مجلة الرسالة/العدد 702/ضيزناباذ
مجلة الرسالة/العدد 702/ضِيزَنَابَاذ
للأستاذ شكري محمود أحمد
موقعها:
أجمعت المصادر القديمة على أن هذه المدينة (موضع بين الكوفة والقادسية، على حافة الطريق على جادة الحج، وبينها وبين القادسية ميل) كما ذكر ياقوت في معجمه.
والذي يظهر لنا أن صاحب معجم البلدان نقل هذا الكلام عن كتاب الديارات لأبي الحسن علي بن محمد الشابستي حيث قال في الكلام على دير سرجس (وهذا الدير كان بطيزناباذ وهو بين الكوفة والقادسية على ساقه الطريق، وبينها وبين القادسية ميل).، وقد نقل هذا الخبر ابن فضل الله العمري في كتابه (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار).
تقع آثار هذه المدينة اليوم في الشمال الغربي من قضاء أبي صخير في لواء الديوانية، وبينهما تسعة أكيال، ولا تزال أطلالها ماثلة للعيان يتراوح ارتفاعها بين 15، 20 متراً، وعلى جانب هذه الأطلال آثار أبنية قديمة العهد تشبه أحجارها أحجار الخورنق. وتمتد هذه الأطلال على مسافة كيلين تبتدئ في موضع يسمى اليوم (المصعاد) وتنتهي إلى ما يقرب من قصر الخورنق.
ولا تعرف اليوم هذه المدينة (طيزناباذ) باسمها المشهور، وإنما يطلق عليها الأعراب وسكان تلك المناطق اسم (طُعَيرزات) لأنهم استثقلوا هذا السم الأعجمي في وزنه وتركيبه فاستبدلوه بما هو أخف منه على اللسان.
ضبط هذا الاسم:
ضبط ياقوت هذا الاسم بالحرف فقال: طيزناباذ بكسر أوله وسكون ثانيه ثم زاي مفتوحة ثم نون وبعد الفاء باء موحدة وآخره ذال معجمة، وشكلها ابم خرداذبة والطبري بفتح الطاء وسكون الياء.
وقد صحفت هذه اللفظة كثيراً غيرها من الألفاظ العجمية فقال بعضهم طيزناباذ وقال غيره طرناباد، أما الأستاذ محمد سعيد العريان مصحح كتاب العقد الفريد فقد ضبطه (طيرتاناذ) وذلك عند الكلام على ضروب العروض شعراً، حيث وردت هذه اللفظة في بيت من أربعة أبيات في كل بيت منها تصحيف مشين.
معناها:
هذه الكلمة أعجمية في معناها وتركيبها فهي مكونة من (ضيزن) و (أباذ)، والضيزن ملك الحضر. قال ياقوت: (وسبب تسميته بهذا السم (طيزناباذ) أنه من عمارة الضيزن والدة النضيرة بنت الضيزن وملك الحضر، وأن الفرس ليس في كلامهم الضاد فتكلموا بها بالطاء فغلبت عليها ومعناها (عمارة الضيزن) لأن أباذ العمارة).
وعلى هذا الرأي أيضاً البلاذري حيث ذكر: كانت طيزناباذ تي ضيزناباذ نسبة إلى ضيزن بن معاوية بن عمرو بن العبيد السليحي، وعلى هذا الرأي أيضاً الكلبي.
ولما غلب الفرس على هذه المواضع غلبت لغتهم على هذه الأرجاء، فاستبدلوا الذاد بالطاء لخلو لغتهم منها، فاشتهرت باسمها الأخير (طيزناباذ).
تاريخها:
كانت طيزناباذ عاصمة الحضر، وكان ملكها (ضيزن بن معاوية) معاصراً لسابور ذي الأكتاف ملك الفرس، وكانت بين الضيزن والروم علاقة صداقة وحلف، فتقدم سابور ليخضع هذا الذي تحالف مع أعدائه، وترك رجاله يغيرون على العراق والسواد.
فلما نزل سابور الحضر تحصن ضيزن بالحصن وأقام فيه مدة طويلة، فحاصره سابور شهراً لا يجد سبيلاً إلى اقتحام الحصن، ولا حياة لدخوله.
تقول الروايات والقصص أن النضيرة بنت الضيزن نظرت في أحد الأيام وقد أشرفت على الحضر إلى سابور فهويته وأعجبها جماله، وكان سابور من أجمل الناس شكلاً. وأمدهم قامة، وأرشقهم جسماً، فبعثت إليه إن ضمن لها الزواج منه هدته إلى فتح الحصن، فضمن لها ذلك، فأرسلت إليه أن يذهب إلى نهر الثرثار - وو نهر من أعلى الحصن - فيرمى فيه التبن ثم ينظر أين يدخل التبن فيدخل من ذلك المدخل، لأن ذلك المكان يفضي إلى الحصن ففعل.
ولم يشعر أهل الحصن إلا وجنود سابور معهم في حصنهم، يمعنون فيهم قتلاً وأسراً. ثم عمدت النضيرة إلى أبيها فسقته الخمر حتى أسكرته طمعها منها في زواجها من سابور، ولكن سابور عندما أحتل الحصن قتل أباها، وأمر بهدم الحصن.
هذه هي قصة هدم حصن أبي الضيزن، وقد أكثرت كتب الأدب والسير من ذكر الضيزن وحصنه، وخيانة ابنته له، وزوال ملكه، وضربت بذلك الأمثال.
