انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 722/إلى طلبة التوجيهية:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 722/إلى طلبة التوجيهية:

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 05 - 1947



شاعران في المنفى

للأستاذ أحمد محمد الحوفي

تمهيد - موضوعات القصيدتين - الصور والخيال - الأسلوب

- كلمة عامة. . . . . .

- 1 -

شاعران مصريان معاصران تغنيا بمصر وأخلصا لها الحب، فكان جزاؤهما النفي، أما أحدهما فمحمود سامي البارودي، وأما الآخر فأحمد شوقي.

نفي البارودي إلى جزيرة سرنديب في أعقاب الثورة العرابية؛ لأنه أحد زعمائها وقادتها، ونفي شوقي إلى الأندلس في أول الحرب العالمية الأولى؟ لأنه يناهض الاحتلال البغيض، ولأنه شاعر الخديوي عباس وترجمانه، وهوى مولاه وهواه مع تركيا، وهي يومئذ في صف ألمانيا ضد إنجلترا، وقد حيل بين الخديوي ومصر فليبعد شاعره شوقي من مصر.

قضى البارودي في منفاه سبعة عشر عاماً يتسلى فيها بالشعر، وينفس به عن نفسه، وقضى شوقي في منفاه خمسة أعوام يردد النظر في شعر الأقدمين، ويصور ما يعتلج بنفسه من ألم وحنين.

وتجلت في شعر كل منهما نزعته وطبيعته، فالبارودي يتحسر على أيامه السعيدة بمصر، ويكثر من ذكر الروضة والمقياس والحسان المائسات على الجسر، ويود أن تكتحل عيناه بمرأى مصر، ويفتخر بشجاعته في الحرب، لأنه من رجال الجيش.

وشوقي يأسى على عهده النضير بمصر، ويتغنى بطبيعتها المزدانة الفاتنة، ويتوق إلى الرجوع إليها، وبمجد ماضيها العظيم ويفخر بجلاله، ويتحدث بآثارها الخالدة، ولا ينسى مجد العرب والإسلام في الشرق والغرب فينوه به، منساقاً في ذلك مع ثقافته التاريخية الواسعة.

وإذا كانت النعم أحياناً تجنى من لهب الشدائد فإن نفى الشاعرين بلية أجنت الأدب حلو الجنى، إذ أثرته بكثير من القصائد الجياد قد بعثها عاطفة جياشة بالألم والحرمان والشوق واللهفة إلى الوطن والخلان.

ونحن الآن نوازن بين القصيدتين المقررتين على طلاب التوجيهية في هذا العام موازنة تكشف عن نواحي الاتفاق ومناحي الاختلاف.

- 2 -

ليس في القصيدتين وحدة، فكلتاهما ذات أغراض عدة، ولكنها مما يتداعى في خاطر الشاعر إذ يذكر وطنه ويحن إليه.

فالبارودي بدأ قصيدته بالشكوى، الشكوى من الفراق المؤلم المسقم الذي لا يخففه عطف المواسيات، حتى ليحسبن إنه مجنون لا يفيق، لأنهن يجهلن داءه، وما داؤه إلا تباريح الحب المهلك، ثم يتألم لأنه يكلف بحب من لا يهتمون بأمره، وكرر الشكوى من الأرق والوحدة حيث لا يجد صاحباً يبثه همه. قال:

