مجلة الرسالة/العدد 705/من مذكرات عمر ابن أبي ربيعة. . .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 705/من مذكرات عمر ابن أبي ربيعة. . .

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 01 - 1947



حديث غد. . .

للأستاذ محمود محمد شاكر

(قال عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة): خرجت في صفر من سنة أربعين أريد المدينة أزور فتياناً من أصحابي بها، وأتحسس الأخبار أخبار الفتن المشئومة التي توزعت قلوب المسلمين، وأنظر ما فعل بسر بن أبي أرطأة بمهاجر رسول الله ، فقد بلغنا أنه أحدث فيها أحداثاً عظاماً.

غادرت مكة يوم غادرتها وهي كالتنور المتوقد، فقد ذابت عليها الشمس، واحتدم وهجها وبقينا نتنفس بين أخشبيها لظى من فيح جهنم، حتى يحس المرء كأن الدم يفور فوراناً في عروقه، وقد خدر النهار من حوله فلا ريح ولا روح، فلكل نفس لذعة في الخياشيم والصدر تنشف الريق حتى يكاد اللسان ينشق من فرط جفافه، وحتى يكاد يظن أنه الجنون، ما أصبرنا يا أهل مكة على صياخيدها، وما أحبها إلينا على شدة ما نلقى من لأوائها! بوركت أرضاً وتعالى من حرمها وتقدست أسماؤه.

كان النهار حراً ماحقاً منعنا التأويب، فكان سيرنا كله إدلاجاً تحت غواشي الليل إلى أن يسفر الفجر وطرفاً من النهار. ولشد ما أعجبني الليل وراعني حتى تمنيت أيامئذٍ أن الدهر ليل كله، فقد كنت أسري تحت سماء زرقاء ملساء صافية كأن النجوم في حافلتها وعلى صفحتها در يتلألأ على نحر غانية وأنا تحت أنفاسها كالشارب الثمل. وكيف تفعل هذه البيداء بنا وبقلوبنا؟ قيظ يسلخ جلد الحية ويذيب دماغ الضب، لا يلبث أن تنفحنا بعده بنسيم هفافٍ كأن الليل يتنفس به ليخفف عنا بلاء نهارنا، ويفوح من برود الليل شذا الأقاحي فيفعم الفضاء كله أحياناً حتى يخيل إلي أن البادية المجدبة قد استحالت روضةً تنفث أزهارها الطيب من حيث استقبلت، فأجد لها روحاً على كبدي وراحة فأعب من أنفاسها عباً حتى أقول لقد سكرت من غير سكر. ثم ما أندى رويحة الفجر على قلوب السارين في هذه المهامة السحيقة المتقاذفة! فإن عبيرها وبردها والنور المشعشع على أرجائها يجعلك تحس حساً لا يكذب بأنك تحيي في لذاذات لا ينقضي منها أرب ولا يستحيل لها مذاق. ولقد حبب إلى الخروج إلى البادية كلما وجدت في نفسي طائفاً من سآمة أو ملل، فيا بعد الحاضرة وجوها الكامد الجاثم ليلا ونهاراً، وبين هذه الرحاب المتمادية التي يبثها النهار لواعجه وحرقه، ويأتي الليل فيناجيها نجوى خافتةً في ضميره العميق المشتمل على أسرار الحياة برها وفاجرها، وتقف النجوم على أرجاء سمائها مصغياتٍ مشرقات زاهرات كأنما يومض بعضها لبعض فرحاً بما سمعت من تلك الأسرار المصونة المكتمة.

كلما أوغلنا في البادية وفي قلب الليل ازددت فتنة بليالي الصحراء وتهامس رمالها وتناجي كواكبها، وأسمع لليل هسهسةً كأنها أحاديث قلوب عاشقة قد تدانى بها السرار، فتمضي الساعات والعيس ماضية بنا فلا نمل ولا نكل ولا نحس وحدة ولا مخافة، كأنا قد دخلنا الحرم الآمن الذي لا يراع اللائذ به. وجعلت نفسي تتجدد وتتطهر كأن برد الليل قد غسلها فما تشوب نقاءها شائبة.

