مجلة الرسالة/العدد 737/على ثلوج (حزرين)

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 737/على ثلوج (حِزْرين)

مجلة الرسالة - العدد 737
على ثلوج (حِزْرين)
ملاحظات: بتاريخ: 18 - 08 - 1947



للأستاذ علي الطنطاوي

- 4 -

انطلقت إلى (الصخرة) حين لم تجد في دنياها كلها، أحنى عليها منها، وأروح لقلبها. لقد كانت ملاذها والحبيب راض مواصل، والقصر عامر زاهر، أفلا تكون مثابتها وقد غضب الحبيب، وأقفر القصر، ولم يبق لها في الوجود غيرها؟

ولمن تلجأ وقد فقدت صدر الأب الذي كانت تهرع إليه كلما دهتها من الحياة دهياء لم تستطع احتمالها، فتخفي وجهها فيه، وتبثه شكاتها ألماً خفياً، ونشيجاً خافتاً، فيمسح دمع عينيها، ويرقأ جرح قلبها، ويرجع إليها سكينة النفس، وفرحة الحياة. وفقدته إلى الأبد، حين احتوته تلك الحفرة الضيقة على شفير الوادي؟

ولمن تلجأ وقد أغضبت الحبيب، الذي نما حبه في فؤادها، وخالط لحمها وعظمها، ونشأت عليه، وعاشت به، وكانت منبع ذكرياتها، ومجمع آمالها، وغذاء روحها؟

ولمن تلجأ وما في القصر ملجأ ولا ملاذ. . . لقد أقفر من بعد سيده، وضل طريقه إليه المجد، وانصرف عن أبوابه العافون والزائرون، حين انصرف عن مطالب النيل إلى مطارح الهوى ومشارب الخمر، سيده الجديد.

انطلقت إلى الصخرة، وقد علمت لما تيقظ في نفسها الحب أن كل ما في الدنيا من متع المال ونعم الغنى، هو للمحب كأحلام النائم، لا يجد في يده إذا صحا حبه شيئاً منه، وأنها كموائد الرؤى يفيق الرائي فلا يلقى لها في معدته أثراً، ولا في جوارحه خبراً وماذا يفيد العاشق فَقَد الحبيب أن يخطر بغالي الثياب، وأن يأكل أطايب الطعام؟ وهل تدفئ الثياب قلباً فيه رغبة إلى دفء القلب المحب؟ وهل تشبع الموائد نفساً فيها جوع إلى ثمار الثغور، وظمأ إلى رحيق اللمى؟.

ولقد علمت الآن أن صخرة منقطعة مع الحبيب أجمل من قصور الأرض، وساعة معه أطول من سني الدهر، ونومة على فخذه أحلى من نوم على وسائد الحرير بريش النعام على سرير الذهب وشمة منه واحدة أطيب من انتشاق العطور، وأن خفقات قلبه عند العناق أعذب من رنات العيدان، وعبقريات الأغاني. . .

ولما دنت من الصخرة نعش نفسها نسيمها، وشفاها مرآها وأحست بعد حياة (الحضارة. . .) في عاليه، أنها كالغريق يخرج من الماء وينشق الهواء، ونظرت إلى قصر فارس أفندي فلم تره إلا نقطة ضائعة في هذه السفوح التي تمتد وكأنها لا آخر لها حتى تتصل بالبحر ثم يصلها البحر بالسماء. . . فأحست أن قد صغر مكانه في قلبها كما صغر منظره في عينها، ولم تعد تذكر إلا أماسي الحب وليالي الوصل، عند هذه الصخرة التي قدسها الحب

ووجدت هاني قائماً، فأسرع إليها وأسرعت إليه، وألقت بنفسها بين ذراعيه، ما أحست وسخ ثيابه، ولا شمت قبح ريحه إذ لم يدع لها الهوى أنفاً يشم، ولا عيناً ترى. . .

وسكرت من رحيق الغرام، وخيل إليها السكر أن لها هذه الدنيا كلها التي تبصرها تحت قدميها، وأنها أسعد فتاة فيها. وأنها قد أمسكت بكفها الأماني، وقبضت على الأحلام. . .

فانتصبت والهواء ينثر الحرير الذهبي من شعرها، ومدت يديها وصاحت نشوى:

- املأ يدي من (أزهار الجبل)

فراح يقطفها ويملأ منها يديها.

وهبط الليل رفيقاً حانياً، فأحاطهما بذراعي أم حنون وردَّ عليهما كل همسة حب كان قد سمعها منذ مر على الدنيا، وكل وسوسة قبلة وطلع الهلال رقيقاً زاهياً فعرض عليهما كل مشهد غرام رآه منذ ولد القمر، وكل منظر هوى؛ فل يجدا في حديث الليل، وصور القمر، إلا تاريخهما هما، وقصة حبهما، وأفقر قصة في الحياة قصة الحب، فهي تتكرر دائماً بمشاهدها وفصولها، لا يتبدل فيها إلا أشخاص الممثلين.

