مجلة الرسالة/العدد 723/إلى طلبة التوجيهية:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 723/إلى طلبة التوجيهية:

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 05 - 1947


2 - شاعران في المنفى

للأستاذ أحمد محمد الحوفي

تمهيد - موضوعات القصيدتين - الصور والخيال - الأسلوب

- كلمة عامة. . . . . .

وفي كلتا القصيدتين فخر، ولكنه أيضاً صورة من نزوع الشاعر وميله، فالبارودي رجل الجيش والحرب يفتخر بشجاعته وبلائه في الحرب، ولم تزايله حماسته في منفاه، فسيفه هنالك صاحبه الوحيد، يحمله جسمه القوى الشديد، وهو سيف متعطش إلى الدم، حتى ليشرئب من الغمد إذا لمسه البارودي متلهفا إلى أن يضرب به. ويفخر بوفائه وأقدامه، وصواب رأيه إذا استبهم الصواب، وربما كان غرضه هنا تعزيز رأيه الذي أبداه قبل الثورة العرابية متخوفا من سوء عقباها، ويكرر الفخر بشجاعته وتقدير الأبطال له حتى ليفدونه بأنفسهم، وببلاغته وسحر شعره، ولكنه غالي في قيمة هذا الشعر إذ زعم إنه يضارع ابلغ شعر سابق، ويكبر أن يشبهه شعر لاحق، وجرته محاكاتة كأنه للقدماء إلى تقدير لذاذة شعره بأنها ألذ من الحداء، وختم الفخر بأنه قوال وفعال وغيره يقول ولا يفعل.

وفخره بنفسه وبشعره في مجال الشكوى تسرية عن نفسه من ناحية، ومحاكاة لآبي فراس الحمداني وهو أسير من ناحية. قال:

ولأصاحب غير الحسام منوطة ... حمائله منى على عاتق صلد

إذا حركته راحتى لملمة ... تطلع نحوي يشرئب من الغمد

سجية نفس لا تخون خليلها ... ولا تركب الأهوال إلا على عمد

وإني لمقدم على الهوى والردى ... بنفسي، وفي الأقدام بالنفس ما يرى

وأنى لقوال إذا التبس الهدى ... وجارت حلوم القوم عن سنن القصد

فان صلت فدانى الكمى بنفسه ... وإن قلت لباني الوليد من المهد

ولى كل ملساء المتون غريبة ... إذا أنشدت أفضت لذكر بنى سعد

أخف على الأسماع من نغم الحدا ... وألطف عند النفس من زمن الورد مخدرة تمحو بأذيال حسنها ... أساطير من قبلي، وتعجز من بعدى

كذلك إني قائل ثم فاعل ... فعالي، وغيري قد ينير ولا يسدى

أما شوقي شاعر مصر المنوه بأمجادها، المعتز بماضيها، العليم بتاريخها فقد أفتخر بسالف عهدها، فالدهر منذ طفولته لم يحتفل بغير الفراعنة، ولم يعرف أقوى منهم، وهم صبر على النوائب وفيون بالعهد لا يتلونون كالحرابى، وهو هنا يشير إلى وفائه للخديوي عباس ويعرض بمن تلون من أصدقائه أو يعرض بالإنجليز أصحاب السيادة المتقلبة، والشمس لم تشرق على ملك عظيم كمصر، وقد عبدت على ضفاف النيل، ورأت ملوكاً له أبناءها الفراعين، وانه لواد جميل خصيب تشرق الشمس عليه فتكسوه أشجارا ووروداً وحريراً، ونحن الفراعنة حكمنا الأرض قبل الرومان، وكنا رواد العالم، ولم يفت شوقي أن يعرج على الأهرام الخالدة، فوصفها هذا الوصف البارع: بناها الدهر لا الإنسان الفاني، وعمرت مقاصيرها أربعة الآلف عام تقوضت فيها عروش الملوك وهي باقية، وكأنها وبحر الرمل حولها سفن واراها اليم إلا قلوعها، وكأنها والضحا يتلألأ فوقها كنوز فرعون يزنها على موازين كبار فغطتها وتكومت فوقها. قال:

لم يجر للدهر اعذار ولا عرس ... إلا بأيامنا أو في ليالينا

ولا حوى السعد أطغى في أعنته ... منا جياداً ولا أرخى ميادينا

نحن اليواقيت خاض النار جوهرنا ... ولم يهن بيد التشتيت غالينا

ولا يحول لنا صبغ ولا خلق ... إذا تلون كالحرباء شانينا

لم تنزل الشمس ميزاناً ولا صعدت ... في ملكها الضخم عرشاً مثل وادينا

ألم تؤله على حافاته، ورأت ... عليه أبناءها الغر الميامينا؟

إن غازلت شاطئيه في الضحا لبسا ... خمائل السندس الموشية الغينا

وبات كل مجاج الواد من شجر ... لوافظ القز بالخيطان ترمينا

وهذه الأرض من سهل ومن جبل ... قبل القياصر دناها فراعينا

ولم يضع حجر بأن على حجر ... في الأرض إلا على آثار بانينا

كأن أهرام مصر حائط نهضت ... به يد الدهر لا بنيان فأنينا

إيوانه الفخم من عليا مقاصره ... يفنى الملوك ولا يبقى إلا واوينا كأنها ورمالاً حولها التطمت ... سفينة غرقت إلا أسا طينا

كأنها تحت لألاء الضحا ذهباً ... كنوز فرعون غطين ألموا زينا

وهذا الفخر بماضي الوطن من مشاعر مبعد حزين لما ألم به من أحداث وكوارث قوى الصلة بمحور القصيدة، وبنفسية الشاعر المكروب من الحاضر المتجهم، فيرجع إلى الماضي المشرق لأنه يجد فيه عزته وراحته وسلوانه.

