مجلة الرسالة/العدد 737/القسم الثامن:
مجلة الرسالة/العدد 737/القسم الثامن:
فرنسا ومستعمراتها
الأمير عبد القادر الجزائري زعيم وأمير وجندي وقائد ثورة
للأستاذ أحمد رمزي بك
(إذا صقلت بارق سيفي)
(وأخذت بالفضاء يدي)
(رددت الانتقام على أعدائي)
(وفرضت القصاص عليهم)
نشيد موسى النبي في سفر التثنية
رأيت كيف تلقى العالم الإسلامي بوجوم أنباء الاعتداء الفرنسي على الجزائر، وكسف احتلت فرنسا السواحل والناس في شغل عن هذا كأن الأمر لا يعنيهم، فألقي عبء الجهاد على أهل الجزائر يقاتلون ويقتلون ويشردون، والقطر الجزائري ساحل ممتد الأطراف على مسافات شاسعة، فأصبح لكل مدينة على البحر جبهة قتال قائمة بذاتها.
ففي جبهة مدينة الجزائر، زحف القائد الفرنسي إلى الداخل واحتل مدينة البليدة وقدم أهلها الطاعة بين يديه، ولكن دعوة الجهاد والدفاع عن الوطن انتشرت بين القبائل في الجبال المحيطة فتجمعت الجموع وزحفت إلى القتال، وفي اليوم الثالث من احتلال المدينة اقتحمت قوات المجاهدين أسوار البليدة، وهزمت جنود فرنسا، فاضطر القائد العام أن ينسحب مع من بقي من جنده عائداً إلى الجزائر، حيث دعي إلى بلاده فآثر أن يعيش بأسبانيا، وجاء قائد آخر، أخذ يدبر الأمور لإتمام الاحتلال، تارة بالسيف وأخرى بالخديعة وبذل الوعود.
في هذه الأثناء اتجهت الأنظار إلى سلطان مراكش واجتمع أهل العقد والحل من سكان الجزء الغربي وأرسلوا وفداً إليه يطلبون معونته فأجابهم إلى مطلبهم وبعث بأمير من أولاد عمه، فلقيه الناس بالطاعة، ووصلت طلائعه إلى ناحية مليانة شرقاً، ولكن فرنسا أسرعت مكلفت ممثلها لدى البلاط الشريفي أن يحتج على هذا التدخل، فاضطر سلطان مراكش أن يسحب جنوده، وأن يستدعي ابن عمه إليه، ويترك أمر الجهاد لأهل البلاد.
كانت الدعوة إلى الجهاد عامة يشعر بها الناس كافة من عرب وبربر، ومن أهل الحضر وأهل الجبال والبادية، وكانت الحرب في كل ناحية قائمة، ولكن كانت تنقص الدعوة والقيادة المنظمة التي تجمع الشمل وتنظم الجهود، وتحرك المشاعر، وتدفع هذه القوى الروحية نحو الغاية الكبرى.
ولقد شاءت العناية الإلهية أن تختار هذا القائد من جبهة وهران على الحدود المراكشية، ففي سنة 1832 قامت سرية من المجاهدين عقد لواؤها للسيد عبد القادر بن زيان، بحركة كشفية حول أرباض المدينة، وفي موضع يقال له خنق النطاح، التقت السرية بفصائل العدو، واشتبكت معها في معركة تعرضية، وفي اليوم التالي أدركتها حشود المجاهدين، فدخلت القتال متراصة زاحفة فانتصرت انتصاراً باهراً، وفر العدو منهزماً متراجعاً إلى مدينة وهران.
وفي وسط المعركة ظهرت مخايل النجابة والبطولة والقوة والفتوة على الشاب عبد القادر بن السيد محي الدين الذي ما انفك مع والده يحرض المسلمين على الجهاد ويبوئ المقاتلين مقاعد للقتال. كان في الخامسة والعشرين من عمره، وقد عرف الناس فيه الحزم والعزم والعقل السليم والصبر في القتال، فجاءت المعركة فإذا بالشجاعة وقوة البأس تظهران عليه، وهو يخترق الصفوف ويباشر القتال بيديه لنصرة دين الله. وبينما هو يخوض وسط المعمعة تحامل عليه فارس من فرسان فرنسا برمحه فإذا بالطعنة تمر تحت إبطه الأيسر، فشد عليه عبد القادر بعزمه وقوته وهوى بسيفه على الفارس، فإذا بالسيف يقطع كتف الفارس نصفين، فكانت آية من آيات الله تناقلها الناس وسرى ذكرها بينهم. . وتلقى جواده ثماني طعنات ثم أصيب بالرصاص تحته فنزل وترجل واستمر يقاتل في مواجهة العدو وهو على قدميه ثابتاً في مواقعه حتى جاء النصر من عند الله، وتقهقر العدو منهزماً لا يلوى على شيء، وبات المسلمون ليلتهم بين التهليل والتكبير.