وبعد ليال أفضت بنا المسالك إلى (الربذة) التي بها قبر أبي ذر الغفاري رضوان الله عليه، فلم يبق بيننا إلى المدينة سوى ثلاثة أميال، وأدركنا الفجر وإننا لعلى مشارفها، فقلنا نعوج بها فنصلي الفجر ثم نرتحل حتى نبلغ المدينة في نهار يومنا هذا. فلما أنخنا جمالنا وقمنا إلى الصلاة، سمعت صوت قارئ قد تأدى إلينا من بعيد، فتلمسته حتى تبينت صوتاً راعداً تقياً كأن الجبال والرمال والدنيا كلها تهتز على نبراته القوية العنيفة الصادقة، وكأنه في إهاب الليل المهلهل فيفريه فرياً ويمزقه بمدى من النور، وكأنه يسيل في البطحاء كالسيل المتقاذف فتموج فيه رمالها كأمثال الجبال نسفت من قرارتها، وكأن ألفاظه هبات عاصفة تفض دروع الليل فضاً، وكأن نغماته أنوار مشعشعة تخالط هذا كله فتملأ الفجر فجراً من نورها ونور ألفاظها ومعانيها. وأول ما تبينته حين دنوت منه بحيث أسمع قراءته: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله، ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم، منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون. لن يضروكم إلا أذى، وأن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون. ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس، وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة، ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء يغير حق، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون)، إلى آخر الآيات، فلما أخذ يكبر سمعت التكبير يملأ جنبات الأرض كلها متردداً ظاهراً كأن لم يبق في الدنيا شيء إلا كبر بتكبيره.

فرغ الرجل من صلاته ووضع عمامته وبقي حيث هو قليلاً ثم قام، فأضاءه لي ذرو من نور الفجر الناهد من قبل المشرق، فإذا رجل في السبعين من عمره وافر اللحية أبيضها، أسمر شديد السمرة طوال جسام فارع كأنه صعدة مستوية، أصلع الرأس شديد بريق العينين، نظر إلينا نظرةً وحيي ثم انفتل راجعاً إلى فسطاط مضروب قريب من حيث كان يصلي. . رأيته وهو يمشي كأنه قائد يحس كأن الجحافل من ورائه تمشي على أثره. وبعد قليل جاءنا رجل كأشد من رأيت من الناس نفاذ بصر؛ فحيانا وقال: من الناس؟ قلت: عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي. قال: ابن العدل؟ رحم الله أباك، فقد شهد معنا المشاهد بعد عام الفتح. قلت: فمن يكون الرجل الذي أوى إلى فسطاطه يرحمك الله؟ قال أو ما عرفته؟ إنه محمد بن مسلمة الأنصاري صاحب رسول الله وصاحب أبي بكر وعمر. قلت: فما جاء به، وقد سمعنا أن رسول الله نهى عن أن يرتد المرء أعرابياً بعد الهجرة، وأنه ذكر ثلاثاً من الكبائر منها (التعرب بعد الهجرة)، فيعود إلى البادية ويقيم مع الأعراب بعد أن كان مهاجراً. قال: صدقت يا بني، ولكن لذلك خبر:

كأن محمد بن مسلمة فيمن ثبت مع رسول الله يوم أحد، فأعطاه رسول الله سيفاً وقال له: (إنه ستكون فتنة وفرقة واختلاف، فإذا كان ذك فأت بسيفك أحداً فاضرب به عرضه حتى تقطعه، واكسر نبلك واقطع وترك، واجلس في بيتك حتى تأتيك منية قاضية أو يد خاطئة، فإن دخل عليك أحد إلى البيت فقم إلى المخدع، فإن دخل عليك المخدع فاجث على ركبتيك وقل: بؤ بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار، وذلك جزاء الظالمين). وقد فعل حين كانت هذه الفتن بين علي ومعاوية فكسر حد سيفه وقعد في بيته، وأطاع نبيه وعصى الشيطان الذي استزل هذه الناس التي يقتل بعضها بعضاً. ولقد قضى في مكانه هذا ثلاث سنوات يدعو ربه أن يصلح بين هاتين الفئتين من المسلمين التي جعلت تتفانى على دنيا فانيةٍ، وعسى ربك يستجيب لدعاء هذا الرجل الصالح فتحقن الدماء وتوصل الأرحام ويعز بهم دين الله في هذه الأرض.

