انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 722/إليكا الهراس

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 722/إليكا الهراس

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 05 - 1947



للأستاذ برهان الدين محمد الداغستاني

450 - 504 هـ

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

مناظراته:

كانت مجالس المناظرة تعقد صدر الإسلام وعهد الأئمة المجتهدين للبحث في العقائد ومسائل علم الكلام أو للمناقشة بين مجتهدين في مسألة اجتهادية ثم تطورت المناظرات في القرن الرابع الهجري وما بعده - بعد أن ترك العلماء الاجتهاد المطلق في الأحكام الشرعية وألزموا أنفسهم بمذاهب المجتهدين الذين كانوا قبلهم أمثال أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأقرانهم - وتغيرت مواضيعها فأصبحت مسائل فقهية خلافية بين الأئمة المجتهدين وكانت أكثر المناظرات تدور عليها بين أتباع المذاهب.

فمع أنه تخرج من علماء الإسلام وفقهائهم في القرن الرابع وما بعده من لا يقل عمن تقدمهم من المجتهدين علماً بأصول التشريع والاستنباط لكن لم تكن لهم الجرأة الكافية للظهور بمظهر الاستقلال ولم تكن لهم الجرأة الكافية للظهور بمظهر الاستقلال ولم تكن لهم الحرية الواسعة التي تمتع بها أسلافهم فقيدوا أنفسهم بنصوص المتقدمين لا يتعدونها وقصروا همهم على تعليل الأحكام التي وصلتهم من أئمتهم وترجيح بعض الروايات على البعض الآخر واعتنى كل فريق منهم بتأييد مذهب أمامه على مذاهب الآخرين وكثرت المناظرات المذهبية بين الحنفية والشافعية لأن أغلبها كانت بالعراق وعلماء المذهبين فيها متوافرون والمنافسة بينهم شديدة.

ومن هذا القبيل ما يرويه أبن خلكان من أنه كان بين إليكا الهراس والشيخ الإمام أبي طالب الزينبي وقاضي القضاة أبي الحسن بن الدامغاني - وهما من أكابر الحنفية يومئذ ببغداد - من المنافسة والتنافر بسبب الخلافات المذهبية وما يرويه السبكي في الطبقات إذ يقول: وكانت في إليكا لطافة عند مناظراته. ربما ناظر بعض علماء العراق فأنشد:

أرفق بعبدك إن فيه يبوسة ... جبلية ولك العراق وماؤ قيل أنشد هذا البيت في مناظراته مع أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي.

فتاويه:

قلنا إن العلماء في القرن الرابع وما بعده لم يجدوا في أنفسهم الشجاعة الكافية لإعلان استقلالهم عن الأئمة المتقدمين في الاستدلال من الكتاب والسنة بل قصروا أنفسهم على نصوص أئمتهم، ولكن هذا لم يحل بينهم وبين استنباط العلل للأحكام التي نص عليها المتقدمون فتسنى لهم بذلك قياس ما جد بعد ذلك من الأحكام على ما نص عليه من سبقهم وبذلك استطاعوا أن يفتوا في المسائل التي كانت تعرض لهم في مختلف الشؤون وربما اختلفت أنظارهم في علة الحكم الواحد فتختلف آراؤهم في المسائل المستجدة تبعاً لذلك، وكانت مسألة يزيد بن معاوية وقتله الحسين رضى الله عنه مسألة مثارة في كل مجلس وناد مدة الحكم العباسي فكان لابد أن يسأل كل عالم عن لعن يزيد وهل هو جائر شرعاً أو لا، وقد سئل إلكيا نفسه عن لعن يزيد فقال: إنه لم يكن من الصحابة لأنه ولد في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأما قول السلف في لعنه ففيه لأحمد قولان تلويح وتصريح، ولمالك قولان تلويح وتصريح، ولأبي حنيفة قولان تلويح وتصريح ولنا قول واحد التصريح دون التلويح. وكيف لا يكون كذلك وهو اللاعب بالنرد والمتصيد بالفهود ومدمن الخمر وشعره في الخمر معروف ومنه قوله:

أقول لصحب ضمت الكأس شملهم ... وداعي صبابات الهوى يترنم

خذوا بنصيب من نعيم ولذة ... فكل وإن طال المدى يتصرم

ولا تتركوا يوم السرور إلى غد ... فرب غد يأتي بما ليس يعلم

وأفتى الغزالي وأبن الصلاح بخلاف رأي إلكيا لأنه وإن غلب الظن بقرائن الأحوال أن يزيد رضي قتل الحسين أو أمر به فلا يجوز لعنه ويجعل كمن فعل كبيرة. وجواب الغزالي بكامله في الجزء الأول ص 466 من وفيات الأعيان وهو في غاية الإبداع والرصانة.

ويقول الحافظ أبو طاهر السلفي: استفتيت شيخنا إلكيا الهراس ببغداد في سنة خمس وتسعين وأربعمائة لكلام جرى بيني وبين الفقهاء بالمدرسة النظامية. وصورة الاستفتاء ما يقول الإمام وفقه الله تعالى في رجل أوصى بثلث ماله للعلماء والفقهاء، هل تدخل كتبة الحديث تحت هذه الوصية؟ فكتب الشيخ تحت السؤال نعم، وكيف لا وقد قال النبي : من حفظ على أمتي أربعين حديثاً من أمر دينها بعثه الله يوم القيامة فقيهاً عالماً.

ونقل النووي عن إلكيا في موضع واحد من الروضة أوائل كتاب القضاء إن العامي يلزمه أن يقلد مذهباً معيناً ثم نقل عن أبن برهان عكسه ورجحه.

مؤلفاته:

لا يذكر المؤرخون شيئاً عن مؤلفات إلكيا إلا السبكي فقد ذكر إن من مؤلفاته شفاء المسترشدين في مباحث المجتهدين وقال إنه من أجود كتب الخلافيات ونقد مفردات الإمام أحمد، وكتاباً في أصول الفقه لم يذكر أسمه.

وذكر أبن الملقن الأندلسي في العقد المذهب الرد على الإمام أحمد ومباحث المجتهدين وأحكام القرآن. ولسنا نعلم عن كتب إلكيا أكثر من ذلك ما عدا أحكام القرآن الذي ذكره أبن الملقن فإن منه نسختين في دار الكتب المصرية نسخة بخط قديم أكثره غير منقوط تحت رقم (144) تفسير وأخرى منقولة عن النسخة السابقة مكتوبة بخط جميل ثم نسخها يوم السبت 27 جمادى الآخرة سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة وألف من الهجرة تحت رقم (710) تفسير، ولكتاب أحكام القرآن هذا أهمية علمية كبرى هي التي حدث بي إلى كتابة هذا الفصل في التعريف بالكيا الهراس والتنويه بكتابه أحكام القرآن.

تفسير آيات الأحكام نوع من أنواع التفسير نشأ مع نشوء المذاهب الفقهية في الإسلام، لجأ أصحاب المذاهب من الفقهاء إلى هذا النوع من التفسير لتأييد مذاهبهم التي ذهبوا إليها واقتصروا على تفسير الآيات التي تعرض للأحكام الفقهية من قرب أو بعد وفسروها على قواعدهم في الفهم والاستنباط.

وفي كشف الظنون إن أول من صنف في هذا النوع من التفسير الإمام المجتهد محمد بن إدريس الشافعي المتوفى سنة 204 ثم الشيخ أبو الحسن علي بن حجر السعدي المتوفى سنة 244 ثم الإمام القاضي أبو أسحق إسماعيل بن أسحق الأزدي البصري المتوفى سنة 283 ثم الشيخ أبو الحسن بن موسى بن يزداد القمي الحنفي المتوفى سنة 305 ثم الشيخ الإمام أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي المتوفى سنة 321 ثم الشيخ أبو محمد القاسم بن أصبغ القرطبي النحوي المتوفى سنة 340 ثم الشيخ الإمام أبو بكر أحمد بن محمد المعروف بالجصاص الرازي الحنفي المتوفى سنة 370 ثم الشيخ الإمام أبو الحسن علي بن محمد المعروف بالكيا الهراس الشافعي البغدادي المتوفى سنة 504.