هذه بداية القائد الشاب بطل الاستقلال الجزائري وصاحب المواقف الخالدة بين سنتي 1832 و1847، الذي تمثل في عبقريته عراك أمة وكفاح شعب يقاتل في سبيل مثله العليا والذي أمضى ستة عشر عاماً في الحروب لم يدع فيها القتال والتصادم والكر والفر دفاعاً عن حومة الدين وعن حرية الوطن الشهيد.
ظهرت فيها صفاته وميزاته للقيادة والزعامة وضرب للناس مثلاً بتمسكه بالمبادئ والأهداف التي قام من أجلها، فأسبغ عليها عملاً متواصلاً لا يحيد عنه ولا يرجع، وبرزت نفسه القوية التي لا ترهبها الأهوال والنكبات ولا تغيرها الانتصارات المتتابعة ولا تنقص من حماسها النكبات والهزائم.
ستة عشر عاماً من المعارك المتواصلة لا تتخللها فترات قصيرة من السلم والراحة أفردها للتنظيم والإنشاء والدعوة إلى الله والعمل لبناء دولة ناشئة ألقيت أعباؤها عليه بأكملها، إذ واجه مشاكل السياسة مع مصاعب الحروب، وعالج الهزائم والدسائس، بنفس عالية فيها قبس من أخلاق السلف الصالح وفيها تلك النواحي القوية التي أفرغها الإسلام على قواده وزعمائه من قوة أمام الأخطار وصلابة في الحق وتمسك بالعروة الوثقى، مع تواضع وصبر على المكاره وحوادث الزمن.
كان هذا في وقت عصيب واجهت فيه الجزائر أكبر محنة في تاريخها يوم دعيت وحدها للدفاع عن أراضيها، ويوم ضعفت النفوس وتفرقت القوى، وبين عناصر متشاحنة وقبائل متنافرة وهنا ظهرت شخصية عبد القادر كمنشئ دولة، وقائد جيش، وزعيم أمة.
إن عظمة عبد القادر لا تظهر في انتصاراته وحدها وإنما في تغلبه على متاعبه وفي شجاعته وسط الهزائم والدعوة إلى الانشقاق والخيانة وفي مواجهة دعاية الويل والهزيمة، وزمرة المنافقين والمطففين ومن لازمهم، هنا تعلو حيوية عبد القادر على الحوادث حينما نراه مجاهداً لا تهمد عزيمته وسط الأخطار وأمام مكائد العدو والبحر مغلق أمامه والعالم الإسلامي يغط في نومه، فلا يخفف عنه إلا ذكر الله والدعوة إليه وإيمانه بأن إرادة الشعب الجزائري قد تمثلت في إرادته وأن الله قد اختاره لعمل كبير هو إنقاذ هذه الأمة وقيادتها إلى الجهاد في سبيل الله.
تقلب صفحات تاريخه وتسمع أقوال الخصم عنه وتنصت لنظمه وشعره وتقرأ رسائله فتلمس رجلاً قد أوتي حظاً من الإيمان والثقة بالله مما جعله فوق المستوى العادي للرجال. كان ممن اختاره المولى جل وعلا لعمل خالد فقد كان يعلم بأن أمامه دولة قوية قد أفرغت في القتال كل قوتها وصممت على فتح بلاده واستعانت بما أخرجه الفن والعلم في الحروب وقد خرجت من تجارب حروب ومعارك، ومع ذلك وقف وقفته وكان يشعر بأن أعداءه في داخل بلاده لا يقلون خطراً عن أعداء الوطن، فتقبل بالرضا حكم الأقدار وقاد بلاده هذه السنين وهو واثق من نفسه لا معين ولا حليف له ولا أمل لديه إلا همة السيوف التي خرجت من أغمادها ووقفت معه.
