انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 726/من وراء المنظار

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 726/من وراء المنظار

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 06 - 1947



مذياع. . .!

سوف لا تضحك يا قارئي من هذا الذي أكتب، بل إنك ستتحمس مع القوم انقلبوا جميعا على الرغم مما كانوا فيه من ألم وعذاب وضعف من أكبر المتحمسين. وحسبك أن تعلم بادئ الأمر أني أنا الذي طالما تفكهت بكل من يتحمس وضحكت ملء نفسي قد بت في الحماسة أشد الناس أجمعين!

هذا شاب يضطجع على سرير، بيده مجلة ينظر فيها وقد لمح منظاري على غلافها بعض الصور المغرقة في المجون والفتنة، وبجانبه مذياع لا يبتعد عن إذنه إلا بقدر ما بين عينيه والمجلة، والمذياع يرسل صوته كما لو كان في مقهى من أشد المقاهي جلبة وصخبا، وصاحبنا يقرأ ويسمع ويمتع بالجمال العاري ناظريها حرمه الله منهما ولا حرمه من ظرفه وأناقته وحسن ذوقه - كما يمتع بالموسيقى واللحن الصاخب أذنيه.

ولعلك تقول وماذا في ذلك من غرابة؟ وماذا فيه من بواعث التحمس حتى تستعدي عليه القراء على هذا النحو؟ ألا فاعلم رعاك الله ورقاك السوء وجنبك وإيانا مواطن التحمس إن هذا الشاب الظريف كان يضطجع على سريرة في أحد المستشفيات، أي والله في مستشفى يحيط به في الحجرات المجاورة مرضى منهم من يتلوى على سريرة من فرط ما به، ومنهم من يطلب غفوة تنقذه من عذابه، ومنهم من اشتد به الصداع حتى أذهله عما بقى من صوابه، ومنهم من يتراءى له شبح الموت في كل شئ، ومنهم من يطلب الهدوء حتى ليتضجر من وقع أقدام ممرضته أو من مجرد فتحها باب غرفته وإنها لتنتقل كما ينتقل الخيال في الحلم!

والمذياع يجلجل صوته بكل ما هب وما دب، وقد أحضره هذا المريض الظريف، شفاه الله، من بيته، وكانت حجرته لسوء حظ هؤلاء المساكين من حوله في مفرق الطرق من ممرات المستشفى، وكان بابها مفتوحاً إلى آخر ما ينفتح، كما كان صوت مذياعه بالغا في الارتفاع آخر ما يمكن أن يرتفع.

وضج المرضى أو ضج من يستطيع منهم أن يحتج، أما الذين برحت بهم الأوصاب فكانوا يتململون من هذا الطرب المفاجئ الذي نزل بهم فإذا هو يضاف إلى ما يلاقون من أ العذاب!

وغمرت أيديهم الأجراس، وهي من نوع عالي الصوت، فأضيف نغماتها إلي نغمات المذياع، واختلط بهذا كله استنكار الزائرين واستغاثة بعض من استطاعوا المشي من المرضى، فهذا يصفق بيديه، وذاك يتسخط وبتكره ويستعيذ بالله، وذلك ينادي المسؤولين؛ وتألفت من أولئك جميعا ضجة لن يكون فيما يصور الخيال أشد منها نكرا ولا أبغض نشوزا.

كل ذلك وصاحبنا لا يكترث لشيء، كأنه وحدة في البحر أو في الصحراء. وطرقت الباب أستأذن عليه، ودخلت الحجرة فنظر إلي مستفهما بهزات من رأسه المضطجع على الوسادة، فوقع في نفسي إنه ثقيل السمع فهو لذلك يعلي صوت المذياع، ودنوت منه ورفعت بالكلام صوتي فحبس صوت المذياع واستمع إلي، فرجوت منه وأنا أدعو له بالشفاء أن يغض من صوت مذياعه رحمة بالمرضى وبخاصة مريض كنت أعوده وقد اشتد به الألم ولا يفصل بينه وبينه إلا جدار الحجرة الرقيق.

ونظر إلي مستنكرا - كما فهمت - تطفلي وتهجمي على حجرته واعتدائي على حريته، ولم يرد علي أن أدار مفتاح مذياعه فأعاده أشد مما كان إن كان فيه فضل لزيادة!

