مجلة الرسالة/العدد 738/على ثلوج (حزرين)

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 738/على ثلوج (حِزْرين)

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 08 - 1947



للأستاذ علي الطنطاوي

- 5 -

أقامت ليلى في دار أسعد شهرين محمولة على الأكفّ، مفدّاة بالأرواح، قد هيئت لها كل أسباب الرفاهية، وأحيطت بكل مظاهر الترف، وسيق لإسعادها كل ما وصلت إليه الحضارة، وأبدعه العقل، فلا ترى إلا جميلاً، ولا تشم إلا طيباً، ولا تسمع إلا ساراً، ولا تأكل إلا لذيذاً، ولكنها لم تكن سعيدة. . . ولم تر حسن ما هي فيه، لأنها افتقدت النور الذي ترى به جمال الدنيا حين افتقدت الحبيب.

ولم يكن لها ما تشكو منه، فقد أعطاها أسعد كل شئ، ولم يطلب منها شيئاً. وكان يسرّها محضره، ويهزّها كرمه، ويعجبها أدبه، ولكنها لا تحسّ الفراغ في نفسها لغيبته، ولا تجد الخفقان في قلبها لحضوره، ولا يحملها حديثه على أجنحة الخيال، إلى العالم المسحور الذي كانت تحملها إليه أحاديث هاني، على جفوتها وفراغها. . .

ولقد أحب أن يتم عليها سعادتها بالبحث عن هاني، فبعث الرسل ينفضون الأرض، ويفلّون المدن، ويبحثون في الهضاب والشعاب، فلم يقعوا له على أثر، وطفقت ليلى تفكر فيه حتى خدر فكرها وكلّ، وانطوى على هذه (الفكرة) الواحدة، فلا يعنى بغيرها، ولا يفرغ لسواها، وأدركت أن هذا العالم الذي بدا لها أول مرة بهياً فاتناً: عالم الذهب والحرير والزهر والعطر، جميل، ولكنه كجمال الدمية الفنية، لها المقلة الساحرة، والقامة الفتانة، ولكنها باردة ليس فيها روح، وهل روح الحياة إلا الحب؟

جز يا جمل البقاع، واسمع أحلى الأغاني، وشمّ أطيب العطور، وافتقد الحبيب لا تحس لذلك لذة، ولا تجد طيباً. . .

. . . ولكن الأيام تبدل كل شيء، وقد بدل ليلى كرّ الأيام، فلم يجف الجرح في قلها، ولكن مسّ الحنان قد راضه على السكون، ولم يذهب الحب من نفسها، ولكن عرفان الجميل، قد ألقى عليه غطاء فأخفاه، ولم تنس حياة القصر وساعات الصخرة، ولكن غياب هاني قد حملها على الأنس بهذه الحياة الناعمة المرفهة التي نشأت عليها وتعودتها، هذه هي معيشتها لا معيشة هاني، الذي ألقته المقادير أمامها، وقد ولد في غير بيئتها، وجبل من غير طينتها.

ويا ليتها لم تكن عرفت هاني، ويا ليت أسعد كان السابق إليها، إذن لوجدت السعادة كاملة، لا ينقصها شيء، ويا ليت الحب، هذا الطفل الأعمى، لم يكن رماها بهاني، بالغلام القذر الذي جيء به من أزقة بيروت، فتعلقت به، كما يتعلق المرء بكأس الخمر، تهري أمعاءه، وتشتاقها نفسه، بل هو القدر، القدر الذي جعل جسدها منعماً في هذه الجنة، وقلبها معذباً في ذلك (الإسطبل)، وكتب عليها أن تعيش مع أسعد، ويكون حبها لهاني.

ولم يكن أسعد وأخته، يدعانها لحظة كيلا ينبثق جرح قلبها، وكانا يطرفانها أبداً بأجمل الطرف، وأرق الأحاديث، ويجددان لها كل ساعة مسرة، ولكنها كانت كلما خلت بنفسها، أو لمحت الصخرة من بعيد، ذكرت ليالي الحب عند الصخرة، وعادت تفكر في هاني: أي أرض تحمله، وأي سماء تظلله، وهل هو حي لا يزال، أم قد طواه الثرى؟ ويا ليتها تستيقن موته، فتستريح إلى اليأس، وتتعزى بالعجز. . .

وكان أسعد يوماً من أيام النقاهة إلى جانبها، وقد أضجعها على أريكة في الحديقة، تضحى بشمس الصباح تظللها بواسق الصنوبر، وتحف بها فواتن الأزهار، وقعد على كرسي صغير، ينظر إليها كما ينظر الوثني إلى صنمه، يطل قلبه من عينيه حباً، ويقف لسانه هيبة، وتنقبض يده إكباراً فلا يمسّه إن مسّه إلا بأطراف الأنامل، وكان يتأمل شفتيها، حتى إذا تحركت طالبته شيئاً جاءها به قبل أن يتم اللفظ، ويلحظ عينيها حتى إذا مالت إلى شيء حملها إليه قبل أن يرتد الطرف، وطغت عليها عاطفة الشكر وعرفان الجميل، فأمّرت أصابعها على شعره فأحسّ رجفة الكهرباء العلوية، التي لا تمشي في سلك ولكن تسير في الأعصاب، ولا تضيء البيوت ولكن تنير القلوب، ولا تحرك الآلات ولكن تحرك الكون، الكهرباء التي اسمه الحبّ، وتجرأ فقال الكلمة التي كان يرددها في نفسه على عدد الدقائق والثواني ولا يجرؤ أن يقولها، قال لها:

- هل تقبلين بي يا ليلَ زوجاً؟

وسكت يرقب الكلمة التي تعرّفه مصيره في هذه الدنيا، إما إلى جنة الحب، أو إلى نار الهجران، وسكتت ليلى لحظة ولكنها لم تذكر ماضياً ولم تفكر في مقبل، وإنما نظرت إلى الحاضر وحده، واستجابت لندائه، كما تفعل كل امرأة في الدنيا وقالت:

- نعم.

