مجلة الرسالة/العدد 72/من ذكريات الصبى

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 72/من ذكريات الصبى

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 11 - 1934



أول حب

للأديب حسين شوقي

كان أول حب سنة 1918 أثناء المنفى في إسبانيا. . كنا نقضي صيف ذلك العام بغرناطة في الغابة الجميلة التي تحيط بقصر الحمراء الشاهق، حيث كانت ثريا حظية الملك أبن الأحمر المنعمة المد لله تمرح بين النرجس والياسنت. وكنا نقيم في فندق شيد في الغابة نفسها حيث يستطيع الزائر أن ينعم بالراحة والسكونمع بقاءه بالقرب من ذلك القصر العربي المجيد، وكانت هذه الغابة التي غرست فوق رابية، تطل على مدينة غرناطة بمنظرها الرائع وضواحيها الفاتنة. . وكنا في أوائل فصل الصيف، فلم يحضر إلا قليل من السياح، فلم يكن بالفندق غير أسرة أحد كبار الضباط الأسبان وأسرتنا؛ فما لبثت الأسرتان أن تعارفتا بعد زمن قليل. . كان أهلي يقضون أوقات طويلة مع الضابط وزوجته يتحدثون عن جمال الطبيعة في هذا المكان: سكون الغابة، صفاء المياه التي تترقرق في الجداول الآتية من جبل (الشيرا) الذي يشرف كذلك على الحمراء وقد جلل الثلج رأسه صيف شتاء. .

أما أبي فقد وجد في الضابط سميراً أنيساً، لأن الرجل كان برغم تربينه الحربية واسع الاطلاع على الأدب والتاريخ. . كما كان يشارك والدي في توجعه على تلك المدينة العربية الأندلسية العظيمة التي أضاءت العالم الغربي حقبة من الزمن، حين كانيتخبط في دياجير الجهل والهمجية، ثم ما لبثت أن اختفت فجأة في فوضى الوجود. .

وكان هذا الضابط أسمر البشرة إلى حد يلفت النظر، وقد قال له أبي مرة إنه لابد أن يكون من أصل عربي، فأمن الضابط على قوله ذاكراً في شيء من الزهو أنه عربي من بني أمية الأمجاد كما تثبت ذلك شجرة نسب أسرته، إذ كان من النبلاء. .

أما أنا، وكان عمري إذ ذاك ثلاثة عشر عاماً، فما كنت أحفل ببني أمية ولا بغيرهم، بل كنت أقضي الوقت في الغابة أبحث عن فراشة جميلة أضمها إلى مجموعتي.

كانت تعاوني في مهمتي هذه بنت الضابط الصغرى، إذ كان له بنتان: إحداهما في العاشرة وكانت مع الأسف دميمة، ومع ذلك كنت أصطحبها في جولاتي خلال الغابة لافتقاري إ رفيق. . أما أختها الكبرى فكانت في مقتبل العمر، وهي آية في الحسن، ببضاضتها ولونها الخمري، وعينيها السوداوين الصغيرتين الحادتين، ووجهها الذي يبسم دائماً كأنه أيام الربيع. . .

وكانت هذه الفتاة الرشيقة التي تسمى خوانا، وكان أهلها يدعونها خوانيتا (تصغير خوانا) - تدليلاً ومحبة - تتكرم أحياناً بمصاحبتنا في رحلاتنا. . عندئذ كنت أحس بسعادة عظيمة تغمر قلبي وجداني، لابد أني كنت أحب خوانيتا حباً جماً إذ ذاك، فقد فقدت يوماً شالها الحريري الصغير الذي كانت تلف به عنقها في إحدى هذه الرحلات، فأخذنا نبحث عنه - نحن الثلاثة - حتى عثرت عليه أنا معلقاً على جذع شجرة، ولكني بدلاً من أن أرده إليها ألفيت نفسي أقبله، ثم وضعته خلسة في جيبي لأحتفظ به. كم كان طيباً عبيق هذا الشال! وكيف لا يكون وقد أحاط بجيد محبوبتي خوانيتا، وتنسم عبيق غدائرها الساحرة؟ وكنت في الليل حينما أرجع إلى مخدعي وتتراءى لي صورة خوانيتا فتطرد عني النوم أضم إلى صدري هذا الشال فيهدئ وجوده أعصابي ويجلب لي النوم والراحة.

أردت مرة أن أقدم إليها هدية مدفوعاً في ذلك بحب الصبا الجنوني، ولكن ما الذي كنت أستطيع أن أقدمه إليها ونفقة جيبي ضئيلة لا تزيد في الشهر على ثلاثين فرنكاً إسبانياً؟ عندئذ قمت بهذه التضحية: أعطيتها مجموعة الفراش التي عانيت المشاق في جمعها!

أما خوانيتا فلم تكن مع الأسف تشاركني هذا الحب. . . كم كنت أحمق حين ظننت أن فتاة كخوانيتا في العشرين من عمرها تبادل صبياً في مثل سني الحب؟ على أن خوانيتا كانت تجد تسلية كبيرة في التظاهر بحبي، فتلعب معي أدواراً مؤلمة. . فمن ذلك أنها كانت تحتفظ بيدي في يدها - أثناء الرحلات - فكنت إذا ما عدت إلى الفندق لا أغسل تلك اليد طول النهار، حتى أحتفظ براحة خوانيتا فيها، كما كنت أشمها وأقبلها خلسة من وقت إلى آخر. . .

وكانت خوانيتا ترسل إلي أحياناً بعض تلك النظرات التي لا يقوى على مواجهتها قديسو إسبانيا جميعاً! وصار أهلها الذين علموا هذه الخدعية منها ينظرون إليّ بعين ملؤها العطف، بل كانوا يضطرونها أحياناً إلى مرافقتي في الغابة مع أختها. . وا أسفاه! لم أعرف الكوميديا التي كانت تلعبها خوانيتا إلا قبل رحيلنا من غرناطة بأيام قليلة! أيها القدر القاسي لماذا لم تترك لصبي مثلي لذته الموهومة وسعادته المزعومة؟ لماذا لم نرحل قبل إطلاعي على هذه الحقيقة المرة؟ وإليك كيف عرفت الخدعية:

كان أحد باعت الحلوى المتجولين يمر أمام الفندق من حين إلى حين. . فنزلت ذات يوم أشتري منه شيئاً من الشكولاته لخوانيتا وأختها، كما كنت أفعل مراراً، فلما عدت إلى الفندق وصعدت إلى الحجرة التي كانت تجلس فيها الشقيقتان، وجدت بابها مفتوحاً وسمعت خوانيتا تضحك مع شاب غريب (هو ابن عمها كما علمت ذلك فيما بعد) وإذا بها تخبره بقصتي بصوت جهير ولهجة ساخرة، وتذكر له كيف كانت تلعب بعواطفي. . عندئذ سقطت الشكولاته من يدي المضطربة، وأحسست نفسي تذوب كما يذوب تمثال من الثلج تحت أشعة الشمس الحادة!

كرمة ابن هاني

حسين شوقي