قصة ألفها هذا الطفل الجبار فضاق به الخيال، وقعد به العجز، فلم يستطع خلال ألف قرن من الزمان، أن يزيد عليها شيئاً أو ينقص منها شيئاً، فهي تمثل في غابة بولونيا وفي مسارب هايدبارك كما كانت تمثل في مغامرات سرنديب، وكهوف بابل.

وهو أبداً يعبث بالمحب ويسيّره على هواه، ويضيق عليه دنياه حتى يجد صدر الحبيب يسند إليه رأسه أوسع من رحب الفضاء وأفسح من جو الأماني، ويسوّد عليه عيشه فلا يبيض إلا أن بدت فيه طلعة الحبيب، ويزهده في المجد والجد، فلا يجدّ إلا لوصوله إليه، ولا يرى مجده إلا في رضاه عنه. . . حتى إذا ملّ العبث، عاد فنام. . .

وعادت ليلى إلى القصر وقد نام الحب في صدرها كرة أخرى واستيقظت فيه شياطين اللهو والترف. . . وجاء أسعد يزورها واشتهت أن تلبس الثياب التي أهداها إليها. ما آثرت جمال الثياب على متع الحب، ولكنها كانت كالغني يأكل الحلوى حتى يشتهي الزيتون، ويسكن القصر حتى يستحلي الخيمة، ويركب السيارة حتى يتمنى ركوب الحمار. . . هذه هي النفس البشرية، يطغيها الغنى وينسيها لذةَ النعمة وجودُها، ولا تعرفها إلا عند فقدها. .

لبست الثياب ونظرت في مرآتها، ومرآة الحسناء من أدوات شيطانها، فرأت في مكانها فتاة من فتيات بيروت، وأعجبها جمالها وهذا الصدر البادي إلى سفح النهدين، وملتقى الثديين، وذراعاها إلى الكتفين، ونظرت إلى ثيابها الجبلية التي نضتها عنها، والتي تستر كل شيء إلا الوجه، كما ينظر المرء إلى دودة كانت عالقة به وتخلص منها، وأحست في نفسها الشوق إلى الإطراء الذي ألفته في (عاليه) أذناها، وترقبت قدوم أسعد، واستطالت الوقت في انتظاره. .

ثم رأته يفتح الباب ويدخل، فتهيأت لاستقباله ونظرت فإذا القادم هاني. .

وعاد الخصام ولكنه كان شديداً عنيفاً هذه المرة. . قال لها:

- ثقي يا ليلى أنك لا تحبينه، وإنما تحبين مظاهر الترف

- قالت: وأنت ما شأنك بذلك؟ ولماذا تدخل نفسك فيما لا يعنيك؟. .

وامتد الجدال وأطلق لسانه في أسعد.

- فصاحت به: هو خير منك على كل حال. إنه خير ممن يسأل الصدقة بيد قذرة. .

خدعتها ظواهر الحب الناعمة فنسيت الرجولة الخشنة الكامنة وراءها، فلم تقدرها ولم تحسب حسابها، لعبت بالقنبلة لما غرها بريقها ولمعانها، فلمست زرها فتفجرت، ولقد انقلب لما سمع هذه الكلمة من سبع الملعب (السرك) الأليف، إلى أسد الغاب الضاري، لم يعذرها، ولم يضع نفسه في مكانها فينظر ماذا يصنع وهو في مثل حالها النفسية، وهاله أن تترفع عنه وكان يراها مثله، لم يجد نفسه دونها لأن الحبَّ سوّى بينهما، والحب (مذ كان الحب) مظهره البذل وحقيقته الأخذ، ورداؤه الإيثار، وجسمه الأثرة، وكان يحتمل منها كل شيء، إلا أن تمسّ رجولته، كالمرأة تحتمل من الرجل كل شيء إلا أن يحقر جمالها وأنوثتها، ولم يعد يرى أمامه الفتاة التي ألبسها حبه ثوب الملَك، وحوّطها بهالة التقديس ورآها مثال الجمال وغاية الآمال، ولكن امرأة من النساء تهينه، وهو الرجل المعتد برجولته، وهو الذي لم يحمل المهانة من أخيها إلا حباً بها، واشتعل دمه ناراً، وجنّ قلبه في صدره، وأراد أن يتكلم فشعر كأن لسانه قد وقف، وحلقه قد جف، ولم يع على نفسه إلا ويده ترتفع وتهوي على وجه ليلى بلطمة دوّت في أذنيه كأنها طلقة مدفع، فصحا فجأة، وهاله ما فعل، فانطلق هارباً إلى الإسطبل، وخلا بنفسه يفكر فيما صنع.

