مجلة الرسالة/العدد 726/القسم الثاني
مجلة الرسالة/العدد 726/القسم الثاني
فرنسا ومستعمراتها
بقلم أحمد رمزي
فرنسا والحرب العالمية الثانية: بين الديمقراطية والفاشية
كانت فرنسا في وسط برامجها لتنفيذ هذه الطفرة الصناعية لكي تعوض ما فات منها حينما قامت الحرب العالمية الثانية، جاءت هذه الحرب وهي منقسمة في الداخل، فالروح الرجعية التي تفشت في عدة بلاد بأوروبا وأفريقيا وآسيا وأخذت في فرنسا مظهر العنف في مظاهرات الكونكورد سنة 1933، وهذه الروح لم تكن ماتت في سنة 1939 بل كانت تمثل مصالح وأغراض تلك الفئة التي أشرنا إليها من أساطين الصناعة الذين أخذوا على عاتقهم تنفيذ هذه البرامج. وكانت هذه الفئة تؤمن بضرورة مسالمة برلين وروما، لا حبا فيهما أو رضوخا لأرادتهما بل لأن الوطنية تملي بأنه يجب تحمل كل شئ في سبيل السلم حتى تستكمل فرنسا بناءها الصناعي ولو كان في ذلك الخروج من ميثاق عصبة الأمم أو إهمال المحالفات والضمانات القائمة.
صداقة بريطانيا:
يقابل هذه الروح تيار الديموقراطية ممثلا في روح الجماعات والأحزاب السياسية والبرلمان، وكانت جميعا لا ترغب في الاندفاع على طريق غير مأمون العاقبة: يفقد فرنسا مركزها الأدبي كدولة عظمى إذا حنثت بالمواثيق والضمانات المأخوذة أو ضربت بالمخالفات والمعاهدات عرض الحائط ويفقدها صداقة حليفتها بريطانيا، تلك الصداقة التي بنيت عليها سياسة فرنسا منذ الاتفاق الودي عام 1904 واكتسابها المواقف الاستعمارية في مؤتمر الجزيرة 1907 وأيام حادث الغدير في مراكش سنة 1911، وكانت العامل الأساسي لكسب حرب 1914 - 1918.
أثر بريطانيا في سياسة فرنسا:
وكانت هناك دواع تملي باستبقاء تلك الصداقة من الجانب البريطاني نفسه، فقد ظهر جلياً بعد تقدم الطيران وموقف إيطاليا المعادي إن أراضي الإمبراطورية الفرنسية ستكون ف السلم والحرب الممر الطبيعي للطائرات البريطانية إذا تحاشت البحر الأبيض المتوسط: لم يكن من السهل إهمال علاقات هذا الجوار وما تمليه عليه المصالح المشتركة للبلدين وما يفرضه تعاشق حقوق الاتفاق بين الإمبراطوريتين، ولهذا لم تترك السياسة البريطانية هذه الناحية تسير طبقا للأقدار بل مالت بقواتها وعبأت أساليبها المختلفة وعضدت الاتجاه المضاد للحركة الأولى، وكان إن حكمت فرنسا حكومات بقيت حريصة على محالفة بريطانيا، وترتب على هذا أن دخلت فرنسا الحرب العالمية الثانية بجانب الإمبراطورية البريطانية.
ومن هنا نفهم حقيقة العرض الذي تقدم به تشرشل قبل تسليم يونيه 1940 وأقترح فيه إدماج الإمبراطوريتين في اتحاد واحد وهو العرض الذي توهم فبه الكثيرون بأنه كان عرضا خياليا لا يسند إلى أساس.
