مجلة الرسالة/العدد 716/النطق وكيف نشأ في الإنسان وفي الحيوانات العليا؟

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 716/النطق وكيف نشأ في الإنسان وفي الحيوانات العليا؟

مجلة الرسالة - العدد 716
النطق وكيف نشأ في الإنسان وفي الحيوانات العليا؟
ملاحظات: بتاريخ: 24 - 03 - 1947



للأستاذ نصيف المنقبادي المحامي

2 - نشوء النطق في الإنسان

التفاهم بالأصوات:

وفي الوقت نفسه استعان أفراد النوع الإنساني على التفاهم بالأصوات - فوق لغة الإشارات المتقدم بيانها - وقد بدءوا بالأصوات الطبيعية للتعبير عن الانفعالات النفسية أو الآلام الجسمانية والحاجات الحيوية كالتنهد والتأوه والأنين والتأفف وغير ذلك كما تفعل الأطفال والحيوانات. وما نزال نرى لغات بعض القبائل المتوحشة التي تعيش في أواسط أوستراليا وفي أواسط أمريكا الجنوبية في هذا الطور من تطورات لغة البشر إلى الآن، فإنهم نظراً لقلة مواد لغاتهم البسيطة يضطرون للتعبير عن أغراضهم إلى الإكثار من استعمال الإشارات. فإذا تكلموا صوتوا وأشاروا بأيديهم وأرجلهم وأعينهم، والإشارات جزء من لغتهم لا يمكنهم الاستغناء عنه فهم لا يستطيعون التفاهم ليلاً. وألفاظ لغتهم أقرب إلى الأصوات الطبيعية ولغات القرود العليا منها إلى ألفاظ سائر لغات البشر وهناك قبائل أخرى بأوستراليا لا تسعفهم لغتهم في التعبير عما وراء الاثنين بلفظ واحد إذ ليس لديهم من الألفاظ العددية إلا لفظتان فقط هما (نتات) أي واحد، و (نايس) أي اثنين. فإذا أرادوا ثلاثة أضافوهما إلى بعضهما وقالوا: (نايس نتات) أو أربعة (نايس نايس) أو خمسة (نايس نايس نتات) أو ستة (نايس نايس نايس). أما السبعة فما فوقها فيقفون عندها حيارى وهم يعبرون عنها بقولهم ما معناه (كثير).

ثم بارتقاء الناس عقلياً ومدنياً وتقدمهم في الحياة الاجتماعية مع قيام حاجات جديدة لهم؛ كل هذا جعلهم يتصرفون في ألفاظهم الأولى ويتوسعون وينوعونها ويفرعون ألفاظاً أخرى فيها إما بتقليد أصوات الطبيعة وانفعالات النفس وإما بالرمز إلى المعاني بألفاظ كانت تدل في بادئ الأمر على الماديات، كما يفعل الأطفال إلى الآن. فأول لفظة يتفوه بها الطفل الرضيع عندما يبدأ في النطق هي (أم) أو (ما) يقصد بها الرضاع، وهو في هذا يعبر تعبيراً طبيعياً عن ذلك المعنى لأنه إنما يقلد الحركة الآلية الفسيولوجية المحض التي يقوم بها لأطب بشفتيه على ثدي أمه وهو حين يفعل ذلك كأنه يلفظ حرف الميم الذي لا يمكن النطق به إلا بإطباق الشفتين على بعضهما. ثم يتقدم الطفل في السن والنطق قليلاً فيتوسع في ذلك اللفظ الطبيعي إلى (مم) يطلقها على الرضاع أولاً ثم على جميع أنواع الأغذية، وعلى والدته نفسها ويفرع منها (ماما).

وهذا عين ما حدث للإنسانية نفسها في أول عهدها بالنطق ولذلك نجد أن جميع شعوب العالم تعبر عن الأم (أي الوالدة) بألفاظ متشابهة في جميع اللغات تشترك في حرف الميم سالف الذكر.

وكانت اللفظة الواحدة في اللغات الأولى القديمة وفي اللغات المتأخرة الحديثة تدل على الاسم والفعل على اختلاف أزمته (الماضي والمضارع والأمر)، ولم تكن الضمائر وحروف الجر والنسبة والإضافة وغيرها قد ظهرت بعد. فكان الناس - وما زالوا في كثير من اللغات البسيطة إلى الآن - ينوعون معاني اللفظة الواحدة بإضافة لفظة أخرى إليها. فالصينيون مثلاً لخلو لغتهم من حرف الجر (في) يستعيضون عنه بلفظة (وسط) فيقولون (وسط مملكة) أي (في المملكة) ولأنهم لا يعرفون حرف الباء السببية يستعملون بدلها كلمة كاملة مستقلة. فعندما يريدون التعبير مثلاً عن معنى (قتل رجلاً بالعصا) يقولون (قتل رجلاً واستعمل عصا).