وتم الزواج!

ومرت سنوات طويلة، ناعمة هادئة، كأنها مياه البحر في خليج جونيه، واستقر الجرح في قلب ليلى، حتى ظنته قد التأم، ومنعته عناية أسعد ومحبته أن ينفجر أو يتسع، واتصلت المودة بينها وبين أسعد، والمودة إن اتصلت بين الرجل والمرأة لا تلبث أن تصير حباً، وكاد يجيء الحب، لولا أن عصف البحر في الخليج فجأة، وماج واضطرب، حين دخل الخادم يعلن قدوم هاني.

انفجر الجرح، وعاش الماضي، ونظرت ليلى إلى حاضرها الذي كانت تأنس به وتطمئن إليه، فوجدته يتهدم ويكاد يضمحل حين داهمه الماضي بسيله الدفاع، فتمسكت بأسعد الذي هو رمز هذا الحاضر، كما يتمسك الغريق ببقايا الزورق وهتفت به أن يمنعه من الدخول. فأبى أسعد، وحسب لغروره وجهله بطباع المرأة، إن الحب قد مات ودفن، لا يدري أنه دفن في القلب، ودفين القلب يحيا إذا ناداه الماضي، وأذن له بالدخول، وقام لاستقباله، وبقيت ليلى جالسة، ساكنة الجوارح وقلبها في زلزال، معرضة عنه وكل شعرة في جسمها تنظر إليه وتحس به، قد شحب لونها، واصفر وجهها حتى لم يبق فيه قطرة واحدة من الدم، ورفعت إليه عينيها أخيراً، فوجدته قد عاد بأبهى حلة، وأكمل زينة، تبدو عليه مظاهر الغنى، وعلائم الثروة، وتخاطبت العينان في لحظة، فألقتا ألف سؤال وسمعتا ألف جواب، وروتا قصصاً وساقتا أخباراً، ولم يدر حديثهما أحد، ثم أغضت، وأخذها مثل الدوار.

وسمعت وهي غيبتها أطرافاً من الحديث، فعلمت أن هاني قد عاد من أمريكا غنياً، وإنه اشترى قصر أبيها، وصار مالكه.

وكان لكل كلمة يقولها، وحرف ينطق به، معنى في نفسها، لا يدركه الزوج ولا ينتبه له، لقد كان يفهم معاني الكلمات في المعجم وهي تفهم معانيها في القلب المحب، وفي الماضي المبعوث، وتحس أن الحديث بينه وبينها؛ وإن كان الذي يرد عليه زوجها، ثم غشي عليها فلم تعد تشعر بشيء.

وذهب هاني إلى القصر، وقعد على كرسي سيدي الشيخ رحمه الله وراح ينظر حوله: لقد خرج من القصر أجيراً ذليلاً، وعاد إليه سيداً مالكاً، وصار علام تحت يده، يجرّعه إن شاء المرّ من كأس الانتقام ويجزيه بالسيئة قدمها له عشراً، وحافه الحظ، وسعى إليه المال، ولكن ما فائدة هذا كله، وفي نفسه هذا الفراغ الذي لا يملؤه مال ولا قصر، ولا تسدّه لذة الانتقام، لقد ذهبت نشوة الظفر وعلم الآن أنه لن يسعده شيء مما على ظهر الأرض إلا هذه المرأة التي اسمها ليلى. وقد صارت ليلى لغيره. . . فلن يسعده شيء!

وعرض ماضيه كله، فتمنى أن تعود أيام الفاقة والعوز، وأن يعود خادماً ذليلاً يحيا بقربها، لقد كان في الحنان الذي ينبثق من عينيها، والفتون الذي يبدو في صورتها وحديثها، والعطر الذي يشمه من جسدها الغالي، ما يغنيه عن المال والجاه فهل يغنيه الجاه والمال اليوم عن حنانها وفتونها؟ لقد كان يفرّ إلى الصخرة الجامدة، فينسى القصر وعذابه، فهل ينسيه القصر ونعيمه اليوم تلك العشايا الحبيبة عند الصخرة؟

لقد ضرب في الأرض، وخاض البحار، وذهب إلى أمريكا ليعود بالمال الذي يشتري به قلبها الذي صبا إلى المال، فماذا ينفعه الآن إن اشترى القصر وخسر القلب؟ ألهذا كدّ ونصب؛ وحمل الجوع والتعب، وسامر طيف الحب في ليالي الغربة، وتجرع مرارة الهجر في دار النوى؟

إن كانت هذه هي الغاية، فيا ضيعة المسعى، ويا ضلّة المطاف

(الخاتمة في العدد القادم)

علي الطنطاوي