انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 724/هل الموت نتيجة لازمة للحياة؟

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 724/هل الموت نتيجة لازمة للحياة؟

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 05 - 1947



الحيوانات والنباتات الخالدة - الشيخوخة وأسبابها

للأستاذ نصيف المنقبادي المحامي

(بقية ما نشر في العدد الماضي)

الشيخوخة وأسبابها:

رأينا فيما تقدم أول مظهر من مظاهر الشيخوخة في الحيوانات والنباتات الأولية ذات الخلية الواحدة وهو عجزها عن الانقسام إلى أن تتلاقح فتعود إلى شبابها، وقد بينا أن هذا ناتج من تراكم بعض المواد الإفرازية السامة داخل أجسامها وعدم تصريفها في الحال بأكملها إلى الخارج لنقص في تكوين الكائنات الحية وعلى الأخص نظام التغذية والتصريف.

وما يحدث للخلايا المنفردة يحدث للخلايا المجتمعة في النباتات والحيوانات العليا ومن بينها الإنسان فإن الدم في الحيوانات والسوائل المماثلة له في النباتات تنقل إلى جميع الخلايا المواد الغذائية وهذه تحترق ببطيء أي تتأكسد داخلها فتتولد الطاقة (القوة والحرارة) التي تستعين بها الكائنات الحية على القيام بمختلف وظائف الحياة. ونقول أجمالا أن بقايا احتراق المواد الزلالية هي التي تسم الجسم تدريجيا وتسبب الشيخوخة.

وتفصيلا لهذا الأجمال نقول أن المواد الغذائية مهما تنوعت مظاهرها تنقسم ثلاثة أقسام: المواد الهدروكربونية مثل السكر والنشء، والمواد الدهنية، والمواد الزلالية مثل اللحوم والبيض والجبن والخضراوات البقولية كالفول والعدس والفاصولية والبسلَّي وغيرها.

فالمواد النشوية السكرية والمواد الدهنية نظرا لأنها مكونة من هدروجين وأوكسجين وكربون تحترق داخل الجسم احتراقا كاملا فتتحول إلى ماء لا ضرر منه والى غاز حامض الكربون تفرزه الرئتان بأكمله على اغلب الظن. فهذه المواد لا تلحق في الغالب ضررا بالجسم، ولكن قد تتولد منها أثناء احتراقها التدريجي مواد كيميائية ضارة تشترك في تسميم الجسم بطريقة غير محسوسة في الفترة القصيرة التي تمكث فيها قبل أن تحرق هي أيضاً بدورها.

آما المواد الزلالية فإنها الفاعل الأصلي حقاً في ذلك التسمم التدريجي الذي يسبب الشيخوخة فالموت، فهي أهم غذاء وفي الوقت نفسه أكبر عدو لنا لأنها مواد رباعية يدخلها الازوت إلى جانب العناصر الثلاثة سالفة الذكر ولهذا فإنه يتخلف عنها عند احتراقها في الجسم عدا الماء وغاز حامض الكربون - مواد أخرى تشمل الازوت وهي المواد الإفرازية المعروف بعضها مثل المادة البولية والحامض البولي وأملاحه ومثل الصفراء وأحماضها وأملاحها. وهي جميعها سامة وضارة وكثير منها غير قابل للذوبان في الماء فلا يفرز بتاتاً ويتراكم داخل الخلايا وفي الأنسجة المختلفة وعلى جدران الشرايين فيصلبها وبالتالي يقلل من قدرتها على تأدية وظائفها ويؤثر تأثيراً سيئا في الجهاز العصبي وفي جميع الأعضاء الأخرى ويضعفها فتنحط ولا تقوى على القيام بأعمال الحياة وهذه هي الشيخوخة بعينها: تصلب عام في الشرايين، وتيبس في الأنسجة، وقصور في وظائف الأعضاء الخ.

يضاف إلى هذا السبب في تسمم الجسم سبب أخر وهو تخمر فضلات الطعام في الأمعاء، ونتيجة هذا التخمر هي تولد مواد عفنة سامة يمتصها الجسم مع المواد الغذائية النافعة خصوصا وان الأمعاء عضو ملائم للامتصاص اكثر من غيره

ويضاعف أسباب الشيخوخة المتقدم بيانها فعل كريات الدم البيضاء التي كشف عن وظائفها متشنكوف فخطا بالعلوم البيولوجية والعلوم الطبية خطوات واسعة عظيمة النفع نظريا وعمليا. فإن من يفحص تحت الميكروسكوب نقطة من دم الإنسان أو أي حيوان يجد أنها مكونة من سائل شفاف تقريبا يشتمل على كريات حمراء عديدة هي التي تكسب لونه الأحمر وكريات بيضاء اقل عددا، ومن أهم صفات الكريات البيضاء أنها تفترس بشراهة كل ما يقابلها في الجسم من البكتريا والميكروبات والجراثيم الحيوانية الأخرى.