وتتقدم لغات البشر خطوة أخرى باستعمال الألفاظ الدالة على المحسوسات والأجسام المادية للتعبير عن المعاني الرمزية والمعنوية فلا تشمل كثير من اللغات البسيطة القديمة والحديثة عل كلمة تدل على معنى الصلابة، ولهذا يستعمل المتكلمون بها لفظة (حجر) للتعبير عن ذلك المعنى كما فعل الناس في لغة إشاراتهم وكما يفعل الخرس الآن. ولا تشمل لغات أخرى على لفظة تؤدي معنى الطول فيعبرون عنه بلفظة (ساق)، وعن لفظة مستدير بقولهم (مثل القمر). ويستعمل العرب أحياناً لفظة (قلب) المادية للتعبير عن (وسط) فيقولون (قلب المدينة) بدلاً من (وسط المدينة) وذلك لأن القلب في وسط الجسم. ولفظة وسط نفسها تحولت في لغتنا العصرية من المعنى المادي ونعني به وسط الأجسام إلى معنى معنوي محض أي وسط غير الماديات وصارت تستعمل بمعنى بيئة.

وقد استطاع علماء نشوء اللغات وتطورها واشتقاقها أن يردوا معظم الألفاظ المستعملة الآن في اللغات الحديثة إلى أصول بسيطة تحاكي أصواتاً طبيعية أو انفعالات نفسية أو آلاماً جسمانية أو تقلد فعلاً مادياً مألوفاً، ويطول بنا المقام لو أردنا استيعاب ذلك فنكتفي ببعض أمثلة عن أصول الألفاظ العربية نقتبسها من كتاب جورجي زيدان الذين نحن بصدده. فمن ذلك ألفاظ: قط وقطب وقطف وقطع وقطم وقطش وقطل، فإنها جميعها تتضمن معنى القطع والأصل المشترك بينها هو لفظة قط وهو حكاية صوت القطع كما لا يخفى - وباللغة الإنجليزية أيضاً (كت) - وبتطور اللغة وارتقاء المتكلمين بها في المدنية تنوعت مدلولاتها بإضافة لفظة ثانية إلى لفظة قط للتعبير عن مختلف معاني القطع وعلى ممر الزمن ضمرت اللفظة الثانية كما تضمر أعضاء الحيوانات والنباتات، وكادت تندثر ولم يبق منها الآن إلا حرف واحد اندمج في لفظة قط وصار وإياها كلمة واحدة بالطرق المقرر في علوم فقه اللغات.

ومن متنوعات (قط) لفظاً (قص) ومنها قصم وقصل وقصب وقصر وقصف وقص، وجميعها تفيد القطع وتحاكي بعض أصوات تنوعاته القطع بالمقص. ومن تحولات قص لفظة كس وهي محاكاة صوت الكسر ولا سيما كسر الخشب - وبالفرنسية أي كسر - ومنها كس وكسر وكسع وكسم. وتحولت (قص) لفظاً من ناحية أخر إلى (جز) ومنها جذه وجذب (بمعنى انقطع فيقال جذب الريق أي انقطع) وجذف وجذم وجميعها تتضمن معنى القطع أو تنوعاته ويجانس جذ جز وهو محاكاة صوت الشعر وتنوعت من جز وجزء وجزع وجزل وجزم. وإن تنوع معنى القطع يفوق المئات عدا فضلاً عن اشتقاقات كل لفظة منها اسماً وفعلاً ونعتاً وفاعلاً ومفعولاً ثلاثياً ورباعياً وخماسياً وغير ذلك مما تطورت إليه اللغة وتحولت من أصولها البسيطة الأولية. وكانت تدل في أول استعمالها على معانٍ حقيقية حسية ثم أطلقوها على معانٍ مجازة وكلها ترجع إلى أصل واحد وهو محاكاة صوت طبيعي وهو صوت القطع.