ونظر في صحيفته كأن لم يكن أمامه أحد! وللقارئ أن يتخيل نفسه في موضعي، ثم لينظر مبلغ ما في نفسه من تحمس حتى لمجرد هذا الخيال! لقد فكرت أن أنتزع المذياع من مكانه فالقي به في الحديقة، ولو إني فعلت ذلك ما فتأ ما كان في نفسي من غضب. على إن مدير المستشفى قد جاء بعد ساعة فأمر بانتزاع هذا المذياع وحرم دخوله إلى حيث كان. . . وكفى الله المؤمنين القتال. . . نحن لعمرك ولعمري أيها القارئ قوم كثيرو العيوب الاجتماعية، ولتتحمس ما شئت إن أنكرت مني هذا القول، وأكثر هذه العيوب ذيوعا وأرذلها فيما أرى وقعا عدم الاهتمام بالغير، مادمنا قد أرضينا أنفسنا، وما يظن أن في الأمم منهم مثلنا في عدم الاهتمام بالمحيط الاجتماعي، وقلما نعنى بما تقتضي به اللياقة. أقول هذا وليغضب القارئ العزيز ما شاء له غضبه، فأنا متحمس كما ذكرت على غير عادتي، وإن كنت ضناً بصحتي أدعو الله مخلصا ألا يريني بعد اليوم ما يعود بي إلى مثل هذه الحماسة! الخفيف

حقوق المرأة

للأستاذ علي عبد الله

يخيل إلي إن الذين يطالبون بحقوق المرأة. . . ويريدون لها أن تشترك في السياسة، وتعطي صوتها في الانتخابات النيابية، إنما يتآمرون عليها ويعملون على تضييع حقوقها، وإفسادها بإخراجها عن طبيعتها ووظيفتها التي خلقت لها

لأن الله خلق المرأة لتكون أنثى، وجعل وظيفة الأنوثة من أهم وظائف الحياة، وأتاح للمرأة أن تبدع فيها وتنتج ما شاء لها الإبداع والإنتاج؛ وهيأ لها كل فرصة للبلوغ بهذه الأنوثة إلى قمة المجد والعظمة

ولذا كان كل تصرف أو عمل يراد به إبعاد المرأة عن عملها، وإخراجها عن دائرة اختصاصها، وإشراكها مع الرجل فيما هو من عمل الرجولة محاولة طائشة ليست من مصلحة المرأة في شئ

إنهم يطلبون مساومة المرأة بالرجل!! فإذا فرضنا أن هذه المساواة قد تمت؛ بل لنفرض أن المرأة قد أصبحت رجلا بالفعل!! فهل تكون أسعد حظا وأكبر شأنا أو أعظم منزلة مما هي الآن؟

ما ظن ذلك أبدا، وما زالت المرأة في نظري تعتز بجمال الأنوثة، وتباهي بالطرف الكحيل، والخد الأسيل، والخصر النحيل، ولو إنك شبهت امرأة برجل مرة واحدة لاعتبرت ذلك إهانة لها وتجريحاً لجمالها!!

ولعل الذين يطالبون بمساواة النساء بالرجل لا يدرون إن من الخير للمرأة أن تبقى كما هي وألا تؤدي من الأعمال إلا ما يتفق مع رقة الأنوثة وسحر النساء، وإنها في أنوثتها افضل ألف مرة مما لو كانت قربيه من الرجولة

ولاشك إن طلب النساء المساواة بالرجال كطلب الرجال المساواة بالنساء، فإذا أمكن أن يستقيم هذا المنطق مع منهاج الحياة الاجتماعية أمكن للمطالبين بحقوق المرأة أن يحققوا مطالبهم!! إنني أعتقد إن المرأة ليست في حاجة إلى شئ من الحقوق حتى تطالب به! فهي فيما أرى متمتعة بكافة الحقوق التي منحتها إياها الطبيعة والشريعة، وهي مساوية لحقوق الرجل تماما، وكل ما في الأمر إن هذه الحقوق تختلف باختلاف الجنسين، وقد فرض الله لكل منهما ما يتفق مع فطرته وقدرته وخلقته، وبذلك يمكن النظر إلى ما للرجل وما للمرأة عن طريق المساواة وتوحيد الأعمال، لأن هذا يفسد نظام المجتمع ويضع الأمر في يد غير أهله، وقد يسر الله كل جنس لما خلق له