(قال عمر): فسألت الرجل أن يستأذن لي على أبي عبد الرحمن محمد بن مسلمة فذهب ثم جاء يومئ إلي أن أقبل. فدخلت على أبي عبد الرحمن فسطاطه فإذا فيه سيف معلق على جانب منه، فلما سلمت رد التحية وقال: مرحباً بك يا ابن أخي! ما جاء بك؟ قلت: زائر إلى مدينة رسول الله يا أبتاه. فدعاني أن أجلس، فو الله لقد أخذتني للرجل هيبة ما وجدتها لأحد ممن لقيت من صحابة رسول الله، ولا من أمراء المسلمين، وكانت عيناه تبصان في سدفة الفسطاط كأنهما قنديلان يلوحان في ظلامٍ بعيدٍ. وجعلت أنظر يميناً وشمالاً فلا ألبث أن أثبت نظري على سيفه المعلق، فلما رأى العجب في عيني قال: لعلك تقول، لقد كسر سيفه وهذا السيف معلق بحيث أرى! ثم قام واستنزل السيف واخترطه فإذا هو سيف من خشب. ثم قال: لقد فعلت ما أمرني به رسول الله واتخذت هذا أرهب به الناس.

(قال عمر بعد حديث طويلٍ): قلت له: يا أبتاه والله لقد آنستني وأدنيتني وأطلقت لساني فلو سألتك! قال: سل ما بدا لك يا أبن أخي. قلت لقد حدثني عن قتلك كعب بن الأشرف إليهودي، وعن قتل يهود أخاك محموداً رضى الله عنه، فهلا حدثتني عن إجلائك يهود عن جزيرة العرب في زمان عمر؟ فقال:

رحم الله الرجل، فقد كأن شديداً في الحق حافظاً للعهد، ولكن يهود قوم غدر، أساءوا الجوار وخانوا العهد وتآمروا على المسلمين، فعزم عمر على أن يجليهم عن أرض العرب ليقطع غدرهم ويحسم مادة النفاق في هذه البقعة المباركة. فأرسل إلي وقال: (لقد عهد إليك رسول الله مرات أن تجلي يهود، فأنا أتبع سنته وأعهد إليك أن تجلي لي يهود عن أرض العرب، فلا تظلمهم ولا تؤذهم، ولكن لا تدع منهم صغيراً ولا كبيراً ولا طفلاً ولا امرأة حتى تستوثق من جلائهم بجموعهم عن أرضنا. ولئن عشت لأجلينهم عن كل مكان كبر فيه المسلمون لله، فإنهم أهل فسادٍ ونفاقٍ وخبث) فخرجت إلى طوائف اليهود في خيبر وسقتهم مستقبلاً بهم الشام، فلما بلغنا غايتنا أقبل علي رجل من ولد الحارث أبي زينب اليهودي ثم قال لي: لقد كنت مسترضعاً فينا يا أبا عبد الرحمن، وكنت أنت وابن الأشرف رضيعي لبانٍ، فما لبث أن جاء هذا الدين واتبعتم ذلك النبي حتى قتلت أخاك ورضيعك، وها أنت تخرجنا من ديارنا وأرض أجدادنا، وترمينا في ديار الغربة، فهلا كنت تركت كل ذلك لغيرك أيها الرجل! فقلت له: يا أخا يهود، لئن كنت قتلت رضيعي فقد قتل قومك أخي محمود بن مسلمة غدراً، وعرضتم لحرم رسول الله بالتشبيب والبذاءة والسفه، وأردتم أن تغدروا بنبي الله وتدلوا عليه صخرة لتقتلوه، أفتظن يا أخا يهود أنا تاركوكم تعيثون في الأرض فساداً، وتكفرون النعم، ولا ترعون حرمة ولا ذماماً ولا عهداً، وتتآمرون على المسلمين تحت الليل، وتعدون عليهم غارين آمنين؟ ووالله لقد صبر عليكم عمر صبراً طويلاً، ولو كان حز رقابكم جزاء بما تصنعون لقل ذلك لكم.