وهكذا الحالب بالنسبة لمعظم ألفاظ اللغة. فمن (هب) بمعنى ثار أو هاج فرع هب وهيج (أي ضرب ضرباً شديداً)، وهبذ أي أسرع في المشي وهبش بمعنى هيج المتقدمة، وهبص الرجل أي نشط أو عجل، وهبا الفرس أي فر. وهي جميعها تتضمن معنى (هب) وهي محاكاة صوت اللهيب إذا نفخه الإنسان أو نفخه الريح. ومن الألفاظ التي تدل على السرور وطلاقة الوجه: بسب وبساء وبسم وبسط وبسل وبش أي حسنت سحنته وجميعها ترجع إلى معنى واحد وهو (بس) التي يغلب أنها تحولت لفظاً عن بش وهي من الأصوات التي ينطق بها الإنسان غريزياً عند الاستحسان كقول العامة إذا استحسنوا شيئاً أو أعجبوا به (إش) ومنها بش. ووجه بشوش. ومن ضروب معاني الفتح فق وفقاء وفقح وفقر وفقص وفقس وفقش. والعامة تقول فقع. وترجع جميعها إلى (فق) وهي حكاية صوت القربة إذا شقت وهي ملائ أو ما شاكل ذلك من الأصوات القريبة.

وفي الأمثلة المتقدمة جاء الحرف المزيد - المشتق من كلمة إضافية قديمة - في آخر الكلمة الأولى وهذا هو الأغلب ولكن قد يكون في الوسط أي بين الحرفين الأصليين كشلق من شق، وفرق من فق، وقرط من قط، وقرص من قص وقرض من قض، وشرق من شق، ولحس ولعس ولهس من لس.

وألفاظ أخرى كثيرة مشتقة في الأصل من أصوات طبيعية تعبر عن انفعالات نفسية أو حالات جسمانية فسيولوجية يخرجها الإنسان أو الحيوان باختياره أو عن غير قصد مثل (آه) للتألم والتنهد. ولا يخفي أن الآلام وسائر انفعالات النفس تحدث اضطراباً في التنفس عن طريق الجهاز العصبي فيضطر الحزين أو المغموم أو المهموم أن يستنشق من فترة إلى أخرى كمية زائدة من الهواء ليعوض ما فاته من التنفس الناقص أثناء اضطرابه أو حزنه. وهذا هو التنهد بعينه: وقد اشتقت من لفظة (آه) ألفاظ كثيرة منها التأوه وتأوه ومنها لفظة (تنهد) نفسها. ومن ذلك الهمهمة وهي الصوت الحاصل من الزفير عن الحزن ومنها الهم والمهموم الخ. والزفير أي إخراج النفس بشدة عند عمل شاق والشخير وهو محاكاة النائم وهو يغط. والنحنحة والعطاس والسعال. ومن ذلك لفظة (وي) وقد تركب منها ومن اللام لفظة وبل ويعبرون بها على التفجع أو حلول الشر واستعملوها اسماً لوادٍ في جهنم، وشقوا منها ويله بمعنى فضيحة وركبوا من ويل ألفاظ أخرى منها ويح، ومنها ويب وربما كان أصلها (وي أب) للاستغاثة بالأب ولفظة (ويخ) ربما كان أصلها (وي أخ) للاستغاثة بالأخ. وكذلك الألفاظ العديدة المشتقة من كلمة أف ومنها الأنف والتأفف والمنفخ وغيرها.

ويؤيد أن اللغة العربية نشأت هكذا إننا نجد تلك الألفاظ الأصلية في أخواتها العبرية والحميرية والآشورية والحبشية والكلدانية والمصرية القديمة وجميعها مشتقة من أصل أو أصول قديمة اكتشفت آثار بعضها ولا يزال بعضها الآخر مجهولاً. وهي مجموعة اللغات المسماة باللغات الشرقية أو السامية. ويمكننا أن نتبين هنا أصل نشوء وتنوع وتطور الأسماء والأفعال على تباين صورها والحروف المختلفة كحرف الجر والنفي والإضافة والإشارة وكذلك الضمائر، ويمكننا أن نتتبع كيفية تحول جميع هذه الألفاظ وتسلسلها من اللغات السامية القديمة إلى اللغة العربية وأخواتها السامية الحديثة كالعبرية وغيرها. ولكن المقام لا يتسع لذلك فنكتفي بمثل أو مثلين:

فالظرف (مع) في لغتنا العربية يقابله في العبرية (عم)، وفي السريانية (عم) فلا شك في أن (مع) العربية مقلوبة عن (عم) العبرية والسريانية. ومن الغريب أن هذه اللفظة نفسها تفيد أيضاً في هاتين اللغتين - فوق معنى الظرفية - معنى (شعب) ومعنى (العم الشرعي). فيستدل من ذلك أن الأصل فيها معنى الاجتماع والاتحاد فاستعملوها اسماً للعم الشرعي وانتقلت للعربية كما هي، واستعملوها أداة عطف وانتقلت إلى العربية مقلوبة - أو أنها قلبت في الطريق.