الحرب العالمية الثانية 39 - 1945 والمستعمرات الفرنسية:
جاءت الحرب فمرت شهورها الأولى وتحملها الناس، ثم اشتدت وطأتها على فرنسا وظهرت عيوب الأنظمة الفرنسية وتفكك الأحزاب الحاكمة وخيانة رجال الصناعة وقوات الجيش، وتوالت الهزائم واضطرت فرنسا للتسليم عقب قتال لم يدم طويلا، وكان أن طرأ حادث غريب في التاريخ العالم جاء نتيجة لإبرام عقد الهدنة بين فرنسا وألمانيا عام 1940، وهو أن يحتل العدو بلد أوروبيا أو جزءاً منه بجيوشه وتبقى أراضى المستعمرات من غير احتلال، وليس في ذلك من عجب إذا كانت الهدنة لوقف القتال ثم تعقبها مفاوضات الصلح وينتهي الأمر بإبرامه عقب فترة قصيرة من الزمن كما حدث سنة 1870. أما أن تعقد الهدنة ويتضح من شروطها استثناء الإمبراطورية الفرنسية وبقاء جيوش الجمهورية معبأة للدفاع عنها ويستمر ذلك شهورا ثم سنوات ما دامت الحرب قائمة، فأمر جديد أثار الكثير من المشاكل كلما بعدت نهاية الحرب.
فهناك فريقان يتحاربان حربا مميتة، وهناك إمبراطورية لدولة قبلت التسليم، فما هو حكم الأراضي التي سلمت أهي دار حرب وقتال أم هي على الحياد؟ لاشك في أن القسم الفرنسي الذي يشغله العدو بجيوشه هو دار حرب.
فما هو موقف القسم غير المحتل وأهم جزء فيه تلك الإمبراطورية بأقاليمها المتسعة؟ هدنة سنة 1940 ومستعمرات فرنسا:
كنت في بيروت في بداية الحرب وبعد عقد الهدنة، ولقد شعرنا وشعر الناس جميعا إن الحياد الذي أرادت فرنسا أن تظهر به غير موجود ولا يمكن التمسك به نظريا أو عمليا فقد كانت الطائرات الإيطالية والألمانية تضرب فلسطين وكان بعضها يصاب بنيران المدفعية فيضطر للهبوط في أراضى سوريا ولبنان فاتخذت السلطات الفرنسية معها في الحوادث الأولى الإجراءات التي ينص عليها باب الحياد في القانون الدولي، وكان الألمان لجنة عليا في فيسبادن تشرف على أمور الهدنة مع ألمانيا لا تجعل من فرنسا ومستعمراتها بلدا محايد، وما يسري على المستعمرات يسري على الأراضي المشمولة بالانتداب: وبناء على ذلك أفرجت السلطات العسكرية الفرنسية عن الطائرات والطيارين وسمحت بالمرور والنزول في المطارات، فكان من بريطانيا إن قذفتها بالقنابل ووجهت حملتها لاحتلال أراضي سوريا ولبنان.
حالة شاذة:
هذه الحالة الشاذة لأوضاع الإمبراطورية الفرنسية طول مدة الحرب أوجدت في أراضيها نوعا من الحكم استفاد منه الفرنسيون للوقوف بين الفريقين المتحاربين، ولو إنه أدى في النهاية إلى خسارة أسطولهم واحتلال الألمان والطليان لتونس إلا إن هذه الحالة لفتت أنظار الفرنسيين جميعاً للإمبراطورية وإثرها وأهميتها وما ينتظر منها وإنها قوة المستقبل ودرع الشعب الفرنسي وغير ذلك مما كانت تردده الصحف وتذيعه الأنباء المختلفة من محطات اللاسلكي.
انقسمت فرنسا إلى فريقين: حكومة فيشي وحركة الجنرال ديجول، واتفق كلاهما على أمر واحد هو الاحتفاظ بوحدة الإمبراطورية وعدم التفريط في أي جزء منها، وترجع الأخطاء وأعمال العنف التي ارتكبها ممثلو فرنسا في القطرين الشقيقين سوريا ولبنان إلى تمكن هذه الفكرة منهم تمكنا فأعماهم عن تلمس الحقائق ومواجهة تطور العالم الجديد.
