان الشرق ورأينا أمثال هذه المنظمات تعمل في هدم الكيان الإسلامي والاستقلالي، ورأينا أناساً يقودون المظاهرات الوطنية ويخطبون في الجماعات ويجاهرون بمبادئ متطرفة، ويكتبون عن أنظمة للحكم يسارية أو نازية ثم يكتشف بعد ومن طويل وبعد فوات الفرص، أنهم مقيدون كخدم لهذه المنظمات الخطرة يتلقون وحيها ويعملون بأوامرها، وقد وصل بعضهم إلى المال والمركز والجاه تحت ستار الضحية والعمل والإخلاص فطوبى لهم.

ولهذا يجدر بالأحزاب والمتصدرين للجهاد في سبيل المثل العليا أن يرقبوا الأنصار والأتباع قبل الخصوم والأعداء وأن يقوموا من بين وقت لآخر بغربلة صفوفهم وإجراء حركة تطهير لأن الدول الاستعمارية وطدت سلطانها بهذه المنظمات وبمن يتبعها من الرجال المنبئين في كل جهة والذين يشايعون الاستعمار وتلعنه ألسنتهم ويتظاهرون بالتطرف لإخفاء حقيقة أمرهم.

ولقد تمكن الأمير عبد القادر من إيجاد دولة عربية مستقلة عاهدت الفرنسيين على السلام واحتفظت بقواها كاملة بعد أن حققت ما ترمي إليه بانتصارها في ميدان القتال ولكن الدولة التي عاهدها كانت تفكر قبل أن توقع على المعاهدة في نقضها فما أن وقعت عليها حتى بدأت ترسل النجدات تتري وأخذت تثير القبائل عليه

ويقول الفرنسيون في ذلك (إننا لم نعقد مع أمراء المسلمين معاهدة وإنما عقدنا هدنة لكسب الوقت حتى يتم تحطيم الجبهة الشرقية ثم نعود إليهم في وهران).

هذا ما حدث فإن ضعفهم تحول فجأة من جبهة الأمير عبد القادر إلى جبهة قستنطينة على حدود تونس حين عبأت فرنسا قواتها بكاملها وزحفت على المدينة في هجمتين فشلت في الأولى فبراير 1837 وكان ذلك قبل التوقيع على معاهدة تفنا مع الأمير ونجحت في الثانية بعد نقل حاميات الغرب فاقتحمت المدينة المحصنة في أكتوبر سنة 1837.

ومن ذلك يتضح أن قواد فرنسا بعد أن أدركوا فداحة حرب الجزائر أخذوا ينسقون بين خططهم الحربية فوضعوها على مراحل إذا أتموا مرحلة انتقلوا لغيرها، ووضعوا المبدأ الثابت وهو شراء النصر والغلبة بأي ثمن حتى لا تفقد فرنسا هيبتها العسكرية، ولذلك وصلت جيوشهم إلى 56 ألف مقاتل في سنة 1840، واستدعت فرنسا بعض الكتائب الممتازة من أصناف القناصة التي كانت تعد من قبيل فرق الكوماندو في العصر الحاضر مع اختلاف التدريب أي زهرة الجيوش الفرنسية.

أما الأمير فقد آمن بعد مفاجئة الفرنسيين لعاصمته، بالفرق الكبير (بين الجنود المنتظمة والجنود المتطوعة) ولذلك انتهز فرصة المعاهدة وعزم على إنشاء جيش نظامي حديث: (فعقد مجلساً عاماً من رجال الدولة وأعيان الرعية وخطب فيهم خطبة أوضح فيها فوائد العسكر النظامي ومنافعه وأخبرهم أن اعتزم على تنظيم عدد منه، فأجلبه الجميع. . . ونودي أنه (صدر أمر مولانا ناصر الدين بتجنيد الأجناد وتنظيم العساكر. . . فمن أراد الدخول تحت اللواء المحمدي ويشمله عز النظام فليسارع إلى إدارة الإمارة والمعسكر ليقيد اسمه في الدفاتر الأميرية).

ومع انتصارات فرنسا في جبهة قستنطينة أخذت تظهر بين جنودها آثار الحروب الإفريقية ومتاعبها، فقد برهنت سنوات السلم، ازدياد حوادث العصيان بين الجنود الأوروبيين ومخالفة الأوامر وعدم الإذعان للقواعد المعمول بها في الفرق الفرنسية بأوروبا نتيجة لاختلاف البيئة والجو، بل أن مضي السنوات أظهر اختلاف الأنظمة الصحية، وأساليب التغذية وتموين الفرق مما أدى كما قلنا إلى الاستهانة بتطبيق القواعد العسكرية وظهور حوادث العصيان، وأعقب ذلك نكبة مليانة التي ظهر للعيان ضعف قوة القتال لدى الفرق الفرنسية الصميمة وفقدان الروح العسكرية ودرجة الضبط والربط التي عرفت عن الجيش الفرنسي إزاء هذه النكبة اضطرت فرنسا إلى تغيير قيادتها العامة في الجزائر برمتها وأجبرت على إدخال أنظمة جديدة للجيش وإلى العمل على رفع مستوى الحياة في الثكنات والمعسكرات والتشديد في المحافظة على روح المقاتلة والكفاح في المستوى المعتاد بعد أن هبطت هبوطاً ملموساً في المعارك الأخيرة.

ولم يستفد الأمير عبد القادر من هذه الفوضى الضاربة أطنابها لما ينقصه من خبرة وإلمام بأساليب الأوروبيين وأنظمتهم وإلا لضربهم ضربة مميتة.

ومن كل ذلك نخرج بنتائج مؤلمة:

إن جهاد أهل الجزائر كان مجيداً ومشرفاً لهم ولكنه لم يكن موحداً تتولاه هيئة قيادة عامة كان جهاداً مرتجلاً ولم يكن هناك ارتباط أو تفاهم أو تآزر بين مختلف الجهات.

إن الأمير عبد القادر بقي وحده يجاهد فلم تصله أية مساعدة من تركيا أو مصر.

إن عبقريته ظهرت في المعارك التي انتصر فيها ولكن لم يكن يدعمه أحد من القواد أو الفنيين أو الأوروبيين.

إن متاعب العدو ومشاكله بقيت مكتومة عن علم الأمير وقواده.

إن المكاتب العربية التي أنشأتها فرنسا كانت على علم تام بمشاكل الأمير ومتاعبه، وكانت تزيدها وتحركها وتشعل نيرانها إذا همدت.

إن السلم الذي حصلت عليه فرنسا كان هدنة لكي تتمكن من توجيه ضرباتها من جهات أخرى ثم تعود إلى الجهة التي سالمتها لتقضي عليها.

في وسط هذه الحروب تبدو حكمة الضابط الياباني أنه أخذ العقلية الأوروبية لأجل الخلاص لأجل إنقاذ الوطن لكي ينتصر على الأعداء.

أحمد رمزي