ولفظة (ليس) النافية في اللغة العربية أصلها (لا) حرف النفي و (أيس) التي معناها في العبرية الكون أو الوجود ولم تنتقل هذه الكلمة إلى العربية أو إنها انتقلت ولم تلبث حتى اندثرت لعدم استعمالها. فلفظة ليس المستعملة الآن في العربية معناها نفي الوجود و (أيس) هذه بمعناها المذكور موجودة في كثير من اللغات السامية وغير السامية. فهي في العبرية القديمة (يش)، وفي السريانية (إيت)، وفي اللاتينية والسنسكريتية والفارسية واليونانية وفروعهن (إيست أي الكون أو الوجود، وفي الفرنسية القديمة المتسلسلة من اللاتينية كما لا يخفي (إيست أيضاً ومنها تحولت في الفرنسية من اللاتنية كما لا يخفي (إيست أيضاً ومنها تحولت في الفرنسية الحديثة إلى فعل الذي أصله في الفرنسية القديمة الذي يفيد معنى الوجود أو الكينونة وإن عبارة أصلها ومعلوم أن حركة (8) المسماة المستجدة في الفرنسية الحديثة حلت محل حرف في الفرنسية القديمة وعلى هذا النحو تحولت لفظة بمعنى فندق إلى

وكلمة (مال) العربية التي يعتقد جمهور الناس إنها لفظة ثابتة قائمة بنفسها إنما هي مركبة في الواقع من (ما) الموصولة ولام الإضافة كقولهم ما للرجل وما عليه أي الذي له والذي عليه، وقد اندمج هذان الحرفان على مر الزمن وأصبحا كلمة واحدة مستقلة بمعنى المال. واشتقت منها ألفاظ عديدة منها مول واشتقاقاتها فعلاً واسعاً وفاعلاً ومفعولاً، ومنها ملك وملكية ومملوك وفعل ملك وامتلك الخ ومنها ملك وجمعها ملوك. ولا يبعد أن يكون مال يميل مأخوذ عن تلك اللفظة لأن الميل فيه معنى الحب والرغبة، والمال أحب شيء للإنسان.

وما يقال عن اللغة العربية وأخواتها وأجدادها السامية يقال عن اللغات الهندية الأوروبية والطورانية وجميع لغات العالم.

وخلاصة القول إن النطق ظاهرة طبيعية محضة بدأت على أبسط صورة في الحيوانات العليا التي تعيش جماعة مثل بعض الطيور وبعض أنواع ذوات الثدي وعلى الأخص القرود العليا (أما النمل فله طريقة صامتة للتفاهم والتعبير). وقد ارتقى النطق واتسع في الإنسان نتيجة العوامل الطبيعية المتقدم بيانها التي أدت تطور النوع الإنساني وتحوله إلى شكله الحالي. فالفرق بين الإنسان والحيوانات إنما هو فرق في الدرجة فقط - درجة التطور - وليس في طبيعة الأمور.

وقد نشأت اللغات - وهي ظاهرة اجتماعية طبيعية محض - من النطق بأصوات بسيطة لجأ إليها الإنسان الأول للتفاهم وكان يعبر بها عن الانفعالات النفسية أو الآلام الجسمانية أو الحاجات الحيوية، ويقلد بها الأصوات الطبيعية للأشياء والأفعال المختلفة أو أصوات الحيوانات والطيور أو عوامل الطبيعة. ثم تصرف فيها وتوسع بالنحت والاشتقاق والقياس والإضافة والإدماج وتحويل الألفاظ من معانيها المادية إلى المعاني الرمزية والمعنوية الخ طبقاً لحاجاتهم المستجدة مع تقدمه في المدنية وارتقاء الحياة الاجتماعية والعقلية. فصارت اللغات البسيطة الأولية تتطور هكذا تطوراً يختلف باختلاف البيئات والأقاليم فنشأت اللهجات المختلفة واستمرت هذه في التطور والتحول عن أمهاتها حتى أصبحت لغات جديدة مستقلة تولدت من كل واحد منها لغة أو لغات أخرى تسلسلت منها اللغات القديمة ثم الحديثة على نحو تطور الكائنات الحية النباتية والحيوانية (بما فيها الإنسان) وتسلسل الحديث منها من القديم طبقاً لنواميس التطور والتحول الطبيعية التي تشمل كل ما في الكون وعلى الأرض من الجمادات والكائنات الحية (وهي صورة من صور الجمادات ومظهر من مظاهرها) واللغات والشرائع والأنظمة الاجتماعية والاقتصادية.

نصيف المنغبادي