قال ابن الحارث: لشد ما تهتم علينا أيها الناس، فوالله ليكونن لهذا اليوم الذي إذللتمونا فيه وفضحتمونا وأجليتمونا عن أرضنا وأرض آبائنا يوم مثله يكون لنا عليكم، فقد جاء في كتبنا أنه سوف يجئ يوم تدخل فيه اليهود على أبناء يعرب هؤلاء فتذيقهم بأساً شديداً وعذاباً غليظاً، حتى ترى اللقمة في يد المسلم قد أدناها إلى فيه فإذا على رأسه رجال من أشداء يهود تنفره حتى يدعها لهم. ولتدخلن نساؤنا على نسائكم حتى لا تبقى امرأة منكم إلا نامت بشر ليلة مما تلقي من نسائنا، ولنسوقنكم كما سقتمونا حتى نجليكم عن ديار آبائكم وأجدادكم ولنفعلن الأفاعيل حتى تكون لنا الكلمة العليا ونحن يومئذ أحق بها. ووالله ما نصبر على ما آذيتمونا إلا انتظاراً لما يكون غداً كما قال أنبياؤنا. وكأني أنظر إلى غدٍ، فأرى وجوه الأحباب من بني إسرائيل قد سقطت عليكم من كل فج كأنهم جراد منتشر تأكل يابسكم وطريكم، ولا تدع لكم موطئ قدم إلا كان تحته مثل جمر النار. وإنكم لتقولون إن الله قد ضرب علينا الذلة والمسكنة، فو الله لئن صدقتم اليوم إذ أمر أمركم، لتعرفن غداً أننا شعب الله الذي لا يرضى له الله بالذلة والمسكنة، ولقد كنا ملوك الأرض فدالت دولتنا كما دالت من قبلها دول، ولكن الله بالغ أمره يوم تدولون كما دلنا ويعود الأمر إلينا، فنحن قوم أولو بأس شديد، ونحن أهل الكتاب الأول، ونحن أتباع الحق. فإذا جاء ذلك اليوم يا أبا عبد الرحمن فستعلمون أينا أشد باسا وأشد تنكيلا. فو الله لنتخذنكم لنا أعواناً على أنفسكم، ولنضربن غاديكم برائحكم ومقبلكم بمدبركم، ولنوقعن الفتنة بينكم حتى يصبح الرجل منكم مؤمنا ويمسي كافراً، وليكونن لنا من أنفسكم رجال يخربون بيوتهم وبيوت آبائهم وهم عنا راضون ولنا مطيعون!

قال محمد بن مسلمة: فسمعت الرجل يقول قولاً كبيراً، فقلت له: لئن صدق أنبياؤكم فكان ذلك، فما صدقوا إلا ليصدقوا رسول الله في خبره، فأنتم اليوم أشتات مبعثرون في جنبات الأرض، وليزيدنكم ربكم فرقةً وشتاتاً، فإذا جاء ذلك اليومفدخلتم علينا أرضنا وعلا أمركم في حيث يشاء الله منها، فلكي تتم فيكم كلمة الله وليعذبكم وليستأصل شأفتكم من أرضه، ولتكونوا عبرة للطاغين من أمثالكم، فقد قال الصادق المصدق رسول الله: (تقاتلكم يهود فتسلطون عليهم حتى يقول الحجر: يا مسلم! هذا يهودي ورائي فاقتله)، فو الله ليكون ذلك كما أراد الله، ويومئذ يعض طغاتكم وطواغيتكم أطراف البنان من الندم، فالعرب هي ما علمت يا أبن الحارث لا ينام ثائرها ولا يخطم أنفها بخطام.

(قال عمر) قلت: يا أبا عبد الرحمن! وأن ذلك لكائن؟ قال: يا بني، ما علمي بالغيب! ولكنه إذا جاء فليقضين الله بيننا قضاءه، ويكون يومئذ فناؤهم على أيدينا، فأمر المسلمين إلى ظهور، وأمر يهود إلى حكم الله الذي ضرب عليهم الذلة والمسكنة إلا بحبلٍ من الله وحبل من الناس. والله يحكم لا معقب لحكمه.

محمود محمد شاكر