انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 711/على ذكر المولد النبوي:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 711/على ذكر المولد النبوي:

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 02 - 1947



محمد والأمن العام

لصاحب العزة علي حلمي بك

مدير جرجا

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

التشريع الجنائي في الإسلام

القواعد الإيجابية التأديبية للأمن

لا قوام للأمن بغير عقوبة توضع للجريمة التي ارتكبت ردعاً للجاني وزجراً لغيره، ولا قيمة لهذه العقوبة إلا إذا نفذت فعلا على المجرم الآثم، فهل وضعت الشريعة المحمدية عقوبات للجرائم التي تزعزع أركان الأمن وتسبب شقاء المجتمع.

نعم. وما الحدود التي شرعها الله وأوصى بها الرسول الكريم إلا عقوبات تحد من الإجرام وتقف بالإنسان عند حده. واليك بيانها بإيجاز:

أولا - عقوبة الإعدام (القصاص): لا شك في أن أول جريمة تقض مضاجع الناس وتروعهم فتشقى بها الإنسانية إنما هي جريمة سفك الدماء وإزهاق الروح. وقد شرع الله لها القصاص فقال (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص) وهي مادة أساسية في قانون محمد الجنائي.

ثانياً - حد قطاع الطرق: وهم العصابات المسلحة التي تتربص بالمارة ليلاً أو نهاراً وتقتل للسلب والنهب.

وحكم الشريعة فيهم ينحصر فيما يلي:

أ - الإعدام: أن ثبت أنهم ارتكبوا القتل.

ب - الصلب مع القتل: أن قتلوا وسلبوا الأموال على خلاف بين الأئمة في الصلب.

ج - قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف: (اليد اليمنى والرجل اليسرى) هذا أن اقتصروا على سلب المال دون سفك الدماء د - النفي: أن استعملوا الإرهاب ولم يقتلوا أو يسلبوا، وقد فسر بعض الأئمة النفي بالحبس. على أنه ثبت أن عقوبة النفي للمجرم فيها إصلاح وأمن، وأن إبعاد المجرمين الخطرين الذين لا يرجى إصلاحهم وعزلهم عن المجتمع كما حصل أخيراً باتباع هذا النظام في معتقل الطور أدى إلى تحسن حالة الأمن وخاصة في الجهات التي نفي منها هؤلاء - وحبذا لو رأى ولاة الأمور استخدامهم في استصلاح الأراضي الزراعية البور كأرض البراري في شمال الدلتا أو العمل بالمحاجر والمناجم أو تشغيلهم في إنشاء الطرق في الجهات النائية كمديرية قنا وأسوان في سبيل العمران والرخاء والأمن.

هذه العقوبات الموضوعة لقطاع الطرق مستقاة من قول الله عز وجل شأنه (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض).

ثالثاً - السرقة: وهي الجريمة الدنيئة التي تتمثل في سلب الأموال وهي قوام الحياة يلجأ إليها المجرمون من الكسالى والمتواكلين رغبة في الاستمتاع بالعيش السهل على حساب غيرهم من المجدين العاملين.

