مجلة الرسالة/العدد 705/لا بد للأرض من هداية السماء
مجلة الرسالة/العدد 705/لا بد للأرض من هداية السماء
للأستاذ محمد محمد المدني
الأستاذ بكلية الشريعة
للإنسانية أهداف ثلاثة إذا وصلت إليها وحققتها فقد وصلت إلى القمة، وحققت خلافة الله في الأرض كما أرادها الله. هذه الأهداف الثلاثة هي: الحق، والخير، والجمال. . وكل واحد منهما ضروري ما دمنا نريد السعادة الشاملة للجنس البشري، وننشد الكمال الذي به يكون الإنسان إنساناً.
ولقد مضى على الإنسان قرون وآماد كان فيها فريسة الجهل والوثنية، يعبد الشمس والقمر والنجوم، بل يعبد الأحجار والأشجار والحيوان، ولا يتمتع بلذة المعرفة وإدراك الحقائق، ولا تتصل روحه، ولا يسمو عقله إلى خالق هذا الكون العجيب، ولا يمتد تفكيره إلا إلى ما بين يديه كأنه واحد من هذه الحيوانات التي تعج بها الأرض لا يمتاز عنها كثيراً!
وكان الإنسان أيضاً فريسة هينة مستسلمة لعوامل الشر والفساد التي تتمثل في ضعفه وعجزه، وتتمثل في تسخير الأقوياء للضعفاء، وتتمثل في ظلم الرعاة والمملكين، وتتمثل في البهيمية الحمقاء التي لا تعرف حدوداً، ولا تهدف إلى غرض، وتتمثل في الانحلال والتخبط والارتجال في كل ناحية من نواحي الحياة!
وكان الإنسان محروماً من إدراك الجمال والتمتع بلذته: فالقانون قانون القوة كما هو الشأن بين وحوش الغاب، وليس للأخلاق موازين، ولا للفضائل مقاييس، ولا للشرف قيمة، ولا للحياة مثل تحتذى أو تراد.
وما لهذا خلق الإنسان، ولا بهذا استحق خلافة الله في الأرض، ولا لهذا أستحق بنو آدم التكريم على سائر ما خلق الله!
فلم يكن بد من (هداية السماء) تكفله وتهذبه وتقرب له السبيل، وترسم له الصراط المستقيم، وتخرجه من الظلمات إلى النور، وبذلك كانت الرسالات الإلهية التي تطورت وتركزت وانتهت إلى رسالة محمد ﷺ، وختمت بها كآخر قانون سماوي ضمن له الحفظ والبقاء، وألا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لا لمجرد أن ذلك هو ما قضت به الإرادة الإلهية، ولكن لأنه القانون الذي أتى وفقاً للطبيعة، وزود من المبادئ بما يجع صالحاً لكل زمان ومكان، وبما يجعله قابلاً لكل خير وصلاح تجود به العقول إلى أن يرث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين!