وأخيرا يتحدان في الغزل المصطنع من كليهما في هاتين القصيدتين، فالبارودي ينعت حبيبته بالوفاء، ويصفها بالجمال وجهاً وخصراً، ويعرض حالة ماضيه إذ أسرته بنظرها الساحر فعلق بها وتبعها، فتظاهرت بالهشة من حماقته كأنها لا تعلم إنها الجانية، ويرجوها ألا تصد عنه حتى لا تعذبه وتقعده عن طلب المجد، وألا تظن إن في قلبه قدرة على تحمل مزيد من الحب، ويصور مقدار خضوعه لها بأنها لو أمرته أن يهلك نفسه لفعل. قال:

فلست بناس ليلة سلفت لنا ... بواديه، والدنيا تغر بما تسدى

إذ العيش ريان إلا ما أريد، والهوى=جديد وإذا لمياء صافية الود

منعمة، للبدر ما في قناعها ... وللغصن ما دامت به عقدة البند

سبتني بعينيها، وقالت لتربها ... ألا ما لهذا الغر يتبعني قصدي

ولم تدر ذات الخال - والحب فاضح - ... بأن الذي أخفيه غير الذي أبدى

حنانيك إن الرأي حار دليله ... فضل، وعاد الهزل فيك إلى الجد

فلا تسألي مني الزيادة في الهوى ... رويداً، فهذا الوجد آخر ما عندي

وها أنا منقاد كما حكم الهوى ... لأمرك فأخشى حرمة الله والمجد

فلو قلت: قم فأصعد إلى رأس شاهق ... والق إذا أشرفت نفسك للوهد

لألقيتها طوعاً لعلك بعدها ... تقولين: حيا الله عهدك من عهد

وشوقي تغزل في عجل بحبيبته التي يعف في حبها، فهو يحن إليها حنيناً لا يشوبه تدلل، وهو غير مستطيع صبراً على فراقها، وهو جلد ولكن الحزن غلبه لأنه ابعد عنها بالنفي من وطنه وحصنه، وليله طويل لا نهاية له تتناوبه فيه الذكريات الحلوة والمرة فتميته وتحييه، وتكاد الآلام الفراق ترديه، ولا يفتأ يبكى ويئن، ويراقب النجوم حتى ترثى له أو تمل مراقبته وتتعب من السير، ولكنه في النهاية يتكلف الصبر أمام الأعداء حتى لا يشمتوا. قال:

يا من نغار عليهم من ضمائرنا ... ومن نصون هواهم في تناجينا

ناب الحنين إليكم في خواطرنا ... من الدلال عليكم في أمانينا

جئنا إلى الصبر ندعوه كعادتنا ... في النائبات فلم يأخذ بأيدينا

وما خلنا على دمع ولا جلد ... حتى أتتنا نواكم من صياصينا

ونابغي كأن الحشر آخره ... تميتنا فيه ذكراكم وتحيينا

نطوي دجاه بجرح من فراقكم ... يكاد في غلس الأسحار يطوينا

إذا رسا النجم لم ترقأ محاجرنا ... حتى يزول ولم تهدأ تراقينا

بتنا نقاسي الدواهي من كواكبه ... حتى قعدنا بها حسرى تقاسينا

يبدو النهار فيخفيه تجلدنا ... للشامتين ويأسوه تأسينا

ويتفرد شوقي بتمجيده عرب الأندلس والبكاء على ملكهم المضيع، ولم يعرج البارودي في قصيدته ولا في غيرها على مجد المسلمين بالهند أثرهم في تحرير عشرات الملايين من أبنائها من الوثنية، وجوبهم البحار قبل كولمبس وماجلان، وهي ينابيع ثرة بالذكريات يترع بها خيال الشاعر لو انه مثقف وبصير بالتاريخ.

ثم يتميز بأن شكر لمصر برها به، وإرسالها الهدايا والأموال إليه، وأجاد تصوير حالها حين اضطرت إلى نفيه محبة له حريصة على سلامته.

ثم يفترق من البارودي بالتمهيد لموضوع قصيدته بمناجاة الحمام النائح ويختلف عنه أيضاً في تخيله نسمة عبقة قد سرت من مصر إليه فأنعشته، ثم ينفرد بوصفه الرائع لجمال الطبيعة في مصر، ووصفه أهرامها.

(البقية في العدد القادم)

أحمد محمد الحوفي