ولهذه الجريمة أسوا الأثر في اضطراب الأمن وانتشار الفوضى، لهذا كانت العقوبة التي وضعها الإسلام لمرتكبيها عقوبة صارمة. وهي قطع يد السارق إذا ثبت عليه الجرم بلا شبهة وليس هنا موضع الحديث عن المقدار الذي يجب فيه القطع ولا عن المال المسروق ولا عن الشبهة التي تمنع الحد (فمرجع ذلك كتب الفقه) لكننا قصدنا إلى بيان أن عقوبة السرقة التي وضعها الله تعالى هي العقوبة الطبيعية لمنع هذا الجرم ودفعا للكسالى والمتواكلين إلى العمل والسعي إلى الرزق وحفظا لا موال الناس من عبث المجرمين. وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يشتد في عقاب السارق ولا يعفو عنه حتى ولو عفا المجني عليه، روي أن صفوان بن أمية عفا عن سارق ردائه فقال عليه الصلاة والسلام (لا عفا الله عني أن عفوت) وأمر بقطع يد السارق وهو الذي يقول في لهجة الغاضب الأسف لجماعة يريدون الاستشفاء لامرأة سرقت ما يوجب الحد عليها (والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها) فلئن دل هذا الحادث على شيء فإنما يدل على أن إقامة حدود الله وهي روادع البشرية وزواجر الإنسانية لم يكن للعاطفة فيها نصيب ولا للرحمة عندها منفذ. فهذه فاطمة بنت محمد وهي أحب ذريته إليه ومع ذلك يقسم صلوات الله وسلامه عليه أنه لو سرقت هذه المحبوبة صاحبة المنزلة الكريمة في نفس لأوقع عليها الحد وأنزل بها العذاب، فأي معنى من معاني السمو الخلقي أسمى من هذا الخلق الكريم فلا شفاعة ولا استشفاع ولا محبة ولا عاطفة تمنع من إقامة الحدود مهما يكن الداعي إليها والمسوغ لها، لذلك انعدمت الجرائم أو قلت كثيراً وعم الأمن وشمل العالم فعمه النظام وطمأنينة البال. وما كان يقع من شرور أو يحصل من آثام فإنما هي أمور شاذة معدودة أمكن علاجها واصبح من المستطاع استئصالها. ولا محل إذن لقول متحامل على الإسلام من مدعى المدينة بأنها أمور وحشية وعقوبات غير إنسانية، فالإسلام لم يكن مبتدعاً لهذه العقوبات ولكنه أقر ما جاء منها في الشرائع السماوية، فكان العالم على ما قدمنا يرزح تحت نيران الفتن وعوامل الفساد، وكانت الحال على أشدها فلا مال يصان ولا نفس تحفظ ولا عرض يحترم. وجاء الإسلام فرعى الحقوق وحقن الدماء ونشر السلام وأمن النفوس وجمع القلوب على دين واحد وتعليم شاملة ومبادئ سامية.

وإن كثيراً من حوادث السرقات إنما يقع بسبب إهمال صاحب المال وعدم الحيطة والحذر كأن يترك مثلا متاعه أو دابته أو سيارته في الطريق ثم يذهب لقضاء عمل يستغرق وقتاً، فيكون في ذلك إغراء للسارق وتشجيع له على السرقة. وقد يكل بعض الناس أمور الحراسة لغير الأمناء بلا حذر أو مراقبة فيستعين الجاني بالحارس على ارتكاب الجريمة.

ولم يهمل المشرع العظيم هذه الناحية. إذ يقول الله تعالى (وخذوا حذركم) ويقول عليه الصلاة والسلام (اعقلها وتوكل)

رابعاً - عقوبات أخرى: شرع الله سبحانه وتعالى على لسان محمد وشريعته الغراء عقوبات أخرى خلقية لها أثرها في الأمن أي أثر

الجرائم الخلقية:

لا تقتصر الجريمة على الماديات فحسب. بل تتعداها إلى غيرها، فهناك الجرائم الخلقية كهتك العرض والفسق التي كثيراً ما تنشأ عن عدم عناية بعض أولياء الأمور بتربية أولادهم وعدم مراقبتهم والمحافظة عليهم.

الزنا: هو شر أدواء المجتمع: يقوض دعائم الشعوب ويهدم أركان الممالك وحسبك أن انتشاره يقطع التناسل ويؤدي إلى انقراض النوع الإنساني ويهدم صرح الأسرة وهي اللبنة التي يكون منها الأمة. أضف إلى ذلك ما ينشأ عن هذا الجرم الشنيع من انتشار أمراض المدنية (الأمراض الخبيثة) وما يترتب عليها من شقاء الزاني وألمه المرير طوال حياته فيعيش مشوها في خلقه متألما في جسمه ونفسه منبوذاً من المجتمع الذي يحيط به. ثم أن الزاني جرثومة قذرة أن لم يبادر بإبادتها نمت وفشت فتصيب بمرضها الوبيل كل من يقترب منها أو يتصل بها.

ولنا أن نستنتج ما يأتي:

1 - أن الزنا جريمة يمتد أثرها إلى المجتمع نفسه فيصيبه بالانهيار والانحلال.

2 - إنه يفقد الشرف والكرامة وهما أسمى آيات الإنسانية الكاملة.

3 - إنه سبيل المرض. ولا خير في أمة مريضة الشباب ضعيفة الرجال.

4 - إنه وسيلة الفقر وذهاب المال والمال قوام الحياة.