وبشيء من الموازنة بين ما قررته الشريعة للنساء وللرجال نجد المرأة في الكفة الراجحة، ونرى أنها حين تطلب المساواة بالرجل تنزل عن شئ كثير من امتيازاتها

هذا عقد الزواج الذي يجمع بين المرأة والرجل، يلتزم فيه الرجل بالمهر والنفقة بجميع أنواعها: نفقه المسكن والغداء والكساء وما يتبعها من ملحقات، وهو مع ذلك كله لا يعطي الرجل أكثر من حق الاستمتاع بالمرأة استمتاعا عاطفيا بحتا مجردا عن الماديات والخدمة والتسخير

وقد حددت الشريعة هذا المعنى بنص الآبه الكريمة (ومن آياته أن خلقَ لكم من أنفسكم أزواجاً لِتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة إنَّ في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)

وإذاً فالعلاقة بين الزوجين يجب أن تقوم على أساس سكون النفس وارتياحها واطمئنانها ورضاها، ولن يأتي هذا السكون إلا بتجاوب الشعور، وتبادل العاطفة وتقارب الثقافة وتكافؤ التربية. وأضافت الشريعة إلى هذا كله وجوب توفر المودة والرحمة، وكلها صفات عاطفية مجردة عن المنفعة والانتفاع، وهذا نوع عجيب من السمو رفع المرأة إلى أرقى المراتب ووضع العلاقة الزوجية في أسمى الدرجات

لقد كانت المرأة في الجاهلية تباع وتشترى، وتكره على الزواج والبغاء، وتورث ولا ترث، وتمنع من التصرف في مالها، وكان قدماء الرومان يشكون في إنها إنسانة ويعتقدون إنها حيوان نجس لم يخلق إلا للخدمة، وكان بعضهم يغالي في اتقاء شرها ويرى تكميم فمها لمنعها عن الكلام كالكلب العقور أو الجمل العضوض!! وأغرب من هذا كان يباح للوالد ذبح ابنته أو دفنها في التراب وهي على قيد الحياة دون أن يؤخذ بجزاء أو قصاص (وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم هنا نقص ص 619

الجهاد الوطني في مراكش

للأستاذ عبد الكريم غلاب

في جمع ضم نخبة ممتازة من أصحاب الدولة والمعالي من مصريين وشرقيين وعرب تحدث متحدث عن مراكش وما تلاقيه في سبيل الحصول على استقلالها، فرد عليه أحد أصحاب المعالي قائلا: إننا لا نسمع إلا قليلا عن الحركة الوطنية في مراكش، ولذلك لا نستطيع أن نقوم نحوها بشيء جدي. ذلك حديث صاحب المعالي ولست أدرى أأنكر عليه حديثه أم أسرد عليه بعض الحقائق التي تبرهن له على إن مراكش جاهدت في سبيل استقلالها جهاد المستميت، وضحت في سبيل قوميتها تضحية لا أحسب أن أمة شرقية ضحت أكبر منها.

والحقيقة إن مراكش وقعت تحت الحماية الفرنسية، ويكفي أن أقول (الحماية الفرنسية (ليدرك إخواننا العرب في الشرق ما تعانيه هذه الأمة من بطش وجور واضطهاد، وليدركوا أيضاً - إن كانوا قد سمعوا أو رأوا ما وقع في سوريا ولبنان طوال الربع قرن - ما يتجرعه المراكشيون في سبيل كيانه الوطني؛ مع ما يوجد هناك من فارق جوهري بين الحالة في الشرق والحالة في مراكش. وهذا الفارق وأن مراكش وقعت في الركن الغربي في شمال أفريقيا، وبذلك أصبح في إمكان الفرنسيين إن يقفلوا الأبواب في وجهها، ويكتموا أنفاسها حتى لا يسمع صوتها أحد في الشرق أو الغرب. وقد تم لها ذلك. فما إن تتحرك البلاد حتى تقفل جميع الحدود، وتمنع إدارة البرق من أن ترسل أي رسالة إلى الخارج وبذلك يتم للفرنسيين أن ينفردوا بمراكش فيقضوا على حركتها بالحديد والنار - ويخمدوا أنفاسها إلى حين، وبذلك لا يدري أحد ماذا جرى في مراكش.

الست ترى معي إن صاحب المعالي معذور في قوله إن حركة مراكش لا يسمع لها صوت؟ وسنحاول في هذا الحديث أن نلخص جهاد المراكشيين في سبيل استقلالهم وحريتهم.