وأغرب من ذلك إن الحلفاء حينما وجهوا حملتهم إلى شمال أفريقيا قام الكتاب الفرنسيون بحملة قلميه في أنحاء العالم تقول: إن الإمبراطورية وشعوبها قد قامت بأسرها لشد أزر الجنرال ديجول، وإنها سارت تحت لوائه لإنقاذ أراضي الوطن المحتلة؛ واتخذوا هذه الدعاية دليلا على نفوذ فرنسا وقدرتها الاستعمارية، بل من هنا أخذوا ينادون بما صمموا علية من إدخال سياسة الاتحاد الفرنسي وفرضها بقولهم إن المستعمرات قد حملت عبء القتال عن الوطن الأوربي المحتل فهي إذن ساهمت في تحريره ومن حقها أن تندمج فيه وتكون وحدة معه وننقل هنا ما كتبة بول أميل فيار، لأن مارة سلم الوطن الأم وبقيت فرنسا تحارب في مستعمراتها:
لماذا لم تحتل ألمانيا الإمبراطورية الفرنسية:
إن السياسة التي أملت على ألمانيا ترك الإمبراطورية الفرنسية تحت إشراف فرنسا بعد تسليمها لا تزال غامضة بل هي إحدى المعميات التي سيتساءل عنها مؤرخو الحرب طويلا. فقد تكون هناك عوامل عسكرية أو سياسية فرضت هذه السياسة، ومن المحقق أن هناك مفاوضات وأشياء لا يزال العالم يجهلها تماما.
فمن قائل إن التسليم قد تم على يد رجال يؤمنون بعظمة فرنسا إذا تخلصت من أنظمتها الدستورية واتجهت اتجاها فاشيا، فمن الطبيعي تشجيع هذه الحركة وإعطاء هؤلاء الناس بعض التساهل بترك المستعمرات لهم، ومن قائل إن الغرض الأساسي الذي رمى إليه هتلر هو أن يجعل الإمبراطورية الفرنسية يوما ما في صفه أمام الإمبراطورية البريطانية في أفريقية. وذلك لأن:
لفرنسا سياسة أوروبية وللمستعمرات سياسة إمبراطورية:
يقول أصحاب هذا الرأي إنه إذا كان لفرنسا سياسة في القارة الأوربية تعتمد على الأمن والضمان وهي تحتم التحالف مع بريطانيا وغيرها، فإن للإمبراطورية بحكم موقعها الجغرافي ونفوذها وحاجاتها الاقتصادية سياستها الخاصة بها.
ويظهر ذلك جليا في أن الفرنسي في القارة الأوربية يعالج المشاكل بروح تختلف عن روح الفرنسي المقيم بالمستعمرات الذي يفكر بالأسلوب الأفريقي الاستعماري وينظر إلى عظمة فرنسا في إمبراطوريتها نظرة بعيدة عن تطور السياسة الأوربية وما تفرضه من مخالفات وصداقات.
فإذا تركنا جانبا المستعمرات البعيدة مثل مدغشقر والهند الصينية، تبدو الإمبراطورية الفرنسية لعقول هؤلاء كوحدة جغرافية لها أهمية كبرى وهي في نظرهم كائن حي له ما لفرنسا من مشاكل متعلقة بالأمن والحماية والجيش والبحرية.
وقد تتفق السياستان وقد تختلفان في الشئون الداخلية فقد ظهر أثر الرجال الفرنسيين المقيمين بالمستعمرات في محاربة كل إصلاح يرمي إلى إشراك الوطنيين في الحكم، بل فرضوا أرادتهم وأجبروا الحكومة المركزية على تغيير سياستها مرارا وذلك توهم المختصون بشؤون الاستعمار إلا مخرج لهم من هذا التعارض سوى سياسة الاتحاد التي تجعل من فرنسا والإمبراطورية كتلة واحدة في الخارج والداخل.
وكان من رأى الذين لمسوا هذا النزاع القائم أن المشاكل الإقليمية والحربية في سيرها وتطورها تواجه في النهاية مصالح الإمبراطورية البريطانية في أفريقيا وأكبر ضربة لهدم التحالف الفرنسي البريطاني تأتي من تشجيع فرنسا للأخذ بسياسة إمبراطوريتها في الأمور الخارجية وبنوا نظريتهم على:
المتناقضات القائمة بين إمبراطوريتين عالميتين:
فقالوا إن سياسة الوفاق والصداقة سهلة وتبدو ضرورية في أوروبا ولكنها صعبة وغير محتملة في أفريقية وإذا سار التحالف بانسجام هنا فإنه لا يسير أشواطا بعيدة في أفريقيا من غير أن تبرز المناقضات: وهي الأمور التي تتطور إلى مشاكل أو أزمات فيستعصي حلها لأن مرادها أما إلى السياسات العليا أو إلى القواعد الثابتة الملازمة لطبائع الأشياء: وعلى هذا الضوء تبدو حوادث سوريا ولبنان سنة 1943، ومشاكل بريطانيا في طرابلس الغرب وبرقة، في الوقت الحاضر وتعذر إيجاد حل لها.