5 - إنه أساس لكثير من الجرائم الأخرى التي تؤثر شر تأثير في الأمن العام كالسرقة والتزوير والغصب فضلا عما يؤدى إليه الانتقام للعرض كالقتل كما هو حاصل في أنحاء البلاد وخاصة في الوجه القبلي. والتاريخ يحدثنا أن الأمم التي ترتكب الشهوات وتنغمس في اللذائذ والمنكرات تكون عاقبتها الانحلال والضعف وفقدان الشخصية مهما تكن على قسط من الغنى والقوة أو الحضارة والمدينة (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا).

وليس هناك من علاج حاسم إلا ما قررته الشريعة الإسلامية من عقاب الزاني والزانية في حزم وبساطة (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منها مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله أن كنتم تؤمنون بالله واليوم الأخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) فلو نفذ حد الزنا من جلد أو رجم لكفانا ذلك العمل على بساطته مؤونة البحث والتنقيب والخطابة والتأليف والكتابة والنشر وتأليف اللجان وما إلى ذلك مما لا يجدي نفعاً في كبح جماح هذه الغريزة الجنسية ولاسترحنا من الويلات والمشاكل والقضايا المترتبة على هذه الجريمة التي تشغل بالنا وتؤثر في امتنا وهذا لا يمنع من إيجاد علاج شاف للنساء الساقطات اللاتي كن يحترفن البغاء العلني بما يمنع تسربهن إلى البغاء السري وذلك بإنشاء مؤسسات تكفل لهن العيش الشريف وضمان المستقبل يعملن فيها بأشغال يدوية كالحياكة وغيرها ويمنحن مكافآت مالية بقدر ما يعملن وتيسير زواجهن إلى أن ينقرض هذا الوباء بعلاج حاسم حازم سريع.

ولنتكلم عن عقوبة الزنا بشيء من الإيضاح لنبين الغرض منها:

قيدت الشريعة السمحة ثبوت هذه الجريمة واستحقاق العقوبة عليها بقيود شديدة تجعلها نادرة التنفيذ ووجهة النظر في التشريع الإسلامي هنا تنحصر في أمرين: الأول منع الجريمة الثاني ستر العرض.

فالإسلام يبغي من وراء هذه العقوبة الصارمة الإرهاب. والخوف كان ولا يزال غريزة من غرائز النفس البشرية كثيراً ما يفيدنا في التشريع والإصلاح الاجتماعي لأن الدين الحنيف يريد استئصال الجريمة من أساسها لما في ذلك من استقرار النظام الاجتماعي وإسعاده ويريد بدوره ستر الأعراض وعدم الفضيحة والعار لقبح هذه الجريمة وشناعتها. لذلك كان ثبوتها من الصعوبة بمكان.

وإليك البيان:

أولا - اشترطت في رجم الزاني:

1 - أن يكون بالغاً فلا يرجم الصبي طبعاً.

2 - أن يكون عاقلاً فليس المجنون محصناً فلا يرجم.

3 - أن يكون مسلماً.

4 - أن يكون الزاني متزوجاً وأن يدخل بمن تزوج منها.

5 - أن يكون فاعلاً باختياره فلا يرجم من أكره على الفعل

ثانياً - أسقطت الشريعة الحد أن وجدت أية شبهة لقوله عليه الصلاة والسلام (ادرءوا الحدود بالشبهات).

ثالثاً - اشترطت لثبوت الزنا واستحقاق الحد سواء أكان رجماً للمحصن أم جلداً لغيره أن يتقدم للشهادة عليه أربعة شهود عدول في مجلس واحد شهدوا وقوع الجريمة ورأوا الفعل رأي العين على حد قول الفقهاء (كالمرود في المكحلة) فلو اختلفوا في الرؤية وتأخر أحدهم عن المجلس الواحد (الجلسة عينها) لم تثبت التهمة ولا حد. بل يحد الشهود الأول حد القذف لأنهم رموا إنسانا بالزنا والجريمة لم تثبت عليه.

رابعاً - رأى بعض الأئمة أن ترك الشهادة في جريمة الزنا أولى إلا إذا كان الزاني متهتكا فاجراً.

خامساً - حتمت الشريعة على القاضي في حالة إقرار الزاني على نفسه أن يرده أربع مرات وان يتغافل عنه وان يقول له (لعلك قبلت أو لمست) في كل مرة يعود فيها للستر من جهة ولصرامة العقوبة من جهة أخرى.