يبدأ تاريخ الجهاد الوطني منذ فكر الأجانب في احتلال مراكش، وقد فطن لذلك المراكشيون فكانت ثورة المولى عبد الحفيظ وتوليته العرش سنة 1907 قائمين على أساس أبعدا خطر الأجانب عن البلاد والقيام بالإصلاحات الداخلية التي يتطلبها العهد الجديد كما ورد في الوثيقة التي بويع على أساسها. وقد قام المراكشيون في ذلك العهد ضد المولى عبد العزيز وعملوا على خلعه لأن النفوذ الأجنبي بدأ يتسرب إلى البلاد في عهده. ولما أخفق المولى عبد الحفيظ في إبعاد الفرنسيين عن البلاد وإخراجهم من مدينتي (وجره) و (الدار البيضاء) وأكره على إمضاء معاهدة الحماية سنة 1912، قامت ثورة في مراكش كلها وخاصة في العاصمة (فاس) التي حدثت فيها مصادمات عنيفة بين الشعب المراكشي والجيش الفرنسي. وهذه المصادمات - وإن انتهت بالإخفاق - ترغم الفرنسيين على الجلاء عن العاصمة، لولا الإمدادات القوية التي تلقاها المرشال (ليوطى) قائد الحملة الفرنسية. والمؤرخون الفرنسيون تحدثوا عن هذا العهد يقدرون هذه الحوادث التي يسمونها (أيام فاس السوداء).

ولئن استلم المراكشيون في المدن الكبرى لأنهم غلبوا على أمرهم تحت مدافع الفرنسيين وبنادقهم. فقد استمرت الحرب في القبائل الجبلية وخاصة في الجنوب. استمرت حرب العصابات بين الفرنسيين والمراكشيين اثنتين وعشرين سنة فلم تستلم حاميات الجنوب إلا في سنة 1934.

وفي هذه الفقرة قام الأمير عبد الكريم الريفي ليخلص البلاد من يد الإسبانيين والفرنسيين، ولا نريد أن ننوه بانتصاراته العديدة، وبما لاقته الجيوش الإسبانية، والفرنسية على يديه، فإن القراء في الشرق العربي يعرفون هذه الحروب ويقدمونها، وهم يعرفون إن عبد الكريم بطل مراكش لم يعمل على بناء مراكش الحديثة فحسب، ولكنه ساهم في بعث الروح العربي في الشرق أيضا. ويكفي أن نقول أن انتصاراته أقضت مضجع أوروبا كلها، وجعلت مجلس النواب في كل من فرنسا وإسبانيا يطالبان بسحب الجيوش من مراكش، والتسلم للأمير عبد الكريم، وقد كادت تقوم ثورة شعبية في إسبانيا لتنقذ البلاد من ويلات الحرب الريفية التي استمرت زهاء خمس سنوات كاملة.

ولم يكد الأمير عبد الكريم يلقي سلاحه حتى تلقفته منه الحركة الوطنية السلمية التي أعلنت ابتداء جهادها في مايو سنة 1930. قامت هذه الحركة لتعمل على تخليص البلاد من نير الاستعمار الفرنسي والإسباني، فأخذت تعمل جاهدة لتحقيق المطالب القومية للشعب المراكشي. وقد تمثلت هذه الحركة في حزب واحد هو (كتلة العمل الوطني) وكان لهذه الكتلة برنامج وطني يشمل الإصلاحات الضرورية التي يجب على كل من فرنسا وإسبانيا أن تعالج بها الحالة في مراكش. وما كادت الكتلة تعلن عن وجودها حتى التف حولها الشعب، وأصبح الفرنسيون يدركون خطرها على مشروعاتهم الاستعمارية، ومن أخذوا يقاومونها مقاومة أدت إلى اصطدامهم بالشعب مرات عديدة، وكان من نتيجة ذلك أن سقط في ميدان الجهاد عدد كبير من المجاهدين المراكشيين.