أمل ألمانيا في استغلال التنافس بين الدولتين:
كان الألمان على إلمام تام بالحالة النفسية والعسكرية في الجيش الفرنسي وبما يمكن أن تؤديه الفرق المكونة من الجنود الأفريقية، وهم على علم بطاقة هذه الشعوب ومقدار صلاحيتها للحروب الحديثة، ولكنهم ابقوا مع ذلك على وحدة الإمبراطورية الفرنسية وتركوها بيد الفرنسيين لأنهم توهموا أن التنافس بين البريطانيين والفرنسيين قد ينقلب إلى عداء، وقد مرت حوادث كانت نتيجتها التصادم والقتال ولكن الإمبراطورية الفرنسية لم تتحرك بل إن القتال الذي نشب في سوريا ولبنان انحصر هناك.
أما من الناحية الفرنسية فقد تمكن الأمل من القواد والساسة لدرجة إنهم توهموا بأن لديهم القوة الكافية للدفاع عن الإمبراطورية إذا هوجمت وحشدوا وحداتهم البحرية في شمال أفريقيا أملا في الخروج إلى السلم بالسيادة على البحر وحدود المستعمرات كما كانت قبل الحرب: بل كانوا يجاهدون بأنه إذا لزم الأمر أن يقبلوا التضحية من الأراضي الأوربية إذا ضمنوا المحافظة على وحدة أملاكهم الأفريقية التي هي المدى الحيوي التاريخي للشعب الفرنسي.
ومن الغريب إن هذا الأمل الألماني وهذا المنطق الفرنسي ترك شمال أفريقيا في حالة سهلت للحلفاء احتلالها واتخاذها بمرافئها لجمع قواتهم التي زحفت إلى قلب أوروبا، فكان إن ساهمت الإمبراطورية الفرنسية في تحرير أوروبا بل في تحرير العالم ولكن كقبعة متسعة من الأرض استعملت كمسرح للحوادث والمعارك ليس إلا. . .
الحلفاء يسيطرون على أملاك فرنسا ثم يعيدونها إليها:
تمزق السور الفولاذي لأول مرة عند دخول الحلفاء وقواتهم أراضى شمال أفريقيا، فرأى أهل مراكش وتونس والجزائر جنودا من عناصر أخرى غير فرنسية، ولابد نهم لمسوا وعاينوا أشياء جديدة، ولكن البلاد التي خضعت لسنوات عديدة لأعمال العنف والتشريد كانت تتمخض بانبعاث جديد ووثبة شاملة، ولم تكن حملة الحلفاء لهذه الأرض بأساطين العالم وكانت مقر مؤتمرات: وعرف الناس جميعا أن أراضى تونس والجزائر ومراكش كانت وديعة في يد الحلفاء وقد أعيدت لفرنسا بعد أن تعهد رجالها لرزوفلت أن تسير هذه البقاع في ركب الحضارة نحو الحرية وتقرير المصير كغيرها من بقاع الدنيا التي يسكنها الإنسان لا الحيوان.
أعود إلى الوراء؟ أم عصر جديد؟ هذه كلمة الأستاذ إسماعيل مظهر حينما عرض إلى مشروع الاتحاد الفرنسي ونحن نتفق معه في صيحته ونقول:
إن الخطر الذي يبدو لنا هو أن توفق فرنسا في إقناع العالم إن الاتحاد الفرنسي هو مشروع إنساني يدعو إلى رفع مستوى شعوب الإمبراطورية، ويعد تنفيذه تحقيقا لما وعدوا به روزفلت في اجتماع الدار البيضاء، أو مرحلة في طريق الرقي الاجتماعي.
ولكن فكرة الاتحاد قديمة وسنعرض لها في الجزء الأخير من هذا البحث ونبرهن إنها أخطر بكثير مما نتصور، وإنها أخطر طعنة يوجهها الاستعمار الأوربي في أفريقيا موطن الشعوب المظلومة
أحمد رمزي