مجلة الرسالة/العدد 711/الأدب في سير أعلامه:
مجلة الرسالة/العدد 711/الأدب في سير أعلامه:
3 - تولستوي. . .!
(قمة من القمم الشوامخ في أدب هذه الدنيا قديمه وحديثه)
للأستاذ محمود الخفيف
طفولة ونسب
ويتصف الطفل منذ نشأته بصفة لعلها وليدة شعوره القوي بذاته، وتلك هي سرعة بكائه، وما يبكي من غيض فحسب، فإن عينيه تدمعان إذا لقي حنواً أو مودة ممن هم أكبر منه، وإن عجباً أن يبكي في موضع السرور ليعبر بدمعة عن امتنانه، فهل كان لذلك سبب أخر هو إحساسه بيتمه منذ أن فطن إلى موت أمه؟ ولكنه بكاء شكاء من قبل أن يفطن إلى ذلك، وهو لا
يملك أن يحبس دمعة إذا رأى غيره يبكي وأن لم يدر ما بكاؤه ولقد يغضب غيره حتى يبكيه ثم لا يستطيع إلا أن يبكي معه؛ كتب فيما بعد عما كان بينه وبين تلك البنت التي كان يربيها أبوها في أسرته فقال: (أتذكر أني أخذت وقد تعلمت الفرنسية أعلمها حروفها الهجائية، وسار ذلك سيراً طيباً أول الأمر، وكنا يومئذ كلانا في نحو الخامسة من عمره ولكن التعب أدركها فأمسكت عن نطق الحروف كما طلبت إليها، فألححت عليها فبكت ثم إذا بي أبكي مثلها، ولما دخل علينا من هم أكبر منا لم نجد ما نقوله بسبب ما كنا نذرف من الدمع).
وكان ليو أكثر من غيره من الأطفال حباً للثناء عليه وابتهاجاً بما يسمع من عبارته، وذلك أنه يفطن إلى أن الثناء عليه ينصرف بالضرورة إلى ما يبدي من دلائل الذكاء والنشاط والطموح، إذ ليس يطمع في ثناء عليه بسبب منظره أو ملاحة وجهه أو رشاقته كما عسى أن يطمع سيرجي أو نيقولا؛ فما أبعده عن ذلك كله، وهو شيء ليس في طوقه، وان كان يتمنى بينه وبين نفسه لو وقعت معجزة فغيرت شكله إلى ما يحب من وجاهة
وحسن؛ ولن تقع هذه المعجزة أبداً فليس له إلا أن يرقى بنفسه وبيدي مقدرته، ولهذا كان إذا دعي إلى عمل جمع عزمه وحرص الحرص كله على أن يكون في احسن حالاته، ومن ذلك ما يكون منه بين يدي أبيه حين يدعوه إلى تلاوة قصيدة من شعر بوشكين أو غيره من الشعراء، أو تلاوة أقصوصة من كتاب أو من ذاكرته أو حين يناقشه في دروسه ليعلم مبلغ فهمه.
وكان شغفه بالموسيقى عظيما يتفتح لها قلبه وتنفعل لها نفسه ويبتهج خاطره إذا سمع لحناً وانشغل غيره عنه فهو مقبل عليه بقلبه ولبه كأنه مسحور به لا يكاد يعي دونه شيئاً.
ويحب ليو الناس جميعاً لا يضمر سوءاً لأحد، ولا يتجهم لأحد، ويكره أن يرى شخصاً يتألم أو تمشي في وجهه كدرة الهم كما يكره أن يعبس أحدهم في وجه صاحبه أو يتكره له أو يتجهمه بالقول، فالصفا والمحبة والمودة من خصائص طبعه ومقومات خلقه
غلام نابه
تمكنت من نفس الصبي روح المحبة للناس جميعاً، ولسوف تتوثق على الأيام وتزداد فيكون لها أثرها البعيد في تكوين آراء الكاتب العظيم في غد، وفي توجيه روحه وتحديد مسلكه في مواطن كثيرة من مواقف حياته.