لقد أفرغ غضبه في هذه اللطمة فلم يبق في قلبه إلا الحب، وما يتبع الحب من تقديس؛ فكيف فعل هذه الفعلة؟ وهل فعلها حقاً؟ هل لطم محبوبته التي يشتري اللمسة منها بالحياة، ويدفع عنها بروحه مسّ النسيم، وشعاع الشمس؟ أيكسر الوثني صنمه، ويبصق المجوسي على ناره؟

وصارت يده أكره شيء إليه، هذه اليد التي هدمت مستقبله، وطوّحت بأمانيه. وملكته نوبة هياج، فضرب يده بالنافذة، فحطم زجاجها، وأطار شظاياها، وغسل كفه بالدم

قالت العجوز:

وسمعت الضربة فأسرعت إليه، وقلت له:

- ما هذا؟ ماذا صنعت بنفسك؟

وخرجت لآتيه بضماد، وإذا أنا بليلى، تدخل عليّ بثياب المدنية، متوثبة فرحى، تقول:

- اسمعي، اسمعي البشارة. . .

- قلت: أي بشارة؟

- قالت: لقد خطبني، إنه سيتزوجني.

- قلت: من؟

- قالت: أسعد، لقد أعلن عن خطبته لي الآن، وقال: إن أباه موافق وأخي. . .

- قلت: وهل تحبينه يا ليلى؟

وسكت، وحبست أنفاسي في انتظار جوابها، لأني أعلم أن هاني يستمع إليها، فأحببت أن أكرها بحبها. ولكن الحمقاء اندفعت بلا وعي، تصيح:

- إنني أحبه، أحب الأرض التي يمشي عليها، أحب الهواء الذي ينشقه، أحب. . .

وسمعت الباب يصفق. . .

- قالت: ما هذا؟ فلم أشأ أن أخبرها، وتريثت وسألتها:

- أتحبينه أكثر من هاني؟

فتنبهت كأنها كانت في حلم وأفاقت منه على الحقيقة، وتصورت حياتها بغير هاني فلم تجد فيها شيئاً جميلاً ولا بهياً، وهل الحياة إلا الذكريات والآمال؟ وهل لها ذكرى حلوة إلا معه، وهل لها أمل إلا فيه؟ وإذا هي تركته وتزوجت أسعد فهل يترك حبه قلبها؟ هل يذهب من ذاكرتها، ألا تذكرها به صخرة الملتقى كلما نظرت إليها، والليل كلما اشتمل عليها، والقمر الذي كان يرعاهما، والسماء التي كانت تصغي كواكبها لنجواهما، والبحر الذي كانت تستمع أمواجه إلى أحاديثهما، والتلول والوهاد، والنسيم العليل؛ والثلج وأزهار الجبل.؟

والتفتت إليّ فجأة، وقالت:

- كلا، لست أحبه، أحب هاني. إن هاني هو حياتي، إن الفقر معه هو الغنى، والجوع معه هو الشبع، والسجن معه جنة الأرض.

- قلت: فلم إذن، زعمت أنك تحبين أسعد؟ لقد سمع هاني منك تلك الكلمة، وفتح الباب، وألقى بنفسه يائساً في خضم الليل. . .

- قالت: ماذا؟! أسمعني هاني؟!

وشخصت لحظة وجمد تفكيرها، فما يسيل، ووقف عند هذه النقطة فما يتحرك.

أهي تحب أسعد؟

فما هذه الكلمة التي نطق بها لسانها في غيبة قلبها، وزورها على نفسها تزويراً؟:

أهي تحب أسعد؟ وماذا بينه وبينها؟ ما يربطه بها؟ وهل تنسى هاني وعهود الطفولة؟ ألم ترضع هواه مع اللبن وليدة وتنشأ عليه؟ ألم تسلك معه طرق الحياة سهلها ووعرها؟ ألم تأكل معه على مائدة الحياة خيرها وشرها؟ أفتهدم سعادتها كلها بكلمة رعناء. . . أنفخة في الهواء تقتلع صرحاً ممرداً ثابت الأساس، رفيع الشرفات؟

ووثبت إلى الباب، ففتحته واقتحمت الظلام.

وكانت ليلة قارسة البرَد، عاصفة الريح، جنت فيها الطبيعة فهي تضرب بيديها، وتنثر البرد والثلج، وتلطم الوجوه والبنى. فخرجنا وراءها نناديها. . . وهي تعدو متحدرة، تثب على الصخور وتقفز إلى الأعماق، تنادي: هاني. هاني. فيضيع صوتها في عويل الرياح، وعزيف العواصف، ثم انقطع الصوت وخفي الشخص، وضاعت منها، فلم نجدها. . .

ورأينا أخاها مقبلاً سكران، فخبرناه، فقال:

- سأشرب كأساً أخرى على هذه البشرى، وقهقه كأن إبليس يضحك بفيه، وأمَّ القصر، ولبثنا نفتش حتى بدا الصباح فإذا هي ملقاة في حفرة، وقد علاها الثلج، فتعاونا حتى حملناها إلى دار أسعد في عاليه، لتلقى ناساً يعتنون بها، وطبيباً يداويها. . .

أما هاني فلم يعد ولم نسمع عنه خبراً. . .

(البقية في العدد القادم)

علي الطنطاوي