وكانت سبيل الفرنسيين في محاربة الحركة الوطنية تقوم على إقفال الأبواب في وجه الوطنيين ومنعهم من كل من شأنه أن يقوى نفوذهم من الشعب. فقد كانوا ممنوعين من إصدار صحيفة عربية واحدة تعبر عن آرائهم كما منعوا من فتح نواديهم، ومن إعلان صوتهم بأي طريقة من طرق الإعلان. جاهد الوطنيون ليزيحوا عنهم هذا النير، ولكن الفرنسيين كانوا يمنعون في طرقهم الاستعمارية، وهذا ما جعلهم يصطدمون بالشعب المراكشي فسلطوا جند السنغاليين المعروف بقسوته ووحشيته على الشعب الأعزل. . . وأخيرا أصدرت السلطة قرارا بحل كتلة العمل الوطني وأغلقت نواديها وصحفها، وقبضت على زعمائها، وبقي زعيم الكتلة محمد علال الفاسي في منفاه بالكابون في أفريقيا الاستوائية منذ سنة 1937 إلى الآن

وهكذا أصبحت مراكش مباءة للثورات الجامحة في سبيل الحرية. ولكن لم يكن جهاد الحركة الوطنية ثوريا يعمل على زحزحة النفوذ الأجنبي بالثورات فحسب، ولكنه كان جهاداً يقوم على أسس متينة لبناء صرح الأمة المراكشية. فرجال الحركة رأوا إن الإدارة الفرنسية لا تقوم بشيء يذكر في سبيل التعليم، ولذلك قاموا بحركة تعليمية واسعة النطاق، ففتحوا المدارس الحرة في جميع أرجاء البلاد برغم ما قاسوه من محاربة الإدارة الفرنسية لهم؛ وبذلك أنشأوا جيلا متعلما من الشباب، وكان مجهودهم في سبيل التعليم أضخم من مجهود الإدارة برغم الأموال التي خصصتها الإدارة في ميزانيتها للتعليم. وقاموا أيضاً بحركة تحريرية اجتماعية فجندوا الشباب لمحاربة الجهل والفقر ولتنوير أذهان الشعب، وحملوا حملة منكرة على بعض العادات والتقاليد التي يغذيها الاستعمار الفرنسي. ثم قاموا بحركة خطيرة وهي اقتحام مناطق جبال الأطلس التي منع الفرنسيون دخولها إلا بجواز سفر. وبذلك فضحوا (السياسة البربرية) التي اتبعتها فرنسا في هذه المناطق والتي تقوم على فصل جنوب مراكش عن شمالها. وقد ساعدت الحركة الوطنية في بعث النشاط الأدبي والفكري في مراكش فقاموا بإصدار مجلات وكتب أدبية تعرضت هي الأخرى للمصادرة والتعطيل. ومما يذكر للحركة الوطنية بالفخر إنها أنشأت صحفاً ونوادي وجمعيات في قلب باريس للدفاع عن مراكش. وكان لمجتلي (مغرب) و (أطلس) الفرنسيتين اللتين كان يحررها الشبان المراكشيون في باريس أثر كبير في الرأي الفرنسي فأوجدت نوايا ووزراء فرنسيين يعطفون على الحركة المراكشية.

وقامت الحرب الأخيرة فقام المراكشيون يساعدون دول الحلفاء ويبذلون أبناءهم الذين حاربوا في كل الميادين الهامة ببسالة شهد لهم بها مستر تشيرشيل في إحدى خطبه، وقدمت الحكومة المراكشية أموالا طائلة مشاركة في المجهود الحربي. ثم قدمت لفرنسا المحاربة وللجنة التحرير الفرنسية قروضا كبيرة استعانت بها في استرجاع بلادها المحتلة. وقد سخرت جيوش الحلفاء أرض مراكش وموانئها ومطاراتها واستفادت من منتجاتها الضخمة. كل ذلك ظننا من المراكشيين بأن الحرب ستخلق مبادئ جديدة وستتيح للشعوب الصغيرة أن تتمتع بمبادئ الميثاق الأطلنطي. ولذلك اتحدت كلمة الأمة تحت زعامة (حزب الاستقلال) الذي قدم وثيقة لدول الحلفاء ومن ضمنهم فرنسا، طالب فيها باستقلال مراكش، وتوحيد أراضيها، وإقامة نظام ديمقراطي دستوري؛ كل ذلك في يناير سنة 1940 ولم تكد تعلن هذه الوثيقة حتى جند الفرنسيون جنودهم، وقبضوا على زعماء الحزب وشردوهم ونفوهم، ثم أطلقوا يد السنغاليين في كل المدن والقرى، فمثلوا مأساة يندى لها جنين الإنسانية، ومنعت الإدارة الفرنسية عن المدن والقرى مواد التموين الضرورية والماء والنور. ولكن المراكشيين ثاروا في وجه الفرنسيين وحلفائهم السنغاليين، فوقعت معارك طاحنة سقط فيها مئات المراكشيين ضحية دفاعهم عن حريتهم واستقلالهم، وحكم بالإعدام على كثير من الوطنيين وبالنفي والسجن مع الأشغال الشاقة على كثير غيرهم ولا يزال زعيم الحزب أحمد بلا فريح منفياً بجزيرة كورسيكا برغم أصابته بأمراض خطيرة. ولكن الحركة لم تمت بل ازداد الشعب إيمانا بحقه في الحياة الحرة الكريمة ولا يزال بعمل برغم ما ينتابه من نكبات إلى أن يصل، وسيصل. . .