وكان يحب الطفل فيمن أحب في طفولته كبيرة الخدم العجوز التي لبثت من عمرها في القصر سنين طويلة لا يدرك مدى طولها، والتي تقص أجمل القصص عن أجداده وأحداث أسرته وتلاعبه وتضاحكه كلما ذهب إليها أو كلما لقيته في إحدى ردهات القصر أو حجراته، وتخبئ له الحلوى في ثيابها لتلاقيه بها أو تفتح له خزانتها ليأخذ منها ما يحب؛ وكان كذلك يحب كبير خدم المائدة لأنه يهش له دائماً ويظهر المودة والعطف؛ والحق أنه كان يحب الخدم جميعاً وإنما يختص من هم اكثر تودداً أليه. دخل يوماً على العمة تاتيانا يشكو إليها أنه رأى منظراً كدره وآلمه، وذلك أنه شاهد أحد الفلاحين يساق إلى حظيرة حيث أوثقه رئيسه وضربه، ولما سألته عمته لم لم يحل بينه وبين الضرب أطرق في خجل ولم يحر جواباً، وكأنما يزداد ألماً ألا يستطيع أن يتدارك ما فاته.
وبينما كان أفراد الأسرة كبارهم وصغارهم في الثوى الكبير ذات ليلة من ليالي الشتاء أشار الكونت نيقولا رب الأسرة بسبابته إلى الحجرة المقابلة وكانت مفتوحة، فوقعت أعين الجالسين على منظر أثار ضحكهم ودهشتهم فقد عكست المرآة فيها صورة أحد الخدم يمشي على أطراف أصابعه، وما زال حتى بلغ الصندوق الطباق فسرق منه قدراً وانصرف، وكان الكونت ينظر إليه ضاحكاً لم تزل عنه بشاشته، بل لقد صحب تلك البشاشة شيء من التسامح والرفق، ولما رأى ليو تسامح أبيه أمتلئ سروراً منه وازداد إعجاباً به، وعند انصرافه لثم يده في حماسة ظاهرة ليريه مقدار ما في نفسه من رضاء على ما أظهر من رحمة ورفق.
وامتد عطف الصبي حتى وسع الحيوان فقد أحزنه ذات يوم مرأى كلب مربية والخدم يشنقونه، وكان ذلك الكلب العزيز الرمادي اللون ذو العينين الجميلتين والشعر الناعم الجعد على حد وصفه قد أصيب بكسر ساقه إذ مرات فوقه عربة، فأعدم إذ لم تعد بهم حاجة إليه في الصيد؛ وعجب الصبي لما رأى بقدر ما تألم منه. وانه ليروي هذا الحادث بعد فيما يروي من حوادث الصغر مما يدل على شديد تأثره به، قال: (كان الكلب يعاني الألم وكان مريضاً وقد شنق بسبب ذلك. لقد أحسست أن هناك خطأ فيما يقع، ولكني لم أجرؤ على الثقة في شعوري حيال ما أرى من تصميم ثابت من جانب قوم أحترمهم).
ووقف الصبي ذات يوم يمسح بكفه الصغيرة حصانة، وقد وثب عن ظهره إلى الأرض إذ نبهه أحد الفلاحين وقد رآه يضربه ألا جدوى من ضربه لأنه متعب، ونظر الصبي إلى الحصان وهو يلهث ويخرج أنفاسه في زفرات مؤلمة متقطعة، وجنباه يرتعشان والعرق يتبخر منهما، فبلغ من حزنه أنه (أخذ يقبل عنقه الذي بلله العرق ويسأله الصفح عما أوقع به من أذى). . .