سادساً - إذا رجع المقر عن إقراره بعد ذلك ولو بعد صدور الحكم سقط الحد. من هذا كله نرى أن الشريعة قصدت إلى أمرين هما (منع الجريمة وستر الأعراض) إذ أن إنزال العقاب يكاد يكون مستحيلا مع كل هذه القيود التي سبق سردها، على أن العقوبة نفسها مناسبة لأن هتك الأعراض وفساد المجتمع ليس بالشيء الهين الذي يحتمل الهوادة واللين.

الخمر:

إذا تحدثنا عن الخمر فإنما نتحدث عن أم الخبائث وأساس المنكرات ومبعث الجريمة. وسنبين فيما يلي الحقائق التالية ليتبين منها أثر الخمر في الأمن العام:

أولا - أن الغول (الكحول) الموجود بالخمر يؤثر على المجموع العصبي ويحدث التخدير والنشوة فلا يشعر الثمل بما يأتي من الأعمال ولا يقدر النتيجة المترتبة على فعله، لهذا نجد كثيراً من المجرمين كالقتلة واللصوص يتعاطون المسكرات قبل شروعهم في إجرامهم ليزدادوا جرأة وإقداما.

ثانياً - ثبت في بعض البلاد الأجنبية التي تنتج الخمر وتعتمد عليها كحاصلات أن نسبة الإجرام تزيد في موسم محصول الخمر زيادة تلفت النظر.

ومن الحوادث التي روتها الكتب أن شبانا كانوا يحتسون الخمر فمرت بهم عجوز فدعوها وناولوها كأساً فلما شربتها شعرت بخفة وسرور، ثم لما شربت الثانية أخذت تضحك وتداعب الشبان وقالت لهم: أيشرب نساؤكم هذا الشراب؟ قالوا: نعم قالت: لقد زنين ورب الكعبة.

والواقع الملموس أن كثيراً من حوادث الشغب وما يؤدى إليه من ارتكاب الجريمة يحدث في مواطن شرب الخمر من الحانات والشوارع التي يكثر فيها تناول الخمور. وهناك أقسام البوليس لا يهدأ لها بال ولا تكاد تخلو كل مساء من عدة حوادث إجرامية منشؤها السكر والعربدة. وهي الأقسام القريبة من بؤر الدعارة ومحال الخمور.

ومن أجل ذلك حاولت بعض الدول الكبرى تحريم الخمر في داخل أراضيها كأمريكا، وحرمت بعضها تناولها في أوقات معينة وهى ترمي إلى تقليل ضررها الجسمي والاجتماعي ما أمكن ذلك.

وبعد: فقد علم الله العليم الحكيم ما في الخمر من ضرر جسيم وبلاء عظيم فحرمها الإسلام الحنيف وأوجب عقاب شاربيها.

ويلاحظ أن العقوبة التي وضعت لهذا الجرم فيها إيذاء مادي للبدن. كما أن فيها إيلاماً وامتهاناً للنفس يتناسب مع امتهان الشارب لنفسه وحقارتها لسكره وعربدته حتى تكون زاجرة رادعة له ولغيره من العابثين المستهترين وهنا يستقر النظام ويستتب الأمن.

ثمانون جلدة: عقاب فيه بساطة التشريع وبساطة التنفيذ جريا على عادة البساطة في الشريعة الإسلامية السمحة والإسلام دين الفطرة، ولكن الإسلام مبالغة في الكرامة الإنسانية وإرادة للستر وتخفيفاً على العباد اشترط أن يؤخذ الشارب ورائحة الخمر في فمه.

فأوجب لثبوت الجريمة أن تكون مادتها موجودة وهي رائحة الخمر إلا إذا ذهبت الرائحة لبعد المسافة وطول الوقت، واشترط لذلك أن يشهد على الشارب اثنان تتوفر فيهما العدالة وعدم التجريح وتنتفي التهمة معها العقوبة بأية شبهة يظنها القضاء كأن يثبت أن المتهم شربها للعلاج مثلاً.

ولو رجع في إقراره بعد أن اقر بالشرب لا يحد، وكذلك لو شهد الشاهدان ولا رائحة للخمر في فمه.

فلّله ما أسمى هذا التشريع وما أعدله وما أبعد أثره في تقويم النفوس وتهذيب الأخلاق وسعادة المجتمع.

إن هذا التشريع هو ما يتطلبه المجتمع اليوم للقضاء على ما فيه من شرور وجرائم ليستريح الناس ويتطهر العالم مما علق به من رجس وآثام ويسير مطمئناً إلى حياة الاستقرار والسعادة والنور والسلام. (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور)

علي حلمي

مدير جرجا