عبد الكريم غلاب الشباب والفراغ والجدة

للأستاذ مصطفى القوني

(هذه الكلمة هي خاتمة الفصل الأخير من الطبعة الثانية من

كتاب الائتمان: عرض جديد لأصول علم الاقتصاد) الذي طبع

في دار الرسالة وظهر في هذا الأسبوع عن مكتبة الأنجلو

المصرية).

يصل المجتمع إلى أقصى قدر من الرفاهية الاقتصادية إذا استغل موارده على النحو الذي يتيح له أقصى قدر من الشباب والفراغ والجدة. ونعني بالجدة الثروة. ونعني بالفراغ أن يقصر وقت العمل بالقدر الذي يهيئ للناس التمتع بثمرات عملهم. ونعني بالشباب علو مستوى الصحة العامة، لأنه لا خير في العيش إذا فسدت آلته، وآلة العيش صحة وشباب.

والمشكلة الاقتصادية هي مشكلة قلة الوقت والموارد، فإذا استطاع المجتمع أن يستغلها أفضل استغلال خفف من حدة قلتها وفاز من القليل بالكثير.

ولكن الثروة والفراغ والقدرة على الاستمتاع وإن كانت نعمة حين تتاح للناس في مجموعهم، فإنها تنقلب نقمة إذا اختص بها أفراد دون آخرين، نقمة تفسر قول من قال:

(إن الشباب والفراغ والجِدَه ... مفسدة للمرء أيّ مفسدة!)

ولنر الآن طرفا من مفاسد تباين ثروات الناس وتباين دخولهم.

إن ثروات بعض الناس تغنيهم عن السعي لكسب أرزاقهم، ويعيش مثل هؤلاء عيشة بطالة اختيارية. وليس للبطالين ما يشغلهم غير الجري وراء حوافز الاستمتاع ومثيرات الشهوات، فهم يخلقون لأنفسهم (حاجات) ثم يجرون وراء إشباعها. ويقبل البطالون على شرب الخمر، مثلا، تزجيه للفراغ وهرباً من السأم والملالة، ولكن غيرهم يحاول أن يجري مجراهم فتشيع المفاسد بين العامة الذين يحاولون أن يتشبهوا بالخاصة وإن لم يكونوا مثلهم.

ومن هنا كان توجيه جانب من نشاط المجتمع الاقتصادي إلى إشباع (حاجات) البطالين ومن يجرون مجراهم. والنشاط الاقتصادي، أو السعي للرزق، عبارة عن صنع أشياء أو أداء خدمات يطلبها أناس ويدفعون نظيرها (ثمنا). وإقبال الناس على شرب الخمر يدفع غيرهم إلى التوسل للعيش بالخدمة في المواخير وطالب القوت ما تعدى.

وبعض من ينظرون في كتب الاقتصاد نظرات عابرة، ينعون على الاقتصاديين اعتبارهم الرغبات المحرمة والسافلة (حاجات) وينمون عليهم وصف ما يسد هذه الرغبات بصفة (المنفعة). ولكن الاقتصاديين يحللون النظام الاقتصادي، بما فيه من خير وشر، ويحاولون تفسير دوافع السعي للرزق وغايات هذا السعي. ويسعى المرء للرزق بالقيام بعمل (يطلبه) غيره ويدفع فيه (ثمناً) ًوتدفع الناس ثمناً لما يطلبونه لأنهم يرون فيه منفعة، أي صلاحية لسد رغبة؛ وقد تكون هذه الرغبة عالية أو سافلة، حلالا أو حراماً، خيراً أو شراً، ضرورة أو ترفاً. وإهمالنا دراسة الحاجات التي يجري بعض الناس وراء إشباعها، بالرغم من أن في هذا الجرى خروجا على مبادئ الدين والخلق، نقول إن إهمال هذه الحاجات هروب من الواقع الذي نتناوله بالتحليل للكشف عن علله وأسبابه وهل يتورع من يقومون، في المعامل، بتحليل فضلات الإنسان أو الحيوان، عن مسها لقذارتها أو لنجاستها؟