غير أن فعل الكريات البيضاء غير مقصور على افتراس الميكروبات والجراثيم والمواد الغريبة عن الجسم بل أنها لا تحترم حتى زميلاتها من الخلايا الأخرى في مخلف أنسجة الجسم لأنه لا عقل لها يجعلها تميز بين النافع والضار فهي تحاول على الدوام التهام كل ما يقابلها لأنها حيوانات حقيقية مفترسة لا تقف شراهتها عند حد. غير أن الخلايا والأنسجة حين تكون في كامل صحتها وعنفوان شبابها تصد بسهولة تلك الكريات المشاغبة الجشعة بأن تفرز عند اقترابها منها مادة كيميائية تمنعها من الاعتداء عليها، ويتم ذلك بطريقة آلية طبيعية. ولكن خلايا الجسم وأنسجته، متى أضعفتها تلك السموم التي تتراكم في الجسم تدريجيا على النحو المتقدم بيانه، لا تقوي على الكريات البيضاء وتضعف مقاومتها لها فتنخر الكريات البيضاء في جميع الأنسجة كالعضلات والغدد والأعصاب والمخ فتزيد الجسم هبوطاً بعد أن تكون تلك السموم قد أنهكته، وتجتاز تلك الكريات البيضاء الشرايين الرفيعة الشعرية وتتكدس في جميع أنحاء الجسم وتتكون منها أنسجة جامدة وحتى جذور الشعر لا تسلم من اعتدائها فتسبب الشيب سامحها الله

والذي يراه البيولوجيون (علماء الحياة) إنه متى اهتدى العلماء في المستقبل إلى وسيلة لتطهير الأمعاء والدم تطهيرا تاما أول بأول عقب كل أكلة دون المساس بعمليات التغذي المختلفة أمكن التغلب على الشيخوخة وتطول حياة الإنسان إلى مائتين أو ثلاثمائة سنة أو أكثر. وقد تكون الفيتامينات الجديدة والمطهرات المدهشة التي اكتشفت أخيراً كالسلفيناميد والبانيسلين مقدمة لذلك الاكتشاف العظيم الذي يصبو إليه الناس من قديم الزمان. وقد يستنبطون عقاقير تنشط بعض الغدد الصماء المعروفة أو غدداً جديدة يكشفون عنها فيما بعد في مجاهل الجسم فتفرز هرمونات من شأنها تطهير القناة الهضمية كلها والدم والأنسجة تطهيرا تاما مستمرا من تلك السموم مع تصريفها بأكملها في الحال إلى الخارج أولا فأولا.

ولكن تبقى عقبة كؤود لا أرى وجها للتغلب عليها وهي وضع الكبد ونظام صرف إفرازه. فإن البول الذي تفرزه الكليتان يجتمع في المثانة ويصرف إلى الخارج رأسا. أما الصفراء التي تفرزها الكبد فإنها لسوء حظ الإنسان والحيوانات لا تنصرف إلى خارج الجسم مباشرة بل تصب مع شديد الأسف في الأمعاء وتبقى فيها فترة من الزمن قبل أن تصل إلى الخارج عن طريق المستقيم، بل أن الأمعاء مملوءة على الدوام بالصفراء التي تفرزها الكبد باستمرار فتمتص (أي الأمعاء) كميات منها (أي من الصفراء) وهي مادة سامة ضارة كل الضرر بالجسم، ولولا ذلك لكان هناك أمل أن يصل العلم يوما من الأيام إلى قهر الموت نفسه ومنعه منعا باتا وذلك أمر لا يراه العلماء مستحيلا من الوجهة النظرية بدليل الحيوانات والنباتات أولية ذات الخلية الواحدة الخالدة التي تقدم لنا الكلام عليها. وقد رأينا كيف أن البيولوجيين عالجوا الشيخوخة التي تطرأ عليها عقب الانقسامات المتكررة وأعادوا إليها شبابها ونشاطها الانقسامي الذي يضمن لها الخلود. والذي نقصده بالخلود هنا هو أو تبقى حية لا تموت إلى أن تمسي الأرض غير صالحة للحياة بفعل العوامل الطبيعية بعد عدة ملايين من السنين على ما يقدرون

غريزة الموت:

ويتوقع متشنكوف أنه متى تغلب العلم على الشيخوخة وباقي الأمراض وعاش الإنسان حياة طويلة لا تقل عن المائتين أو الثلاثمائة من السنين عيشة سليمة من كل علة أو ضعف فإنه حين يصل إلى أخر هذا العمر الطويل يشعر بحاجة إلى الراحة النهائية ويستقبل الموت بهدوء وارتياح كما يشعر المرء في أخر النهار بالحاجة إلى النوم ويرتاح إليه. وهذا ما يسمونه بغريزة الموت، تحل في أخر الحياة محل غريزة حب البقاء. وحين تنشأ هذه الغريزة في البشر يكون العلم قد قهر آخر عدو للإنسان وهو الموت، إذ يكون الناس قد حلوا فبل ذلك المعضلة الاجتماعية الكبرى الخاصة بتوزيع العمل وخيرات الطبيعة بين الناس توزيعا عادلا مع تحديد النسل، وتكون الغريزة الأخلاقية قد تأصلت في النفوس بمرور الزمن الطويل كما هو الحال في النمل فتمتنع الجرائم والحروب وترتقي الأخلاق وتعم الفضيلة ويكون الطب قد تغلب على جميع الأمراض، بل أن الطب الوقائي سوف يمنعها قبل وقوعها فيعيش البشر في سلام ونعيم دائمين، ذلك النعيم الذي ظلوا العصور الطويلة يحلمون به ولن يحققه لهم إلا العلم

نصيف المنقبادي