وممن وسعهم عطف الصبي وشملهم بره أولئك الفقراء الذين كان يعدهم الناس من الصالحين الأولياء، وكانوا كثيرين في تلك المنطقة لقربها من كييف حيث يتقاطر الحجيج ليزوروا مواضعها المقدسة، وكان مرأى هؤلاء في أسمالهم البالية وبلاهتهم وتمتماتهم وعدم اكتراثهم لأي شيء أمراً يثير الدهشة في نفس الصبي كما يبعث فيها كثيراً من الرهبة، ويوحي إلى خياله أطيافاً مهمة وصوراً غامضة؛ وكان ينبئه اخوته أن في هؤلاء الصالحين سراً لا يمكن كشف يجعلهم على الرغم من حقارة مظهرهم وقذارة أسمالهم أقرب الناس إلى مرتبة القديسين، وقد وصف تولستوي هذه الطائفة في شخص (جريشا) الذي تحدث عنه في كتابه (عهد الطفولة) وقد كتبه وهو في الخامسة والعشرين من عمره قال: (كان جريشا شخصية مخترعة، وكان يغشى منزلنا كثير من هؤلاء البلة الطيبين، وقد علمت أن انظر إليهم نظرة الاحترام الشديد وهو صنيع أحفظه لمن قاموا على تربيتي، ولئن كان بين هؤلاء من يعوزه الإخلاص أو من قضى فيما سلف أياما في حالة من الضعف والادعاء فإن غايتهم في الحياة كانت على ما يبدو من سخفها في الواقع بالغة السمو؛ حتى إنه ليسرني أني تعلمت في طفولتي على غير وعي مني ما وصلوا إليه بأعمالهم من علو، لقد صنعوا ما تحدث عنه ماركس اورليوس حين قال: (ليس هناك أسمى من أن يتحمل المرء الازدراء من أجل أن يحيا حياة صالحة طيبة) أن الطموح الإنساني إلى المجد والعظمة أمر لا يمكن تجنبه وهو كذلك بالغ الضرر إذ أنه يفسد كل عمل حميد، فلا يسع المرء إلا العطف على أولئك الذين لا يقتصرون على بذل جهدهم لتجنب أن يحمدوا فحسب بل ويتعرضون فوق ذلك للاحتقار. . .
ومما كان يبهج نفس الصبي ويحبب إليه الحياة ما كانت تحتشد له الأسرة من مظاهر الفرح في أعيادها وعلى الأخص عيد الميلاد، فكانت تشيع البهجة في البيت كله فترى دلائلها في كل وجه وتحس روحها في كل ناحية، فرب الأسرة وسيداتها وأبناؤها وجميع من في القصر من خدم يتبادلون المحبة والمودة ويبدون سعداء في ثيابهم الجديدة ويستمتعون بما طاب من الطعام والشراب، حتى الفلاحين ينالهم حظ من هذا الفرح فتطيب نفوسهم وهذا ما ينشرح له صدر الصبي.
وكان خروجه إلى الغابة للصيد مع أبيه واخوته في العربات الجميلة أو على ظهور الخيل المسومة الفخمة يحيط بهم رهط من الأتباع وعدد من كلاب الصيد مما يملأ قلب الصبي سروراً وبهجة، وكثيراً ما كان يبهجه كذلك الخروج إلى الغابة لغير الصيد في صحبة العمة تاتيانا أو في صحبة جدته أو غيرهما من المربين فيرتع ويلعب ويقتطف ما شاء من الزهر، ويستمع إلى القصص حتى يعود إلى البيت وهو يطفر كما يطفر العصفور من فرط المرح. وفي ليالي الشتاء كان تحلق الأسرة حول الموقد والاستماع إلى الموسيقى أو القصص الممتعة، وتبادل العطف بين الكبار والصغار وبين بعضهم مع بعض مما يحبه الصبي ويأنس به ويحرص كل الحرص على شهوده. . .
وليس ثمة إلا حجرة الدراسة تخلو من البهجة ويلقي فيها من درسه عنتاً ورهقاً، على أن عطف معلمة عليه يخفف عنه، ورغبته في أن يرقي بنفسه ويكتسب من دواعي الفخر ما يباهي به اخوته يجعله يتكئ على نفسه ويصبر على مكاره الدرس.
وفيما عدا هذا كانت طفولته بهيجة محببة إلى نفسه ولن تجد وصفاً لهاتيك الأيام السعيد الحلوة أبلغ مما كتبه عنها بعد ذلك في أول كتاب له وهو كتابه (عهد الطفولة) قال (ما اسعد هاتيك الأيام الحلوة أيام الطفولة التي لا تنمحي ذكراها، وكيف ينسي امرؤ أن يحب ذكرياتها وأن ينعم بها؛ أن هذه الذكريات لتنعش روحي وتسمو بها، وهي المنبع لأعظم فيض من السرور يغمرني، وأي وقت هو خير من ذلك الوقت الذي لا يكون للحياة فيه من دوافع غير دافعين هما في الفضائل أجمل فضيلتين: اللهو البريء ورغبة النفس في الحب رغبة لا تحد).
(يتبع)
الخفيف