نعم في وسط المكائد والهزائم والدعوة إلى الهزيمة تعلو قوة عبد القادر فتخلق من الهزيمة قوة وتدعو إلى الله وتعمل على جمع الشمل فيقود الأمة الجزائرية إلى كفاح طويل إلى المجد.
ذلكم هو بطل الاستقلال الجزائري وأول مسلم تلقى بصدره حلقات الهجوم المضاد الذي شنه الغرب علينا لانتزاع أراضينا.
حينما أكتب عنه أستعيد ذكرى حادثين أثرا في حياتي، أما الأول فصورة زيتية للأمير عبد القادر رأيتها في السوق الخيرية التي أقيمت بحديقة الأزبكية لنصرة المجاهدين من أهل طرابلس لما اعتدت إيطاليا على أراضيهم، رأيته على جواده وقذائف المدافع تنفجر من حوله فوقفت مأخوذاً وكنت في العاشرة فإذا بصاحب المؤيد المرحوم الشيخ علي يوسف يحدثنا عن بطل الجزائر؛ ومن ذلك اليوم انطبعت في نفسي صورة القائد الزعيم وحرصت أن أقرأ عنه وأتعرف إلى معاركه وأيامه.
أما الحادث الثاني فيوم وقفت على قبره تحت قبة سيدي محي الدين بن عربي بمدينة دمشق، لقد كان الشوق إلى زيارة الضريحين شديداً طوال سفري من أنقرة، ولما تم اللقاء وقفت أمام هذا القبر استمطر الرحمة على بطل الاستقلال. ومرت أمامي صفحات الجهاد وأسماء البلاد: الجزائر، وهران، قستنطينة، تلمسان، المعسكر، مستغانم، البليدة، مليانة، وذكريات المعارك الخالدة في رأس العين وخنق النطاح ووادي الزيتون وغيرها من مواقفه.
وفي باريس صورتان كبيرتان تمثلان عراك الأمير وجنود فرنسا تقتحم الصفوف أعرفهما: قيل أن الأمير وقف أمامهما عند زيارته للعاصمة الفرنسية وقال أراكم تمثلون جنودنا منهزمة، فهلا نظرتم ورسمتم المعارك الكبيرة التي ولى فيها جنودكم الأدبار؟
وفي قصر العجزة حيث متحف الجيش الفرنسي نجد الآثار والأعلام والأسلحة من بقايا حروب عبد القادر لقد كنت ألمسها ثم أقبل يدي التي لمستها وأنحني أمامها وأقول هل أعيش لأرى الجزائر وقد خلعت استعبادها وأسمع أناشيد الأمير من مقصورته اليائية ترتل في مدارس القطر الشهيد:
ونحن لنا دين ودنيا تجمعا ... ولا فخر إلا ما لنا يرفع اللوا
وإنا سقينا البيض في كل معرك ... دماء العدى والسمر أسعرت الجوى
أريد أن أشرح معاركه وأكتبها ليقرأها أبناء مصر العربية ويروا آيات المجد والبطولة ولكن الزمن يسير بخطوات سريعة، وأريد أن أحدثهم عن يوم تجمعت فيه أحكام القدر فألقى البطل سلاحه واستأمن للخصم على أن يذهب للإسكندرية فحنثت فرنسا بأيمانها ومواثيقها وعهودها وقادته أسيراً إلى فرنسا حيث أمضى مع والدته العجوز وأهله خمس سنوات في الأسر يحن فيها إلى البلاد التي أراد دفع الشر عنها، ثم أطلق سراحه فإذا طريقه إلى دار الخلافة حيث يلقى السلطان عبد المجيد العثماني، وبعد إقامة يسيرة في بروسة، يذهب إلى دمشق، وهناك يعيش حتى يرقد رقدته ليترحم عليه محبوه. أما أنا فقد قرأت حين وقفت على ضريحه قوله تعالى: (وكأين من نبي قاتل معه ربيّون كثير، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا، وما استكانوا، والله يحب الصابرين). آل عمران
ذلك لإيماني أن أمة تنجب عبد القادر لن تموت بل ستبعث بعثاً يهز الأرجاء؛ لأن الدرس الذي ألقاه علينا كان درساً يحرك النفوس ويدفع للعمل لقرون قادمة: إنه قوة من قوى الذات الإلهية التي بعثها لخير الناس، ولما خطه تعالى في سجل القدر من أن تحيى الأمة الجزائرية لتعود إلى أيامها الأول، أيام المرابطين والموحدين.
أحمد رمزي