ترحل من وادي الأراكة بالوجد ... فبات سقيما لا يعيد ولا يبدي

سقيماً تظل العائدات حوانيا ... عليه بإشفاق وإن كان لا يجدي

يخلن به مساً أصاب فؤاده ... وليس من مس سوى حرق الوجد

به علة - إن لم تصبها سلامة ... من الله - كادت نفس حاملها تردي

ومن عجب الأيام أني مولع ... بمن ليس يعنيه بكائي ولا سهدي

أبيت عليلاً في (سرنديب) ساهراً ... أعالج ما ألقاه من لوعتي وحدي

أدور بعيني لا أرى وجه صاحب ... يربع لصوتي، أو يرق لما أبدي

ولكن شوقي بدأ بدءاً آخر، فيتخيل حماماً ينوح بوادي الطلح، وناجاه بأن بلواهما متشابهة، لأن اليد العاتية التي طيرت الحمام من واديه هي اليد الغاشمة التي حرمت الشاعر من وطنه وأهله، وكلاهما في وادي الطلح غريب ضائق الصدر يحز الألم في نفسه، ولا ينفك يشتاق إلى وطنه ولكنه لا يستطيع الوصول إليه، وهذا الطائر صديق شوقي لأن الألم يربطهما، وهو دائم الحنين والذكرى لواديه والحزن على فراقه، قلق يتنقل من غصن إلى غصن في فتور واسترخاء باحثاً عن مواس ولكنه لا يجد، لأن لأمراض الجسوم أطباء ولكن إسقام الأرواح لا أساة لها، وشوقي يرمز إلى نفسه بهذا التصوير، وهذا بدء يلائم الحال النفسية للشاعر المبعد من وطنه، لأن الحمام من طبعه الحنين إلى وطنه وألفه، والشعراء إذا ما سمعوا حنينه هاجت ذكرياتهم فحنوا وأنوا. قال شوقي:

يا نائح الطلح أشباه عوادينا ... نشجي لواديك أم نأسى لوادينا؟

ماذا تقص علينا غير أن يداً ... قصت جناحك جالت في حواشينا

رمى بنا البين أبكا غير سامرنا ... أخا الغريب وظلا غير نادينا

كل رمته النوى: ريش الفراق لنا ... سهماً، وسل عليك البين سكينا

إذا دعا الشوق لم نبرح بمنصدع ... من الجناحين عي لا يلبينا

فإن يك الجنس يا أبن الطلح فرقنا ... إن المصائب يجمعن المصابينا

لم تأل ماءك تحنانا ولا ظمأ ... ولا ادكاراً ولا شجواً أفانينا

تجر من فنن ساقاً إلى فنن ... وتسحب الذي ترتاد المؤاسينا

أساة جسمك شتى حين تطلبهم ... فمن لروحك بالنطس المداوينا؟

ثم يتفق الشاعران في أن رأى كل منهما برقاً يتلألأ حقيقة أو تخيلاً، فاهتاجه إلى مصر، فالبارودي رأى برقاً يلمع فيضيء الجبال والسهول، فبات ليلته أرقان يرقب النجوم الذي أجهدها طول السرى كأنه ملدوغ أو فريسة في مخالب الأسد، وصور لآلاء النجوم بالياقوت اللامع في درع. قال:

ومما شجاني بارق طار موهناً ... كما طار منبث الشرار من الزند

يمزق أستار الدجنة ضوؤه ... فينسلها ما بين غور إلى نجد

أرقت له، والشهب حيري كليلة ... من السير، والآفاق حالكة البرد

فبت كأني بين أنياب حية ... من الرقط، أو في برثني أسدورد

أقلب طرفي، والنجوم كأنها ... قتير من الياقوت يلمع في سرد

ولكن شوقي صور البرق بأن ناره تلمع مقتبسة من النار التي تشتعل في أضلعه، وصور المطر الذي يعقب البرق بأنه مستمد من غزير مدامعه، فهو مؤرق طوال الليالي يراقب النجوم، ويرعى عهد الحب لمصر، حتى لقد ذوى ونحل، فصار كزفرة حيري في الليل. وحمل هذا البرق وهذا المطر تحية إلى الوطن، وصور المطر بأنه يجوب ظلمات البحر يحرسه جبريل من الأذى والعدوان حتى يصل إلى سماء مصر الأبية التي لا تقبل عطاء الغير وإن كان مطراً مباركاً، وحتى رويت بقطراته حدائق الوادي ومروجه وحقوله وريفه الجميل، وطالبه أن ينزل على خمائل الوادي في إيقاع رقيق كأنه تغريد وتطريب، وأن ينزل سلاماً على النبات كما يتساقط الندى على أكمام الزهر، وأن يواسي منازل الشاعر وأحبابه. قال شوقي:

يا ساري البرق يرمي عن جوانحنا ... بعد الهدوء ويهمي عن مآقينا

لما ترقرق في دمع السماء دماً ... هاج البكا فخصبنا الأرض باكينا

الليل يشهد: لم تهتك دياجيه ... على نيام ولم تهتف بسالينا

والنجم لم يرنا إلى على قدم ... قيام ليل الهوى للعهد راعينا

كزفرة في سماء الليل حائرة ... مما نردد فيه حين يضوينا

بالله أن جبت ظلماء العباب على ... نجائب النور محدواً بجبرينا

ترد عنك يداه كل عادية ... إنسا يعثن فساداً أو شياطينا

حتى حوتك سماء النيل عالية ... على الغيوث وإن كانت ميامينا

وأحرزتك شفوف اللازود على ... وشى الزبر جد من أفواف وأدينا

وحازك الريف أرجاء مؤرجة ... ربت خمائل واهتزت بساتينا

فقف إلى النيل واهتف في خمائله ... وأنزل كما نزل الطل الرياحينا

وآس ما بات يذوي من منازلنا ... بالحادثات ويضوي من مغانينا

ثم يتفقان في الحنين إلى ملاعب الصبا ومراتع الشباب، ويصور كل منهما حنينه تصويراً يوائم شاعريته، فالبارودي يذكر جزيرة الروضة حيث داره ومنبت غرامه ومرتع لذاته وحياته الهانئة، ويوازن بين حاله البائسة في حاضره وحاله الناعمة في ماضيه فتكاد تفارقه روحه، ويدعو لهذا المنزل بأن ينزل عليه المطر غزيراً كما كان يدعو العرب، محاكياً لهم في دعائه، على أن الروضة التي يحتضنها النيل من جهاتها الأربع في غنى عن هذا المطر، ويذكر بعض ما لقي من سعادة في هذا المنزل والدنيا مواتية والحياة ناعمة، وحبيبته وافية. قال:

خليلي هذا الشوق لاشك قاتلي ... فيملا إلى (المقياس) إن خفتما فقدي

ففي ذلك الوادي الذي أنبت الهوى ... شفائي من سقمي، وبرئي من وجدي

ملاعب لهو، طالما سرت بينها ... على أثر اللذات في عيشة رغد إذا ذكرتها النفس سالت من الأسى ... مع الدعم حتى لا تنهنه بالرد

فيا منزلاً رقرقت ماء شبيبتي ... بأفنائه بين الأراكة والرند

سرت سحراً فاستقبلتك يداً لصبا ... بأنفاسها وانشق فجرك بالحمد

وزر عليك الأفق طوق غمامة ... خضيبة كف البرق حنانة الرعد

وشوقي يحن إلى مصر، ويراها صورة من الجنة وإن تهاونت في تخليصه؛ وهو يحبها لأنها مدرج طفولته وملعب صباه، ومهبط آماله، ومجال عظمته، ومولد أبنائه وأحبائه ومثوى أجداده وآبائه، ويدعو بالخير لأيامه الماضية وحياته المسعدة المواتية حيث كان هو وأحبابه جمال الحياة، صلتهم حب ووفاء، وزمانهم حافل بالسعادة والصفاء. قال:

لكن مصر - وإن أغضت على مقة - ... عين من الخلد بالكافور تسقينا

على جوانبها رفت تمائمنا ... وحول حافتها قامت رواقينا

ملاعب مرحت فيها مآربنا ... وأربع أنست فيها أمانينا

ومطلع لسعود من أواخرنا ... ومغرب لجدود من أوالينا

سقياً لعهد كأكناف الربا رفة ... أنى ذهبنا وأعطاف الصبا لينا

إذ الزمان بنا غيناء زاهية ... ترف أوقاتنا فيها رياحينا

الوصل صافية، والعيش ناغية ... والسعد حاشية، والدهر ماشينا

(البقية في العدد القادم)

أحمد محمد الحوفي