كل ذلك كان بين 236 وسنة 328 بعد الميلاد.
ما قيل فيها:
هي من المواضع التي ذكرت بالجمال والتهتك وشرب الخمر لأنها كانت محفوفة بالكروم والشجر والحانات والمعاصر، وكانت أحد المواضع المقصودة للهو والبطالة، وقد وصفها بهذا الوصف ياقوت والشابشتي والعمري، وغيرهم من المؤرخين الذين ذكروها، ولهذا السبب جعلها الفرس مصيفاً لهم، يصطاف بها أمراؤهم وسراتهم.
وقد بقيت هذه المدينة عامرة جليلة القدر، يؤمها الخلفاء والفتاك، من أهل المجون والبطالات حتى الفتح الإسلامي حين بدأ الخراب يدب فيها. ففي معركة القادسية جعلها رستم قائد الفرس مباءة لجيشه، قال البلاذري في كتابه فتوح البلدان (وقد رستم ذو الأكتاف فكان معسكراً بطيزناباذ).
وسقطت هذه المدينة بأيدي المسلمين في جملة ما سقط من المدن سنة 15هـ 536م فدب غليها الخراب ولكن استعادت بعض مجدها في عهد المسلمين حيث اقتطعت للأشعث بن قيس الكندي فعمرت بعد الخراب، وازدهرت بعد الاضمحلال، وصار للأشعث بن قيس فيها قصر فخم في عهد الأمويين، وكان هذا القصر يعتبر من القصور المشهورة، والمواقع المذكورة.
ثم سما شأنها في عهد العباسيين حيث صارت من أنزه المواضع وأجملها يقصدها الشعراء ويؤمها الفتاك، وقد ذكر ياقوت فيها (لأهل الخلاعة فيها أخبار يطول ذكرها) وقد قال فيها أبو نواس:
قالت تنسك بعد الحج قلت لهم: ... أرجو الإله وأخشى طيزناباذا
أخشى قضيب كروم أن ينازعني ... رأس الخطام إذا أسرعن إغذاذا
فأن سلمت وما نفسي على ثقة=من السلامة لم أسلم ببغذاذا
ما بعد الرشد ممن قد تضمنه ... قُطْرُّ بلٌ قفريُ بنّا فكلواذا وذكرها أبو نواس في مواطن أخرى مثل قوله:
فتلتني ضيزناباذ ... وقد كنت تقيا
إذ تركت الماء فيها ... وشربت الخرويا
أرض كرم تنبت الدهر ... شراباً سابريا
ثم هي أجمل من بغداد وقصفها ولهوها، بل هي أجمل من أي موضع في العراق لأن أبا نواس قال فيها:
وقائل هل تريد الحج قلت له: ... نعم إذا فنيت لذات بغداد
أمّا وقطربل مني بحيث أرى ... فقنة الفِرْك من أكناف كلواذي
فالصالحية فالكرخ التي جمعت ... شذاذ بغداد ما هم لي بشذاذ
فكيف بالحج لي ما دمت منغمساً ... في بيت قوادة أو بيت نباذ
وهبك من قصف بغداد تخلصني ... كيف التخلص لي من طيزناباذ
جاء في ياقوت: قال علي بن يحيى حدثني محمد بن عبيد الكاتب قال قدمت من مكة فلما صرت إلى ضيزناباذ ذكرت قول أبي نواس حيث قال:
بطيزناباذ كرم ما مررت به ... إلا تعجبت ممن يشرب الماء
إن الشراب إذا ما كان من عنب ... داء وأي لبيب يشرب الداء
فهتف بي هاتف أسمع صوته ولا أراه فقال:
وفي الجحيم حميم ما تجرعه ... خلق فأبقى له في الجو أمعاء
أقول أخطأ أقوت في ترتيب هذه الأبيات إذ أن لمعنى مضطرب جداً في البيتين الأوليين، ولأجل أن يستقيم المعنى يجب أن يكون هذا البيت (إن الشراب إذا ما كان. . .) قبل هذا البيت (وفي الجحيم حميم ما تجرعه).
وقد ذكر هذا الموضع الحسين بن الضحاك في قصيدة مطلعها:
أخوىّ، هُبّا للصبوح صباحاً! ... هُبّاً ولا تعد النديم رواحا
ثم ذكر الدير في طيزناباذ وأسمه دير سرجس فقال:
هل تعذران بدير سرجس صاحباً ... بالصحو، أو تريان ذاك جناحا
هذه هي أخبار طيزناباذ، وقد اعتمدنا في هذا على المصادر الآتية: ياقوت: ج6 ص 69، ج6 397، ج4 ص 145. مراصد الاطلاع مادة (طيزناباذ).
الطبري ج1، 2264، 2855، ج 30، 718 الطبعة الإفرنجية.
ابن خرداذبة ص 71 الطبعة الإفرنجية.
لغة العرب: السنة الثانية.
ابن الفقيه: ص 183 الطبعة الإفرنجية.
البلاذري: ص255، 274، 284 الطبعة الإفرنجية.
العمري: 284 دار الكتب.
ديوان أبي نواس: 1898 طبعة إسكندر آصاف ص 272، 354.
الشابستي: مخطوط في مكتبتنا ص 102، 103.
بغداد
شكري محمود أحمد
مدرس اللغة العربية بدار المعلمين الابتدائية