وأهمية كتاب الإحكام لإلكيا تأتي بنوع خاص من ناحية إنه ألفه على طريقة الإمام الشافعي وعلى أصوله في استنباط أحكام الفقه من آيات الكتاب العزيز كما يقول في مقدمته.

ولأنا لا نعلم عن كتاب الأحكام الذي ألفه الشافعي - كما يقول صاحب الكشف الظنون - شيئاً ولأنه من ناحية أخرى ليس لدينا إلى اليوم كتاب مطبوع في تفسير آيات الأحكام على طريقة الشافعي مع كثرة هذا النوع من التفاسير في المذاهب الأخرى، ولأن إلكيا الهراس كتب كتابه الأحكام بعد الإطلاع على كتب من تقدمه من الحنفية والمالكية في الأكثر الغالب - نرى إن أحكام القرآن للهراس ذخيرة علمية يجب الانتفاع بها وحبذا لو قام بطبعه ونشره من يهمهم نشر البحث العلمي في هذا البلد فإنهم يؤدون بعملهم هذا خدمة جليلة للفقه الإسلامي ويحيون أثراً قيماً من آثار أسلافنا الأمجاد.

وفاته ورثاؤه

توفي إلكيا الهراس وقت العصر من يوم الخميس مستهل المحرم سنة أربع وخمسمائة في بغداد ودفن بباب أبرز في تربة الشيخ أبي أسحق الشيرازي وكان مولده - كما تقدم - في خامس ذي القعدة سنة خمسين وأربعمائة فيكون قد عاش ثلاثاً وخمسين سنة وقريباً من شهرين وحضر دفنه الشيخ أبو طالب الزيني وقاضي القضاة أبو الحسن بن الدامغاني - وكانا مقدمي الحنفية في بغداد وكان بينه وبينهما في حال الحياة منافسة وتنافر مما يكون بين الأقران فوق أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه فقال أبن الدامغاني متمثلاً:

وما تغني النوادب والبواكي ... وقد أصبحت مثل حديث أمس

وأنشد الزيني متمثلاً:

عقم النساء فلا يلدن شبيهه ... إن النساء بمثله عقم

ونقل أبن خلكان عن أبن عساكر في تاريخه الكبير إن تلميذ إلكيا أبا أسحق إبراهيم بن عثمان الغزي الشاعر المشهور رثاه ارتجالاً فقال:

هي الحوادث لا تبقى ولا تذر ... ما للبرية من محتومها وزر

لو كان ينجي علو من بواثقها ... لم تكسف الشمس بل لم يخسف القمر قل للجبان الذي أمسى على حذر ... من الحمام متى رد الردى الحذر؟

بكى على شمسه الإسلام إذ أفلت ... بأدمع قل في تشبيهها المطر

حبر عهدناه طلق الوجه مبتسما ... والبشر أحسن ما يلقي به البشر

لئن طوته المنايا تحت أخمصها ... فعلمه الجم في الآفاق منتشر

سقى ثراك عماد الدين كل ضحى ... صوب الغمام ملث الودق منهمر

عند الوري من أسى أبقيته خبر ... فهل أتاك من استيحاشهم خبر

أحيا أبن إدريس درس كنت تورده ... تحار في نظمه الأذهان والفكر

من فاز منه بتعليق فقد علقت ... يمينه بشهاب ليس ينكدر

كأنما مشكلات الفقه (يوضحها) ... جباه دهم لها من لفظه غرر

ولو عرفت له مثلاً دعوت له ... وقلت ديني إلى شرواه مفتقر

هذا فصل وجيز قصدت به التعريف بإلكيا الهراس والتنويه بأهمية كتابه (أحكام القرآن) إلا إنه ضاق فلم يتسع لتناول أحاكم القرآن إلا بقدر يسير. وأرجو أن تتاح لي فرصة التحدث عنه في فصل آخر خاص به في القريب العاجل إن شاء الله.

برهان الدين محمد الداغستاني