ترى ماذا كان يتطور إليه الإنسان لو لم يمد بهداية السماء؟ لا شك أنه كان سيعرف بعض صور الواقع الصحيح، وبعض نواحي الخير، ويدرك بعض أسرار الجمال، ولكن إلى أي حد؟ وبعدكم من القرون والدهور؟ أعتقد أن (الهداية الإلهية) قد عجلت على الأقل إلى حد بعيد، وبعيد جداً، بتهذيب الإنسان وتطويره، وأن المبادئ التي اشتملت عليها الشرائع عامة كانت بمثابة بذور غرست فانبتت وما زالت تنبت وتؤثر في الغذاء الفكري للإنسان تأثيراً عميقاً، سواء أحس الإنسان بذلك أم لم يحس، نعم قد يظن الإنسان أنه وصل إلى ما وصل إليه من الرقي بعقله وأنه لو لم تكن الأديان لكان العقل ديناً وهادياً - وقد قال بذلك فعلاً بعض فرق المسلمين - ولكن ما هي مقاييس العقل وهل كان العقل - إذا لم يلقح بهذه اللقاحات السماوية - يمضي قدماً في الطريق المستقيم لا يضل ولا يشقى؟ إني لفي شك من ذلك وينبغي أن يكون ذلك موضع شك، فنحن نرى الأمم البدائية أو المنعزلة تقيم القرون والدهور في عزلتها، وهي على ما هي عليه في أفكارها وعاداتها وتقاليدها ونظرها إلى الأشياء وإدراكها للمعاني دون أن تتطور، ودون أن تتحرك، ودون أن تنبت فيها نابتة من عقل أو أثارة من علم، إلا إذا جاءها ذلك من خارجها، كأن يتصل بها قوم آخرون، أو يرحل عنها بعض أبنائها ثم يعود إليها، أو نحو ذلك. ويومئذ تبدأ في تفكير جديد، وتنظر إلى ما هي فيه، فتعرضه على العقل وتناقشه، وتختلف فيه خلافاً شديداً، وينتهي أمرها بأن تأخذ منه وتدع وتعدل فيه وتقوم، فربما تطورت وتطور التفكير العقلي فيها، وتطورت أساليب حياتها على نحو جديد، وما ذلك إلا لأن اللقاح فعل فعله، وأثر آثاره، وإن لم يدرك الإنسان في أثناء هذا التفاعل أنه حاصل واقع ماض في سبيله موف على غايته!
بهذا نستطيع أن نقيس حالة البشرية عامة لو لم تمد الأرض بهداية السماء. إنها تكون في غيابة من الجهل وضلال من التخبط وتظل فيهما، وأن تلونا بألوان متعددة، الحقب الطوال، والأزمان المترامية والدهور المتعاقبة، وهبنا سلمنا أنها تتحرر من هذا الجهل شيئاً بعد شيء عن طريق الصدفة، أو التفكير العقلي فإن ذلك يحتاج - والفرض أنه لا مدد من الهداية والنور - إلى أحقاب وربما انقضى عمر الإنسان على هذه الأرض دون أن يصل إلى الغاية الحميدة التي أرادها الله له!
وأحب أن نلتفت في هذا المعنى إلى آية كريمة في كتاب الله تقول (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكورا إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيرا، إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفورا).
فهذه الآية تشير إلى الحقب المتطاولة التي مرت بالإنسان وهو في طور الخمول وغمرة الجهالة حتى جاز أن يوصف بهذا الوصف البليغ، فينفي عنه أنه شيء في هذا الوجود يستحق الذكر!
والإنسان هو عماد هذه الأرض، وهو خليفة الله فيها، وهو أكرم من فيها على الله، فإذا وصف من هذا شأنه بأنه لم يكن شيئاً مذكورا، فلا بد أن يكون هذا الوصف تعبيراً عن حالة من الخمول والضعف والتفاهة - لا أقول وصلت به إلى مرتبة الحيوان فإن الحيوان على كل حال شيء مذكور - ولكن أقول: إنه كأن أسوأ حالاً من الحيوان وأبعد وأوغل في الضلال والتسخير!
ثم تذكر الآية بعد ذلك خلق الإنسان وأصله، والغاية من هذا الخلق، وما ركب فيه من استعداد فطري له أدوات ظاهرة من الحواس كالسمع والبصر - سواء أكان المراد بهما هاتان الحاستان الماديتان أم كان مراداً بهما الاستعداد الفطري للتقبلوالفهم والإدراك عامة - وتردف الآية ذلك بنعمة الله عليه في الهداية إلى السبيل، والإرشاد إلى الحق وإلى الطريق المستقيم، وبذر بذور المعرفة والعلم في محيطه، ينتفع بها من ينتفع، ويزور عنها من يزور، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة (إما شاكراً وإما كفورا) ذلك بأنه لا يوصف بالشكر ولا بالكفران إلا من علم.