ولنعد إلى مساوي تباين ثروات الناس. إن الإفراط في الغنى كالإفراط في الفقر، نقمة على صاحبه. وإن أحس الفقير ألم الجوع فإن الغني قد يصاب بالتخمة. وإن لم يجد المعدم ما يستر عريه فإن إفراط الثرى في التأنق يحمله هما كان حريا به أن ينأى عنه. وإن كانت مساكن العامة تزدحم بهم ازدحاما، فإن عناية الخاصة بمساكنهم الرحيبة تشغل بالهم بما لا طائل وراءه.

وانقسام الشعب شعبين، أغنياء وفقراء، جناية على الأخلاق، وبنات المعدمين فريسة سهلة لا غراء المثرين وسماسرتهم الذين يتوسطون بين من يبعن أجسادهن وأرواحهن وبين من يشترونها.

وتحاول الديموقراطية السياسية أن تسوي بين الناس، وإن اختلفت أقدارهم في المجتمع، وذلك بأن تجعل لكل فرد صوتا واحدا في انتخاب السلطات الحاكمة. ولكن الناخبين عرضة لا غراء مرشحي المجالس النيابية الذين يحاولون، وقد ينجحون، شراء أصواتهم بالمال. وليس من السهل سيادة الديموقراطية ما لم تدعم الديموقراطية السياسة ديموقراطية اقتصادية.

ثم هناك ما يجري من سباق بين المثرين: سباق غايته الخيلاء والزهو الذي لا ينتهي إلى نهاية. وتسابق أفراد الطبقات الموسورة في مظاهر الغنى مصدرهم لهم، لأن كلا يسابق ويخاف أن يسبقه غيره. ومن سلع الترف ما يكاد يكون كل الغرض منه الزهو، ومن السيدات من تقتني جواهر نادرة، تخاف عليها من السرقةفتصنع لها من الحلي المصطنعة نسخة تطابق الاصل، وتخزن الجواهر النادر في خزانتها وتتحلى بالحلى الزائفة. ومن جامعي روائع فن التصوير من يستأجر خبيرا يتعرف له أصلة الصور التي يقبل شرائها، لأنه يشتريها لا عن إحساس بجمالها وإما عن اعتزاز بمقدرته على شرائها.

وقد يرد على ما قدمناه من أمثله على مساوئ توزيع الثروة، بأن الإقبال على شراء شئ، أيا كان هذا الشيء، يدفع إلى عمالة بعض الناس ويسرع من دوران عجلة النشاط الاقتصادي ويشيع الرخاء. ولكن ليس سواء أن يعمل أناس في صنع الخمر أو أن يعملوا في صنع الخبز. وليس سواء أن يشتغل المرء بتجارة الماشية أو بتجارة الرقيق وإنه لإسراف، ومفسدة أي مفسدة، إن تحول بعض موارد المجتمع من إنتاج ما يسد الحاجات الضرورية لجمهرة الناس إلى إنتاج ما يشبع نزوات البطالين والمترفين.

وتقليل التفاوت بين الدخول يقلل من الظلم الاجتماعي ويهئ الفرصة لزيادة رفاهية المجتمع. والقضاء على تباين توزيع الثروة، وعلى تفاوت الفرص، قد يكون عن طريق الثورة كما قد يكون عن طريق التطور التدريجي، ولكل من السبيلين أنصار.

وتتدخل الحكومة محاولة إصلاح، ما فسد، وتفرض ضرائب على الموسورين والقادرين على تحمل عبء الضريبة، وتنفقها على ما يعود بالخير على الجميع. وكلما زاد تدخل الحكومة في هذا الشان قل المدى بين الثورات المختلفة والدخول المختلفة، وسار المجتمع خطوة نحو تحقيق العدالة الاجتماعية.

مصطفى القوتي