وكأني بالآية الكريمة حيث ذكرت هذه المعاني الثلاثة في طراد واحد - فلفتت إلى حالة الإنسان في طور جهالته وضؤولته ثم أتبعتها بخلقه واستعداده الذي هيأه الله عليه، ثم ذكرت بعد ذلك الهداية والإرشاد - كأني بها وقد ذكرت ذلك على هذا النحو؛ تلمع إلى أن اعتماد الإنسان على هداية الله وإرشاده ليس بأقل من اعتماده عليه في خلقه، وفي استمداده الوجود منه، فكما لا يوجد الإنسان بدون موجد، ولا يخلق إلا من الخالق؛ كذلك لا يهتدي بدون هاد، ولا يرشد بدون مرشد، ولا يتعلم بدون معلم! من هنا يجب أن يعترف الإنسان وأن يكون خاشعاً في هذا الاعتراف، بالهداية الإلهية، كما هو خاضع خاشع في اعترافه بالخلق والتكوين ويجب ألا يغره عقله، ولا تسول له علومه ومعارفه أمرا مهما بلغ منها، فيتردد في الاعتراف أنه محدود، وبأنه محتاج، وبأنه موضع فضل إلهي، وفيض ربأني، بهما قوامه وبهما عقله، وبهما سموه عن كل ما خلق الله في هذا الوجود، ولولاهما ما كان، ولولاهما ما صار شيئاً مذكورا!!
وناحية أخرى تتصل بهذا البحث: ذلك بأن العقول تتفاوت وتتضارب، ويرى بعضها الشيء حسنا بينما يراه الآخر قبيحاً، وهذه قضية يثبتها الواقع، ولا يجادل فيها متصل بالحياة! وإنما كان ذلك لاختلاف أسباب العلم واختلاف وسائل العلم، واختلاف الأمزجة والأهواء والبيئات، واختلاف العصبيات والجنسيات، وميل الإنسان بطبيعته إلى الاعتزاز بنفسه، والاعتداد برأيه، وتنفيذ فكرته، وفرضها على سواه فرضاً لا يخضع للمنطق ولا للعقل، ولكن يعتمد على السلطان والنفوذ والقوة الذاتية، فإذا ترك الناس يشرعون لأنفسهم، ويضعون المثل لتفكيرهم وثقافتهم ومعاملاتهم وأخلاقهم فإنهم لا شك متأثرون بما أوضحنا من عوامل الشهوة والمزاج والبيئة والسلطان، ولا يستطيعون أن يتحرروا منها مهما بلغوا من العلم والحضارة، لأنها طبيعية تتغلب كل ما سواها، وإن استترت فإنما تستتر في الظاهر، وهي تعمل عملها في الخفاء ملحة مثابرة لا يثنيها شيء من الأشياء.
ومن هنا رأينا الأمم الحديثة يعتنق كل منها فكرة ويجعلها مذهباً له في الحياة، ويحاول حمل الناس عليها تارة بالقوة، وتارة بالدعاية. فهذه نازية، وهذه فاشية، وهذه اشتراكية، وهذه شيوعية، وهذه ديمقراطية وهكذا. وكل هذه أوضاع إنسانية متأثرة بما يتأثر به الإنسان عادة. وليس أصحابها وواضعوها من الملائكة المقربين، ولا من القديسين المنزهين عن الأغراض والنزعات، ولذلك اختلفت، وتعاركوا عليها؛ واحتاجوا إلى القوة في حمايتها، فلما تخلت القوة عن بعضها انهار وأصبح في عداد الذكريات التاريخية، ولو كأن حقاً وخيراً لبقي وصار الجميع إليه متفاهمين (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض).
أين هذه النظم من نظام الإله السميع العليم، المنزه عمن الأغراض والأخطاء، الذي ينظر إلى عباده جميعاً نظرة العدل والرحمة والمساواة؟ أما بعد!
فقد وضح أن العقل وحده غير كاف - حتى في عهود الحضارة والرقي الفكري - للأخذ بيد الإنسانية وتحقيق أهدافها من الحق والخير والجمال، وأنه لا بد من الهداية الإلهية لتوسيع آفاق هذا العقل، ولكفالة استقامته، وضبط تفكيره والحد من طغيانه!
بذلك، وبذلك وحده، يصل الإنسان في هذه الحياة، إلى الغاية التي أرادها الله.
محمد محمد المدني
المدرس بكلية الشريعة